الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 6th December,2004 العدد : 86

الأثنين 24 ,شوال 1425

جمر الغضا
إبراهيم الناصر الحميدان*
كنا نتحلق لابدين في حوافي الجحور المثقلة بتراكمات الصخور، ومن خلال الأغصان الوارفة في صقيع ليالينا الشتائية المبتسمة حول ذلك الوعاء ذي الطراز الأثري لمجمع الوقود، فندعوه (بالوجار) وأحيانا (منقل) وعيونه تقدح بالشرر من بقايا حطب الغضا الذي يتحول على مهل الى ذرات من الرماد حتى تلفظ حرارته أنفاسها بالتدريج.
نتحلق متحاذين بالتصاق الأجساد سعياً وراء بقايا سعير الحطب الذي يخفت لذعةً باتجاه التلاشي رويدا، وكأنه لم يكن شجرة خضراء باسقة وهي تنتصب في وسط الحقل بشموخ وغطرسة، يداعبها النسيم الرقيق ويغسلها المطر في كل ربيع مثل أم تحنو على صغارها بالرعاية الدائبة، فإذا بذلك المشهد المبهج الذي غيبته الليالي المتسارعة يتحول الى مجرد دخان يلفح الصدور حتى يستمطر اللعنة عندما يلوث الهواء ويبدد نقاءه وصفاءه.
نتلمس الدفء ونحن نلوذ في ذلك المخبأ محتمين خلف الصخور الحادة الأضلاع من تيار يتسلل خفية بلذعة جافة من بين وشيش خافت في فضاء المكان، يكسر حدة الجمرات اللاهبة بغية ابتلاع وهجها.. وقد هربنا من منازلنا المسكونة بالصمت لنلوذ بهذا الصخب المتطاول، نمد أيدينا بعفوية بين الحين والآخر لتسوية أكوام عيدان الحطب التي كانت باسقة ذات يوم متعلقة بجسم خشبي ضخم يتمدد في كافة الاتجاهات يرشح برطوبة الهواء التي يفرزها مثل بخار ماء متجمد يطيش متدثرا بطيفه الضبابي لا تشاهده سوى الطيور التي تحلق ليست بعيدا حتى يتسنى لها رؤية أعشاشها المدمجة بالحيوية، وقد اصطخبت بالعصافير الصغيرة التي تزقزق جائعة بانتظار أمهاتها حتى تلقمها ما يسكت تلاطم أمعائها الخاوية.. ترتعش بتلك المناقير الرقيقة الناعمة ثم تشتبك باقتحام ضارٍ وكأنما هي في حمى معركة لا سبيل الى ايقافها ما بين قفز الأطراف الصغيرة وانتفاضة الاجنحة التي تحوي الكثير من الزغب الذي مازال هشا وناعما مثل الحرير، فينتثر فوق تلك الأجساد الرخوة وهي تتدافع باستماتة.
الشتاء من حولنا يتلاعب بالرياح بين صاخبة وهادئة، ومن فوقها غيوم تزهو بأرديتها التي تستبدل بألوان قزحية داكنة وغامقة.. ومن غير النادر ان تتعصر عرقا يهبط متماسكا؛ لأن الرياح المزمجرة تذروه باحتقار لارتعاشته الباهتة العديمة الجدوى لكون
الأرض شاحبة عجفاء تكسوها تلك الأحجار الداكنة باطرافها المدببة التي تحاكي السكاكين حتى تدمي أقدام الماشية الجائعة التي تغرز أفواهها بين تلك التكوينات المنتصبة بعدائية، فلا تظفر سوى بالقليل من الزاد الذي لا يقيها الجوع الناشب في جوفها الخاوي.. أرض نجد قلما ترتوي وديانها منذ أقدم العصور حتى أصبحت طريدة الجفاف والقحط.
اجدادنا رغم ما عرف عن صبرهم واحتمالهم للتقلبات والجوع تنادوا الى ركوب الطرق الخطرة الموحشة التي لا تعرف الامان لانها مبثوثة بالمجرمين الذين يفاخرون بشجاعتهم في قتل عابري السبيل ونهب ما يحملونه من متاع قليل، ولهذا فالناجون من تلك المخاطر لاذوا بالبلدان التي استطاعوا بلوغها بشق الانفس عن طريق الصحراء
المخيفة، وعاشوا فيها كغرباء مهاجرين متدثرين بعاداتهم لا يرضون عنها بديلا، وكأنما هي جزء من تكوينهم المتعصب لكل قديم بائد والوجل الخائف من كل جديد. وكنا نهاب امرا آخر يضاف الى مخاوفنا من كل شيء بأن تمتد سطوة الظلم الذي تمارسه الأيدي الظالمة، وقد جاءت في خارج الوطن، على أشجارنا الخضراء مع ان كبار السن كانوا كلما تتالت المحن وجمعت أوصال تلك الأشجار الباسقة يرفعون أيديهم بالدعاء على هذه الأيدي التي مسخت الحقول وقضمت الخير عنها فتيبست متضرعة الى المؤمنين بأن يرفعوا صلاة الاستسقاء علَّ الرب ان يستجيب لضراعتهم فيمنحهم القليل من دموع السماء بالهتان الشحيح. النار التي تجالد هجوم الرماد باستماتة تعلم بأنه يتوغل في أوصال تلك الجذوة الفحمية التي يصيبها الإغفاء فتذرف ذلك المسحوق الرمادي الداكن، يتشوف الى نسمات الرياح حتى تدفعه الى متنها وترتفع به تدريجيا الى الأفق عساه يتبعثر من الفرح ويندفع الى الأعالي الشماء لا يملك سوى ان يستسلم لهذا الوابل من العطور حتى وان كان تلوثا. الأراضي الخضراء التي تجالد السقم والجفاف تخشى من عاديات الرياح البعيدة.. تلك التي تقذف لها بتلك المخلوقات الرخوة التي تنتعش بعد ان تلتصق بالاشجار وتأخذ في امتصاص رحيقها حتى الجذور.. بتلك المخلوقات الرخوة عدوة الخضرة والتي تجرد الأشجار من ثمرها وخيراتها، فسموها جرادا، والمصيبة انها تتولد بسرعة حتى تجعل ما خلفته يتناثر متكاثرا مثل الرمال فأطلقوا عليها لقب الدبى. هذا المخلوق الاجرد اذا ما لامس أي ثمر امتصه حتى يجعله ماحقا، ولهذا ونحن نتحلق حول نارنا الربيعية ننظر الى السفوح والرياح نخشى ان تأتينا بتلك المخلوقات الرخوة فتنهب زرعنا الذي ننتظر ان نتطارح حوله قصائدنا واشعارنا البهيجة، بينما الأرض وقد اتخذت زينتها في تشكيلات الألوان الزهرية تمثل كل النشوة في حياتنا الجرداء، وقد تدثرت بالفراغ الذي حرمنا من الحب العميق، فاصبحنا مجرد مخلوقات تمارس طقوس الاجداد وتلوك افكارهم بدون اقتناع؛ لأن جيلنا يوشك ان يتمرد على هذه الحياة الجافة عديمة الجدوى، والوعي هو وسيلتنا لرفس الاسترخاء والانقضاض على بقايا الماضي البليد.


* ص. ب 6324 الرياض 11442

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved