الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 7th April,2003 العدد : 6

الأثنين 5 ,صفر 1424

وعشت في حياتهم
الأستاذ
عبد الله الماجد
شيخي وشيخ الكُتّاب، في عصرنا الراحل «محمد حسين زيدان» صاحب المدرسة المتميزة في أساليب الكتاب، نسيج وحده في كل شيء. في يوم من أيام «جدة» وقبل أن «ينام على شاطئها النهى» قلت له بتلقائية «الفرح» به: «أنت يا أستاذ تشبه هذا البحر» وحينما استدار إليّ بوجهه العريض، الذي كان كله ابتسامة، كان يشبه وجه القمر في تبسمه ليالي «الدّجر»، وفهمت أن الجملة ناقصة، وقد تعلّمت أن أقرأ تعبيرات وجهه من خلال معايشتي له، فأكملت: «وشاطئه» فاستوت العبارة في ذهنه كاملة على هذا النحو: «أنت يا أستاذ تشبه هذا البحر وشاطئه» فقال المعلم «الآن اكتملت الجملة يا ولدي» لأن البحر لا معنى له ولا قيمة بغير شاطئ يعطيه ويمنحه المعنى في الحياة» الدروس التي تعلمتها منه كثيرة، وكانت تأتي على هذا القدر من الإيحاء والإشارة المكثفة.
كان سخياً في كل شيء، في حبه للحياة وللناس، المعادل الآخر لحياته وجوده في عيون الآخرين، بسمة ونجاحاً وعوناً لكل محتاج. قلت له ذات مرة: كيف يتسع حبك للناس وعلى هذا القدر الذي تمنحه؟ قال: بقدر عدد الناس. فقلت له: إذن أنت كل الناس. فدمعت عيناه، وقال «يا ولدي» ربنا يحرسك، أنت موعود» وإن كنت قد فهمت ما يعني أو ما يُحب. فقد سألت نفسي: هل أنا موعود بحب الناس أو شقاء الناس، لم أسأله.
وعلى هذا النحو النادر المتأطر بهذه الخصوصية العذبة، كنت «محظوظاً» بهذه «البنوّة» حيث كنت أُبحر في أعماق هذا البحر أُلامس صدفاته، وأفتحها واحتوي «داناته» المتلألئة، وأعود إلى شاطئه فأستريح على ثرائه.
قبل أن يجمعني به عمل يومي، عندما ترأس تحرير «مجلة الدارة» في أول صدورها (حيث كان هو مؤسسها) واختارني «سكرتيراً» ثم مديراً لتحرير المجلة. ثم دَعّم مركزي، لاختياري لشغل منصب «الأمين العام المساعد لدارة الملك عبدالعزيز» وحينما، كنت أشارك في المؤتمر الأول والأخير للأدباء السعوديين الذي عقد في مكة المكرمة برعاية جامعة الملك عبدالعزيز عام 1394هـ وقد شاركت ببحث عن «الشعر العربي الحديث مدخل تاريخي » وكان البحث عن التطور الزمني للقصيدة العربية الحديثة، والتي وصلت في شكلها إلى ما عُرف «بالشعر الحرّ» وكان طرح هذا الموضوع في حينه، مخاطرة أدبية حيث يعني مواجهة التيار التقليدي المتشدد. وعلى ما يبدو فقد كنت أصغر المشاركين في المؤتمر سناً يطرح موضوعاً قابلاً للمواجهة. و حينما بدأت في إلقاء ملخص البحث، لمحت «أستاذنا» في مقدمة الحضور، ولم أكن أعلم بحضوره، وعندما أنهيت ملخص البحث. وقف أمام الحضور وقال: «أما بعد هذا فلا» وخرج من القاعة أمام ذهول الجميع، بينما صفق له جيل من شباب الجامعة. ولكي يتفهم القارئ موقف «أستاذنا» هذا، فمما لا أحب المباهاة به أو الزهو خصوصاً بعد تلك السنوات. فقد كان البحث رصداً تاريخياً موثقاً ومدعماً بالنصوص لكل محاولات التجديد في عمود القصيدة العربية، على نحو لم يُطرق في طروحاتنا على المستوى المحلي والاقليمي. وكان هذا هو سرّ إعجاب «الأستاذ» بالبحث. ليس لدي تعليق على هذا الموقف، فما من كلمة تستطيع وصفه. إنها «احتفالية صانع الأجيال».
وذات يوم في أصيل جدة، كان مستعداً للخروج من منزله في حي «الشرفية» قال لي «هل معك مِشلَح» وطلب من «فاطمة» المسؤولة عن خدمته في المنزل مشلحاً، أخذته، ثم طلب من «عمر» سائقه الخاص تجهيز السيارة خارج المنزل. وطلب مني قيادة السيارة، ليس معنا أحد، أخذ يوجهني كيف أسير، حتى فوجئت أنني أمام «القصر الملكي» بحي الحمراء، تلقانا ضابط بتحية أردفها باسم الأستاذ. قال لي «ادخل بالسيارة في الداخل» فتح الباب له ونزلنا. كل ذلك وأنا لا أعرف بقية ما جرى وما يجري. استمر في خطواته حتى وجدنا أنفسنا بالداخل، ثم دلف إلى المكتب، كان يصحبنا شخص يعرفه، ربما بدأت أدرك شيئاً ما لكنه لم يكن واضحاً. حتى وجدنا أنفسنا أمام «خادم الحرمين» «وكان حينذاك ولياً للعهد» جالساً أمام مكتبه. والمكتب ممتلىء بوجهاء وأعيان البلاد. سرت خلفه أسلم. نظر الأستاذ إلى الجالسين محيياً لهم. كانت هناك أماكن للجلوس في نهاية الأماكن، لكنه تخير مكاناً شاغراً بجانب مكتب ولي العهد مباشرة. بنيما اخترت المكان المتاح حيث جلست. قلت في نفسي «لقد وضع نفسه حيث يجب أن يكون» إنها تلقائية اختيار اللحظة، لم يرتبك ولم ينظر إلى من يفسح له مكاناً. وما هي إلا لحظات، حتى كان الأستاذ «محور» الحديث حيث تسلم ناصيته. وها هو مرة أخرى «يقتنص اللحظة» وكان حديثه مهماً شدّ إليه انتباه الجميع، فقد كان يستطلع رأي خادم الحرمين في شأن «متحف الملك عبدالعزيز» الذي كان يُعد ليقام في دارة الملك عبدالعزيز، وأن من بين تلك المحتويات «صينية من الذهب ودلّة» كانت هدية للملك عبدالعزيز من رئيس القيادة السوفيتية «لينين» (وكان الاتحاد السوفيتي من أوائل الدول التي اعترفت بقيام المملكة العربية السعودية) وكان الأستاذ يستطلع رأي خادم الحرمين في وضع هذه الهدية، ضمن محتويات المتحف. قال خادم الحرمين: «وأنت يا أستاذ زيدان وش رأيك» فقال دون تردد: «هذا أثر ظل باقياً من ذلك الوقت فليس من حرج في وضعه في المتحف» وأكمل خادم الحرمين العبارة قائلاً: «ونحن لا نُغير الآثار ولا التاريخ» كانت هذه أول مرة يتاح لي الجلوس عن قرب في مجلس خادم الحرمين. حينما خرجنا قال لي «الأستاذ»: «أجمل اللحظات في مفاجآتها، لقد فاجأتك بها وأردت أن تتعلم، حينما تداهمك المفاجآت» فقلت له على طريقته، وكان دائماً يستدعي قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اللهم لا تجعلني في قوم لست فيهم أبا الحسن». وعلى هذا النحو كان الأستاذ معلماً في كل مناحي الحياة.
منذ أيام «الجاحظ» أديب العربية الأول، كان الأستاذ الزيدان، أحد أولئك الذين تميزوا بأسلوبهم المتفرّد في الكتابة، لا يُشابهه فيه أحد. جُملة قصيرة كانت تبلغ أهدافها، من الناحية الفنية، وكانت لها صفة «الخلق الفني» يبدعها بحيث تصبح له وليس لغيره من قبل ومن بعد. وكان ذلك سر إعجابه بعناوين الكتب، فكان مثلاً يقول لي: «انظر إلى عنوان شرح أبي العلاء المعري لديوان المتنبي «مُعجز أحمد» وانظر إلى عنوانه لشرح ديوان البحتري «عبث الوليد». لقد اختصر أبو العلاء رؤيته الفنية النقدية وأعلنها بطرب فني فيه «بَطر» الكلمة وقوتها» ثم يُفسر كيف استوت هذه الدلالات في ذهنه، فشعر المتنبي أشبه ما يكون بالإعجاز الفني، بينما عنوان البحتري فيه جُملة استعارات. فالبحتري شاعر رقيق الحواس زاهي الصور، وإذا كان اسمه «الوليد» فإن الوليد حين يعبث بالأشياء، فإن التلقائية تكون هي عبث الفن، عبث الشعر، فليس المقصود بالكلمة إفساد الشعر وفساده، فأحياناً يكون العبث فناً.
لقد ظل الأستاذ الزيدان يكتب، ويلقي أحاديث عبر وسائل الإعلام ويُحاضر، على امتداد عمره، ولم يتوقف إلا حينما توقف نبض قلبه الكبير الذي كان يسع الناس حباً.
ومن «أحادياته» اللافتة للنظر، أنه ظل رئيساً للتحرير في خمسة عهود منذ الملك عبدالعزيز وحتى عهد خادم الحرمين، وربما يكون هو الكاتب الوحيد «المُبصر» الذي كان يُملي مقالاته، ويلقي أحاديث ارتجالاً، هناك خطابات محدودة كان يكتبها بخطه الجميل، منها خطابات «التوصية».
الأستاذ الزيدان، بدأ حياته العملية مسؤولاً عن دار للأيتام في المدينة، ولم تكن تلك مصادفة في حياته، فلقد ظل طول حياته يرعى أيتاماً، ويكفل حياة كثير منهم. كانت أيسر الأمور إيلاماً في حياة البشر، تستدر دموعه. ليس البشر وحدهم، وإنما الحيوانات. ذات يوم طلب أن آخذه في جولة عبر «وادي الباطن» وكنا في حي «الناصرية» حيث مقر «الدارة» (دارة الملك عبدالعزيز) القديم، وكان عضواً في رئاسة مجلس الدارة ورئيساً لتحرير مجلة الدارة. وعبر واحات النخيل والمزارع، رأى مزارعاً يضرب حماراً كان يحمل حملاً ويوغل في ضربه وإيذائه. والحمار يتربص لا يمشي. قال لي الأستاذ: «توقف، ونادى الرجل، سأله لماذا توغل في ضرب الحمار بهذه الوحشية المتميزة. رد الرجل إنه لا يتحرك من مكانه. قال الأستاذ: «ربما يكون الحمار يريد أليفته». خذ ثمن حمل الحمار وأطلقه.. أنزل حمله ومد الأستاذ مبلغاً من المال في يد المزارع، وحينما أنزل الحمل، انطلق الحمار. قال لي الأستاذ وهو يضحك بسعادة غامرة: «انظر لقد انطلق الحمار في زهو النشوة».
ما زلت أعيش في حياة الأستاذ.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved