الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 7th April,2003 العدد : 6

الأثنين 5 ,صفر 1424

ذاكرة القبور
قراءة في رواية «الحفائر تتنفس» (2-2)

* حسين المناصرة:
«وحشة حوش سراج الأعرج تتدانى إلى رأسي فأبتعد عنها هارباً وكأنني أقفز فوق صفيح ملتهب. تتولد فيَّ رهبة الخوف، وأتذكر أشياء كثيرة أرتجف منها. لم أطمئن إلى رغبة العودة إلى الغرفة، فقد تذكرت سقوط سراج الأعراج وأشياء كثيرة جعلتني أخاف.. وجعلتني أتذكر الموت المتربص في الداخل» (الحفائر تتنفس، ص66)
تقدم الرواية سيرة بطلها «محمود مسعود تكنيري» منذ أن كان في ظهر أبيه إلى أن بلغ الخمسين، فاقترب كثيراً من حالة الجنون، وهي سيرة مليئة بالرعب.. سيرة تمتلئ باختلاط الوهمي بالواقعي، رغم أن صاحبها غدا معلم مدرسة!! إنها كما تبدو سيرة غامضة محفوفة بالأسرار، والبداية كما يبدو أنه ابن غير شرعي.. حيث تكتنف وجوده المأساوي من خلال العلاقة بين أبيه وأمه أسرار كثيرة، تبقى غامضة رغم اكتمال الرواية، لكنها موحية بطريقة واضحة لعدم شرعية هذا الابن..
كان «مسعود تكنيري» راغباً في أن يقتل زوجته بنت النجار مراراً بعد أن حملت طفلا في أحشائها، لكنه كان يضعف تحت سطوة جسدها، ثم ماتت في اللحظة التي أنجبت هذا الطفل (محمود)، ففوتت عليه فرصة الانتقام منها، بل إنها نفسها جعلها الله انتقاماً من ذنوب مسعود تكنيري.
كان يسن السكين كل ليلة ليقتلها ويرمم كبرياءه الذي انهار وتحطم، لكنه لم يستطع أن يفعل يقول لابنه واصفاً حاله هذه: «لقد ماتت من غير أن أعمل أي شيء.. سوف تطاردني لعنتها أينما كنت، لم، أكن أقدر على عمل شيء وهي حية(...) لقد كانت أمك ذنوبي التي أراها تتحرك أمامي كثعبان يتلاعب على الأرض فيزحف عليها»(ص126 127).
عاش الطفل محمود في حضن أمه سعدية التي تبنته فكانت هذه الأم الوردة الوحيدة المشرقة في طفولته، حيث حولت المكان الغرفة بصوتها ونظراتها وعملها إلى «حديقة مزهرة»، لكنها اختفت فجأة، وهو بعد لم يتجاوز السابعة من عمره، ذهبت إلى الحج فماتت، ومكث ينتظر هديتها إلى لحظة تداعياته في هذه الرواية، ومع ذلك كانت تظهر له في كوابيسه وتخيلاته فيتحاور معها ويراها وكأنه يعيش مع أنفاسها الرحيمة في مقبرة المكان الواسعة، وخاصة في بيتها الذي اتخذه مسكناً له، فشعر أنها الوحيدة التي تؤكد له ذاكرته الجميلة تجاه الحياة، يجد كلماتها تلزمه القدرة على التذكر بوضوح!! في حين يحوله الآخرون إلى شخص بلا ذاكرة، فيرتعب منهم إلى حد الجنون!!
لم تكن علاقة هذا البطل بأبيه «مسعود تكنيري» علاقة سوية، كانت طفولته معذبة كان يتلقى الضرب الموجع من هذا الأب القاسي، ربما بسبب أن أباه يشك في هذه الأبوة، لذلك كان محمود حريصاً في بحثه عن سيرة حياة أبيه على التواصل إلى الطريقة التي تعرف من خلالها هذا الأب على أمه، مما جسد إحدى أبرز المشكلات التي جعلته ينكش في الماضي ويحفر في أنفاس الموتى ليعرف أسرار هذه الحياة التي تشعبت قسوتها وعنفها، وخاصة في تعذيب الأب له..
لقد تمرد محمود تكنيري على هذا الأب بعد موته فصرخ به بصوت مرتفع في حوار توهمي كأنه حقيقة، وطالبه بأن يوضح له الأسباب التي جعلته بهذه القسوة مع هذا الابن الذي غدا بفعل هذه القسوة شخصاً معذباً مرتعباً، تقف دوما أمامه أشباح قسوة اليد الثقيلة على وجهه، وصاعقة الصوت المرعب، والعقاب الصارخ، إلى حد يعتبر فيه والده المسؤول الأول عن تشوه حياته، وجعلها جحيما لا يطاق، يقول:
«كنت أنظر إلى والدي ناسياً أنه مات قبل أسبوع، لم أشعر بموته أصلا.. جل همي لحظتها أن أصرخ مفجراً هذا الهم الجاثم فوق صدري، تواطأت رغبتي في إطلاق هذا الصراخ داخلي، مع صمت الحفائر، بتهادن غريب، تجرأت حينها وصرخت في وجه والدي: لطالما آذيتني يا أبي، لم يكن الضرب الذي تلقيته منك ضرباً، بل عذاب، أكفر به عن خطايا لم أقم بها ولا أعرفها. أنت أحلت طعم هذه الحياة، مع مراراته، إلى شيء كماء عفن مسموم، لا طعم له ولا رائحة ولا لون..!»(ص79).
إن الابن يتحول بفعل هذا العذاب إلى أفعى تمتص نفسها، أفعى «تتلوى وتتمدد حتى لكأنها تتلبس أمعاني وتمتص طاقتي. أحيانا أشعر بأنها تمتص دمائي. أخاف أنها قد تبتلعني يوما وتجعلني نقطة سوداء داخل أحشائها»(ص88).
***
تبدو الرواية من ناحية أخرى ومن خلال شخصية الأب «مسعود تكنيري» سيرة لهذا الأب، إذ تظهر هذه الشخصية من خلال البحث عن غموض أسرار حياتها في الماضي من جهة، وأيضا من خلال زمنها المؤثر على شخصية الابن «محمود مسعود تكنيري» بوصفها رمزاً للقسوة غير المبررة في الظاهر، وإن كانت مبررة باطنياً، حيث هو ابن غير شرعي بطريقة واهمة أو حقيقية، فيختلط الواقع بالخرافي إلى درجة كبيرة في حياة شخصيات الرواية، من هنا يغدو الأب شخصية جوهرية في تداعيات لغة حياة الابن وحواره مع أبيه الذي غدا جزءاً من الأموات، لكنه يتنفس في حياة ابنه، فيكاد يوصله الى الجنون، عندما يغدو الحوار بينهما مقطوعا.. فعندما كان الابن يتلقى الضرب والأوامر كان صامتا دوما في مواجهته لأبيه، وعندما مات الأب وعلا صوت الابن أصبح الأب هو الصامت، مما يفجر صوت الابن صاخباً متحدياً: لماذا لا تكلمني؟.. أكاد أجن من هذا الصمت المريب.. حسناً.. إنك لا تريد أن تتكلم، لماذا..؟ جعلت مني مسخاً، ولا تريد أن تقول لماذا..؟» (ص8384)
في ضوء ما سبق لا مجال للقول بأن شخصية الابن لم تتشوه من خلال شخصية الأب، وهذه هي القيمة المركزية التي تؤكد عليها الرواية من بدايتها إلى نهايتها، إلى حد الشعور بالرعب من وجود الأب حتى مع غيابه في الموت، يقول الراوي مصوراً حاله المعذبة بسبب أبيه: «زرع داخلي غابات من الرعب تقف أشجارها كسياج أمام رغباتي عندما أراه. كان خوفي منه يتراصف رعباً فوق رعب، وجزعاً فوق جزع، ويصير داخلي ليلاً دامساً يتكثف سواده ظلمة فوق ظلمة، فلا أعود أرى شيئا إلا خوفي، وهجسي من هذه الظلمات التي تلف نفسي حتى أصبحت محاطاً بظل هائل من السواد، جعل الصورة تهتز، فلم أعد أعرف ما يجب أن أعمل، يخطر لي أحيانا أنني ربما أتوقف عن الشعور بما حولي، وكأنني قد ارتكبت خطيئة.(93)
***
تعد شخصية «سراج الأعرج» الشحاذ المجذوب الغربي عن الحفائر بعد أن رمى بها طفلاً، هي بطريقة أو بأخرى شخصية الرواية الأولى أو الجثة الأولى على الأصح كما تتبلور من خلال علاقتها بالراوي أو بالمكان أو بالآخرين وأسرارهم، وهذه الشخصية تبدأ بها الرواية بوصفها جثة في غرفة قيمئة في أعلى الجبل، وتنتهي بها الرواية بوصفها جثة أيضا كان لها تاريخ كما ترويه بنفسها للبطل الراوي، الذي تبدو علاقته بالمكان وبالآخرين حالة كابوسية قضاها بجوار جثة سراج الأعرج، فيرى الكوابيس حيث تبدو حواراته وذكرياته ماثلة أمامه، وبين الحين والآخر يصحو ليرى جثة سراج تتضخم ورائحته تفوح كريهة في هواء الغرفة وفي الأشياء كلها من حوله، لذلك تصبح حياة سراج كلها شبيهة بخرافة يستعيدها الراوي محمود مسعود تكنيري، فيغدو موت سراج الأعرج، والأم الحقيقية بنت النجار، والأم سعدية، والأب مسعود، حالات جثثية كابوسية تتغلغل داخل البطل، فيرى هؤلاء كلهم وكأنهم أحياء يعيشون حوله ويتحاورون معه، فتبدو الحقيقة ممزوجة بالخيال الذي يتحول الى أسطورة، لتصير الرواية في هذا السياق بنية سردية غرائبية مؤسطرة الى درجة كبيرة بعد أن جعلت هذه الشخصية نفسها «نكرة لا يمكن تعريفها» على حد تعبير محمود تكنيري (انظر ص11)!!
تبدو هذه البنية الأسطورية واضحة أيضا في العبارة المشهورة التي يكررها سراج: «يزعم أنا جيعان» وفي تضارب حكايات الحفائر عن أصله ومكان ولادته، بحيث صارت هذه الحكايات تروى عن «إنسان له رأس ثور (يتسول) عند الحرم، يقوم بأكل حمام البيت حيا أمام الناس، ويجلس على مخدة من ريش الحمام، كيسها مصنوع من جلد امرأة سوداء مقتولة..»(ص15)
تبدأ الرواية بجثة سراج الأعرج وتنتهي بجثته، بل يبدو في أحيان كثيرة أنه لم يمت، وأن حياته بدأت من خلال موته، فهو مات فعلا بسبب انه وقع على علبة حليب «النيدو» التي قدمها له الراوي ليجلس عليها فكانت هذه العلبة السكين التي شقت رأس سراج الأعرج وأسالت دماءه، فغدت روحه تحاصر الراوي الذي احتار كثيراً فيما يمكن أن يعمله في هذه الجثة!!
تتشكل أيضا في الرواية شخصيات كثيرة تنطلق من أفق الحارة الشعبية: الفوال والخباز والقهوجي، والشيش، والزار النسوي، والحجاج، وحوش المزمار الذكوري.. حيث تعيدنا الرواية الى الطقوس الافريقية؛ لأن معظم الشخصيات كما يبدو تنتمي في جذورها إلى هذه الطقوس، لتبدو الحفائر في نهاية المطاف وكأنها عالم آخر لا ينتمي الى الجزيرة العربية، إنه مكان مسكون بحركية قوافل العبيد، والرقصات النسوية التي تسعى إلى اخراج الجان من النساء الملبوسات، ورقصات الرجال في المزمار حول النار في صورة رقصات الموت والتحدي والقسوة الى حد القتل.
في هذا السياق يبدو المكان «الحفائر» وكأنه هو البطل الحقيقي، بوصفه مكانا أسطورياً، يصعب رؤيته في الواقع، وإن كانت ظلاله بطريقة أو بأخرى موجودة قبل نصف قرن على سبيل التكهن!!
ويبرز الموت في حياة بعض الشخصيات الأخرى، حتى وهي على ذمة الحياة، أبرزها شخصيات: الجدة «معتوقة القرملية» شيخة الزار النسوي، وسليمان نردومي قائد المشكلجية، وبنت الهندية، ومحمود الدنديري، وعم مرزوق، وعم صدقة، وحليمة الجبرتية، وابنتها، وعباس البندور عمدة الحفائر، والعم هارون، وآدم المفلوت.. هذه الأسماء وغيرها تتجسد من خلال البعد الشعبي في السرد، بحيث تغدو لغة الرواية نفسها تصدر من صميم اللهجة المكية، بوصفها لغة حوارية تعبر عن ايقاع الحياة المعيشة في حركية الشخصيات وأصواتها، وبامكاننا هنا أن نشكل لوحة متكاملة للمكان على طريقة الحارة عند نجيب محفوظ أو الحارة في «سقيفة الصفا» لحمزة بوقري، ومن ذلك نقتبس هذا النص الحواري بين الراوي محمود تكنيري والشحاذ سراج الأعرج:
أقول: لا تتبهلل يا سراج وخليك معايا شوقة.
أنا معاك.. هو أنا رحت مكان. دا أنا قاعد في بيتا.
وبعد أن نفد صبري، صرخت في وجهه:
يا سراج أنا أسألك.. إيش كان أبويا يسوي قبل ما يتزوج..
أنا ما أعرف شي. أسأل عم قدري.
عم قدري الفوال؟
أيوه.. عم قدري الفوال.. دا كان من أصحاب أبوك قبل تولد.(ص134)
في هذه اللغة وغيرها يتأكد الصوت الشعبي، وتتأكد البنية السردية الدالة على منطوق الحارة، وهو المنطوق الذي يفضي في نهاية المطاف الى كون الرواية تعبيرا سرديا عن إشكالية الذاكرة القبورية، بوصفها الملمح المحوري في بنية السرد التي لا تتجاوز كونها حالة كابوسية عاشها البطل الراوي في غرفة سراج الأعرج بعد أن غدا جثة، هذا ما يراه البطل في لحظة الوعي تجاه هذه الاشكالية الكابوسية: «ما يذهلني أنني أجد نفسي الآن في بيت سراج الأعرج. هذا البيت يكاد يصيرني مختلا. هل من المعقول أنني لم أذهب إلى أي مكان؟ بالطبع لا. بالتأكيد لا. فقد رأيت أشياء كثيرة، وتحدثت.. وأكلت.. ما هذا؟ لا أستطيع أن أصدق أنني لم أخرج من الغرفة اللعينة هذه.»(162) وبهذه النهاية ندرك أن السارد عبدالله التعزي أتقن بناء جماليات الذاكرة القبورية في روايته «الحفائر تتنفس».
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved