الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 7th July,2003 العدد : 19

الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1424

هؤلاء.. مرُّوا على جسر التنهدات:
الأستاذ ..الناقد الثقافي

بقلم/ علوي طه الصافي (*)
بعض الأشخاص حين تقابله لأول مرة.. وتتعرف عليه تحس ان جاذبية خاصة تشدك اليه.. وان هناك اشياء مشتركة بينكما.. قد لا تدرك هذه الاشياء من اول لقاء.. لكنها بمرور الأيام تنمو، وتزداد في جاذبيتها دون أن تحكمها مصالح مادية او مشاريع لصفقات دنيوية.
هذا البعض يمتلك اشعة انسانية مخترقة.. جاذبة، لا طاردة.. فلا تستطيع ان تراه، أو يراك الا وابتسامة الترحيب والتحية تفترش وجهيكما .. وتحس ان هذه الابتسامة المشتركة بينكما تسمو على "ايتكيت" المجاملات.. وترقى على "بروتوكول" العلاقات الاجتماعية العابرة.. كأنك، وهو مثل "الاقطاب غير المتشابهة في "الفيزياء" اقطاب تتجاذب لا تتنافر.. هناك خيط "هارموني" غير مرئي يربطكما ببعض ارتباطا قد لا تجد له تفسيرا محددا، ومعينا!!
وبعض الأشخاص تقابله عشرات المرات، فتشعر ان مسافة تفصلكما عن بعض كالمسافة التي تفصل "الربع الخالي" عن "المحيط الهادي".. مسافة طاردة، لا جاذبة.. كأنك، وهو، مثل الاقطاب التي "تتشابه" في "الفيزياء"، لكنها طاردة تتنافر، لا تتجاذب، غير قابلة للتلاقي .. ولله في خلقه .. وفي مشاعرهم.. وأمزجتهم .. وطباعهم شؤون، وشؤون.
وصديقنا العزيز الاستاذ الناقد الثقافي، الدكتور "عبد الله محمد الغذامي" ابن "الجهنية" الرائعة التي أنجبت هذا الانسان الرائع هو من النوع الاول الذي تشدك اليه قوة سحرية غير منظورة.
سمعت عنه قبل ان التقي به شخصيا.. فقد كان يقيم في "جدة"، في الوقت الذي كنت اقيم في مدينة "الرياض".. او "بيت العرب" كما يحلو لي تسميتها.
حين أصدر كتابه القنبلة "الخطيئة.. والتكفير" هبت عليه "العواصف" الهوج وتناوحت "الرياح" من كل اتجاه.. لانه جاء بالجديد والمجهول.. والناس اعداء ما جهلوا.. في الوقت الذي استقبل كتابه في الاوساط الثقافية في اقطار الوطن العربي مشرقا، ومغربا.. بالترحيب.. والثناء والتقريظ.. ونشرت حوله الدراسات القيمة.. قوَّمته بالتحليل.. والموضوعية العلمية كأنه "زامر الحي الذي لا يطرب"!!
وقد وجهت اليه في الداخل السهام ظاهرة بالنشر في الصحف.. وغير مباشرة من خلال اشرطة "الكاسيت".. وزاد من ادار الحملة عليه ان تظاهر طفيليو الحداثة بالانتماء اليه وهو براء منهم، ومن انتمائهم "الثللي"، فأساءوا.. ولا ادري لماذا شعرت انه وقع في فخ "الثللية الحداثية" زورا وبهتانا.. وان فكره وتفكيره غير منتم لأي جماعة من جماعات الاشجار الطفيلية التي لا تحسن الا التسلق على غيرها من الاشجار الكبيرة التي تثمر الخير.. وتنشد الحقيقة التي هي ضالة المؤمن.
وقد أنكرت في نفسي هذه الحملة الشعواء التي خرجت عن قواعد الحوار الحضاري الموضوعي.. فالاختلاف في الرأي مظهر صحي.. لكن أن يتحول الحوار الى استعداء.. وكيل الاتهامات للشخص، لا للفكرة.. فإن الحوار يتحول الى استعمال الهروات.. ويصبح صورة من صور حلبات الملاكمة، والمصارعة.. فالحوار الحضاري الموضوعي العلمي له مناخه الخاص، وقواه المتميزة.. وأدواته النظيفة.. وسلوكياته التي تجمع لا تفرِّق.. تبني، لا تهدم.. والاصل في الشرع حسن النية.. وافتراض الصلاح.
إن الحوار الحضاري الموضوعي حين يخرج عن مساره وينحرف عن قواعده العلمية يصبح نوعا من "الهوجة".. او رقصة "زار" مجنونة، في قبائل مختلفة، تعيش في أدغال مجهولة، لم تمسسها روح الحضارة.. ولم تمر بها نسائم المدينة.
قلت له مرة بعد ان تعارفنا انت طبقت مذهب "البنيوية" في دراستك لشعر حمزة شحاتة .. لكنك لم تفترض "موت المؤلف" كما يرى احد رواد "البنيوية"، وهو "رولان بارت" .. فهل تدعو في كتابك "الخطيئة والتكفير" الى بنيوية عربية؟
فرد في الاذاعة ان "شحاتة" تحول الى "نص".. وان المذاهب والمدارس الادبية والنقدية لا يمكن تصنيفها على اساس اقليمي، عربيا.. كان ام امريكيا.. أم المانيا.. او بما معناه كما فهمت، وهو يتحدث بتدفق.. مع انني ارى ليس اعتراضا او اختلافا او ادعاء فانتازيا انه الألسنية نفسها بمذاهبها هي في روسيا.. غيرها في المانيا.. غيرها في امريكا..
وهذا ينطبق كمثال على الكلاسيكية.. والرومانسية .. فهي فرنسا قد لا تلتقي مع بريطانيا، فالمناخ الاجتماعي، والظروف النفسية، والنزعات الانسانية تختلف من بلد الى آخر.. لهذا تجد في بعض الدراسات مصطلح الكلاسيكية الفرنسية ومصطلح الكلاسيكية الانجليزية.. ومثلها الرومانسية.. ذلك لأن المذاهب والمدارس الادبية والنقدية ليست عملية "لوغاريتمات".. وليست كالعلوم التطبيقية.. فكل مجتمع له خصوصياته، وخصائصه، وله مناخه المميز عن غيره من المناخات نفسيا.. وعقليا.. واجتماعيا.. وعند صديقنا الغذامي "جهينة" الخبر اليقين.. وكما يقولون العين لا تعلو على الحاجب.. ومنك نستفيد ايها الصديق العزيز "الغذامي" والحوار مفتوح للجميع، على شرط الوصول الى الحقيقة، لا عرض العضلات لمجرد المخالفة والاختلاف، والانتصار للرأي النشاز، وقد تميز الصديق "الغذامي" أنه ادار ظهره لكل ما اثير حوله.. وقابل "الهوجة".. و"رقصة الزار" بالعمل الدؤوب الذي شغل به نفسه، ووقته.. فانتشر كالمطر لا يألو على شيء.. يحاضر هنا.. وينتدي هناك خارج المملكة ليعطي الصورة المشرقة لبلاده، ومجتمعه ثقافيا، وادبيا بنصاعة سمائنا.. وسعة صدره للحوار كصحرائنا.
عرفته اول ما عرفته شخصيا في احد مهرجانات العراق "المربد" جمعتنا المصادفة، فقضينا معا بعض الوقت في زيارة مكتبات بغداد بشارع المتنبي لشراء ما نحتاج من كتب بأثمان زهيدة.. كما زرنا "مدرسة المستنصرية" وتجولنا في ابهائها وفصولها وفنائها فشممنا داخلها عبق التاريخ القديم، كما زرنا بعض القصور التاريخية البغدادية.
واكتشفت يومها ان صديقي "الغذامي" متحدث بارع.. ومناقش لا يجف لسانه وحنجرته من النقاش، لأنه يتحدث بحماس.. يحرص ان يقنعك برأيه، لكنه لا يفرضه عليك لإيمانه بالاختلاف ليس على طريقة "خالف تعرف" او على طريقة ذلك الاعرابي الذي قال: "عنز ولو طارت" يسعده ان تلتقي مع رأيه من خلال "التراكم المعرفي الانساني" المتسع لكل الآراء.. حاضر الفكر والتفكير.. سريع البديهة.. لا يعرف الكلل والملل.. يعامل الناس كما هم عليه.. لا كما يريد هو.. فالناس عنده مشارب.. ونزعات متباينات".
ومن أغرب، وأطرف ما اكتشفته فيه ولعه بجمع "السبح" مفرد سبحة فهو يجمعها من اي مكان، او بلد يذهب اليه.. ويعدها من هواياته المفضلة، ولقيته مرة اخرى في ندوة "قراءة جديدة "لتراثنا"، وهي الندوة التي أصبحت تقليدا سنويا لنادي جدة الثقافي الذي يعمل بصمت في مواجهة اجتماعية سلبية لا يحسد عليها.. وما اكثر الذين ينقدونه لكن ما أبعدهم عن نشاطاته رغم ان ابوابه مشرعة للجميع كبيرهم وصغيرهم اعانك الله يا استاذي عبد الفتاح.
كان صديقنا "الغذامي" مشغولا بضيوف الندوة الذين كانوا يمثلون رموز الادب والثقافة والنقد في عالمنا العربي كأنهم ضيوفه شخصيا.. وكان في منتهى السعادة، وهو يتحرك في كل اتجاه.. كيف لا يكون كذلك، وهو يرى مدينة جدة كلها تحولت الى "تظاهرة ثقافية عربية" بعد ان عاشت بلادنا حقبا زمانية في ظل "التعتيم" الاعلامي؟
تحس وانت تتابع تحركاته على انه حريص كل الحرص على إعطاء صورة مشرقة لبلاده التي عانت من العزلة، وجهل الآخرين من الاشقاء العرب لأدب وادباء المملكة كأن لسان حاله كما يقول الشاعر:
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
كان يحرص أن يجعل وطنه في "بؤرة" الاحداث الثقافية، والادبية عربيا، وعالميا اذا امكن وتمكِّن.. وهي مهمة وطنية سامية يستحق عليها الاوسمة، والميداليات، والجوائز، وهذا ما حصل.. فقد أثمرت جهوده، وبدأ قطافها.. حصل اول ما حصل على جائزة "مكتب الخليج للدول العربية" في الرياض على كتابه القنبلة "الخطيئة.. والتكفير" الذي اثار عليه الاعاصير.. كما حصل على "جائزة العويس" الخليجية، وهي من الجوائز العربية المهمة.. ولن يكون حصوله على جائزة "مؤسسة الفكر العربي" لأول مرة مع كبار المفكرين العاملين مثل "ادوارد سعيد".. والقادم افضل، واحسن، واجمل.. وهذه الجوائز تتساقط على رأسه كالاكاليل، تقديرا لأعماله المتواصلة المتسمة بجديتها، وجديدها.. لانه لم يكن متخثرا.. ولا حاطب ليل!!
ثم انتقل الى مدينة "الرياض" ليعمل أستاذاً للنقد بكلية آداب "جامعة الملك سعود" بعد ان كان يعمل بجدة في "جامعة الملك عبد العزيز".. كنت وقتها اعيش رهين ثلاثة محابس "المرض.. والبيت.. والوحدة حيث هجرني الاقربون، والابعدون من الاصدقاء" فكتبت موضوعا في "المجلة العربية" مستمدا العنوان من قصيدة لشاعر ابن ديرتي الذي مر في اخريات حياته بما امرّ به وهو الشاعر الرقيق المغرد "محمد علي السنوسي" بعنوان "اصدقائي.. ام اصدقاء الوظيفة؟" وقد كتبته في حالة نفسية انسانية مجروحة بالعقوق، والجحود.. مشروخة بالنكران والنسيان، او التناسي.. فماذا حدث؟
بعدها بأيام طرق باب منزلي المتواضع الذي حين فتحه ابني، جاءني ليقول لي ان شخصين لا يعرفهما جاءا لزيارتك.. وحين سألتهما عن اسميهما، رد احدهما يضع نظارة على عينيه "قل لابيك: إننا اصدقاؤه، لا اصدقاء الوظيفة جئنا لزيارته وقبل ان يكمل ابني حديثه، اذا بالصديق الدكتور "محمد ابوبكر حميد" الذي كان من القلة من الاصدقاء الذين لم ينقطعوا عن زيارتي .. لكنه اخيرا رغم مرور سنتين انقطع عن زياراته الكريمة، مكتفيا عنها بما أقرأ له في جريدة "الجزيرة" من حين الى آخر.. وبما يقال "لعل له عذرا وانت تلوم".. اذا به يسبق الصديقين اللذين كانا اكبر من المفاجأة.. واكبر من فرحة الاطفال الابرياء.. هذان الصديقان الوفيان هما الصديق "الغذامي" والصديق "باحشوان".
وأعترف للحقيقة ان آخر من تصورت زيارتهما الصديق الغذامي لأنه كثير الترحال، ولاعتقادي بأنه مقيم في "جدة"، اقامة دائمة.. فتعانقنا عناق المحبين الذين طال بهما النوى.. ونأت بهم الدار.. وشط بهم المزار.. شعرت ان دمعة ساخنة تود اشعال لحظة اللقاء.. لكنني "عصي" الدمع، شيمتي الصبر.. فأحسست بدفء المشاعر التي يرددها المحبون، فيترجمها الشعر والشعراء في حلاوة وعذوبة.. تذكرت وقتها قول الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
شعرت وقتها ان الدنيا ما تزال بخير.. وان الزهر يوجد حيث يوجد الشوك.. وان من يطلب العسل فلابد له من ابر النحل.. وان الاخيار رغم قلتهم الا انهم يمنحون حياتنا البهجة.. وانهم كالزهر الذي يخترق الصخر ليجعل دنيانا جميلة، واهلها اجمل!!
وتذكرت قول الشاعر "الطوباوي" الرومانسي "ايليا ابو ماضي" "كن جميلا ترى الوجود جميلا".
عرفت ان الناس الذين حولنا هم الذين يلونون حياتنا.. فيجعلونها كئيبة اضيق من جحر ضب".. او يحيلونها الى احدى جنان لبنان الازهى، والازهر.. يعطرونها بمشاعرهم الانسانية الشفَّافة.. ويضخمونها بسلوكياتهم الأنبل والأجمل بحيث تتحول حياتنا الى بلهنية العيش.. ومساحات من الورود التي لا تذبل وحالات انبهار وابها كشلالات "نياجرا".
والتفت الى الاخ "باحشوان" الذي قابلته مرتين احداهما حين كنت نائبا لرئيس تحرير جريدة "المدينة".. فاذا لم تجمعنا صداقة فقد جمعنا التاريخ، والجغرافيا التاريخية.. فهو يذكرّني بأشياء حميمة رغم جهلي بها ولادة، ونشأة.
المتابعون لمسيرة الصديق الاستاذ الدكتور "عبد الله محمد الغذامي" الادبية، والثقافية، والنقدية يكتشفون فيها روح المغامرة.. والبحث عن الجديد المتجدد، ليظل متجددا في معطياته.. فهو كالماء اذا ركد اسن.
واكب مسيرة الحداثة.. والشعر الحداثي.. والنقد الالسني، وبخاصة "البنيوية" وحين توصَّل بفكره، وتفكيره، لابدواعي التأثيرات الجانبية ان "الحداثة مشروع فاشل" انتقل الى نقد "السرديات" واخيرا بحكم تركيبته الذهنية، ونفسه النزاعة الى التجارب، من منطلق ان "التراكم المعرفي الانساني" هي نتاج مجموعة من التجارب الناجحة، والفاشلة.، وهذا ما ينطبق ايضا على العلوم التطبيقية.. فمادام هناك اعباء، فلابد من وجود التجارب المتعددة بتناقضاتها .. والتقائهما.، فالفكر الانساني لا جغرافيا اقليمية ينحصر داخلها.. الفكر الانساني السليم مفتوح ومنفتح.. مفتوح على نفسه وفرديته.. منفتح على الآخرين، والجماعات.. الفكر الانساني لا يعيش في جزيرة بمنأى عن غير.. او شاطىء مهجور من السفن، وناس السفن، وحركة الناس.. فالفكر اخيرا هو التجربة المتحركة.
اخيرا انتقل الى "النقد الثقافي" بشموليته وأنساقه "المضمرة"، وغير "المضمرة".. ولن يلقي عصاه لأن الآخرين وصلوا إلى ثقافة ما بعد الثقافة، فقد صدر اخيرا كتاب "الثقافة" ما بعد الثقافة لمؤلفه "فرانسيس مولهيرن" الذي ربما اطلع عليه الصديق "الغذامي" هذا الكتاب الذي وضع مجموعة من الكتَّاب في "دائرة الشك" مثل "مانهايم".. و"ليفز".. و"وليامز".. و"هول".
واذا ذكرت "الحركة النقدية" في بلادنا فان اسم "الغذامي" يأتي على كل لسان، وفي رأسي قائمة النقاد في الوطن العربي، لا في المملكة فحسب.. وهو يقف بقامته السابقة، وبندادة مع رموز النقاد العرب. وكما تقول العرب "المعروف لا يعرَّف".. وصديقنا "الغذامي" عَلَمُ على رأسه نور، لانار.. وهو لا يحتاج الى تعريف.. او مزيد من التعريف.. وانما هذه سوانح وانطباعات صديق محب، لصديق احب.. واذا كان قد قوبل بشيء من الاذى النفسي، فإنما لأنه شجرة مثمرة.. والعرب تقول: "لا يرمى الا مثمر الشجر".. والله المستعان.
+++++++++++++++++++++++++++
(*) ص.ب: 7967 / الرياض: 11472
+++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved