الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 07th February,2005 العدد : 92

الأثنين 28 ,ذو الحجة 1425

وقفة مع أبي تمام
كان طائي النسب، شاميَّ المولد، مصري المنشأ والدراسة.. في مصر تفتحت ذهنيته وتوقَّدت ذاكرته وشاعريته، وحول مرابعها وأفيائها الفسيح عبَّ من الشعر والشعور حتى ارتوى وجادت منه بالقلائد الحسان.. سُئل عنه تلميذه البحتري فحدَّد مذهبه قبل أن يكون للشعر مذاهب محددة قال عنه وأوجز بأنه:«مدَّاحة نوّاحة» هكذا هو في طابعه الشعري المميز: يُطرب إذا مدح، ويُبكي إذا رثى.. وفي كليهما تمتد به الأنفاس وتجتذب كلماته المسامع والأعماق.. وقيل عنه بغير مبالغة ولا تثريب: إن شعره لازم الأفواه والمقل حتى سار مسير الأمثال وجرى على ألسنة العامة والخاصة تسترجعه وتتغنى به.. ومع أن أبا تمام ودّع الدنيا وهو لا يزال شاباً طري الروح والجسد لم يبلغ الأربعين من العمر إلا أنه ملأ الآفاق خلالها أدباً وحكمة وفناً جميلا خلده الزمن ووعته الذواكر وتجاوز حدود الفناء والعدم.. وقد أحلّه ذلك المحل في رحاب الأدب والشعر مَلَكة جيدة وذاكرة وقَّادة تستوعب ما يمر بها وتستبقيه ثم تختار منه ما ترتضيه.
قال عنه «الحسن بن رجاء»:«ما رأيت أحداً قط أعلم بجيد الشعر من أبي تمام». ومما يستشهد على قوة ذاكرته وفطنتها ما حكاه البحتري عن نفسه: بأنه أنشد أحد ممدوحيه قصيدته التي مطلعها:
«أأفاق صيتٌ من هوى فأفُيقا
أم خان عهداً أم أطاع شفيقا
إن السُّلوَّ كما تقول لراحة
لو أن قلبي للسُّلوّ مطيقا»
وكان في المحفل أبوتمام وهما إذ ذاك لم يتعارفا بعد فأنصت الحضور بإصغاء وطرب لانشاده، ولما فرغ البحتري من القائها وهي طويلة ومثيرة قال له «أبوتمام» وهو لا يعرفه: ألم يكن لك مندوحة عن هذه القصيدة تنتحلها مني وتنشدها بحضوري؟ وتلا عليه النص كاملاً سليماً لا تردد فيه ولا اختلاط، فدهش البحتري وفزع الى الخارج حزيناً مذهول الفكر والخواطر؛ فلما أبصر أبوتمام منه ذلك الفزع الأليم أرسل في طلبه يسترده فلما عاد وأخذ مستقره بجانبه: ضحك أبوتمام ضحكة طويلة وهمس في أذنه بأنها قصيدتك وحدك وإنما هي فعلة فَعَلَتْها ذاكرتي في تلقفها وحفظها الناجز للشعر الجيد حتى كأنه ولدها..
ومن براعته الشعرية كما يروى عنه أنه وقف ذات يوم مادحاً «أحمد بن المعتصم» في جمع من قومه بقصيدته المشهورة:
«ما في وقوفك ساعة من باس
نقضي ذِمامَ الأربعُ الأدراس»
إلى أن بلغ منها قوله:
«أبليت هذا المجد أبعد غايةٍ
فيه وأكرم شيمةٍ ونحاس
إقدامُ عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس»
فأومأ أحد النقاد الحاضرين ونادى قائلاً:«الأمير فوق من وصفت». فأطرق أبوتمام قليلاً ثم واصل إنشاده على البديهة معللاً ما وصف وملجماً ذلك المعترض؛ قائلاً:
«لا تنكر واضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراسِ»
ولما أكمل إنشاده سارع بعض الحضور لحيازتها فلم يجدوا بين أبياتها هذين البيتين..!!
ولقد هانت حياة الأمير أبي دلف عليه أمام شعر أبي تمام حتى لقد ودّ أن تكون مرثية أبي تمام الرائية فيه ولو عدم حياته، وذلك لبلاغتها وشهرتها وقال:«إنه لم يمت من رُثى بهذا الشعر..» ومطلعها:
«كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمرُ
فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ»
وهكذا يمضي أبوتمام عفا الله عنه في آفاقه الشعرية الواسعة يستزيد النواظر، ويستدر الدموع لتقف معه وتستوقفه، ثم تعود الى نفسها بعد رحلة هانئة من إمتاع العقل والحس والإدراك.

عبدالله ابراهيم الجلهم

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved