الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 7th July,2003 العدد : 19

الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1424

قصة قصيرة
وصمتت ريم
سعد محارب المحارب *
خرج من غرفة الفحص.. بخطوات مثقلة، قطع صوتها المندفع من الأرضية العارية سكوني.. كان يحاول أن يتقوّى على الموقف بابتسامة يخترعها.. دون نجاح يذكر.. قمت خائفاً مما سيقول.. قال بعد صمت طويل: "للأسف.. لن تستطيع الكلام.." وقال كلاماً كثيراً لم أسمعه، ولم أفهمه.
هكذا بكل بساطة أخبرني الدكتور محمد أن ريم لن تتكلم، وأن صمتها قرار نهائي لا رجعة فيه، وأن صوتها المنهمر مثل شلال قد جف.. وان احاديثها المتعاونة مع هديل الحمام لجعل عالمنا عالماً أفضل، ستتخلى عن هذه المهمة.. وأن ضحكاتها القادمة ستولد دون صوت يعلو.
اندفعتُ دون أن استمع إلى باقي كلامه، فدخلت الغرفة، ووجدت ريم تنظر في هدوء من شباك المستشفى، وكأنها تقول للعالم إني راضية بهذه العقوبة..
والتفت إلى الطبيب، وقلت له إن ريم لم تفقد صوتها، ولكننا لم نعد نسمعه، فريم ابنة عمي وأنا أعرف بها من فحوصاتك ونظرياتك.. ريم فتاة أجمل من هذا الواقع.. وأطهر من هذا الزمن.. ولذلك عاقبتنا بصمتها.. ريم أيها الطبيب تعرف أن لا مكان لصوتها بين اصوات المدافع.. وان كلامها لا يصلح لهذا الزمن الذي يحتفل فيه الناس بالموت.. وان (سواليفها) اطهر من هذا الوقت الذي يخجل فيه الناس من الحب ولا يخجلون من القتل.. وأجمل من أن يسمعها الذين يبررون القتل، ولا يرون مبرراً للحب.. وأكرم من أن تبلغ هؤلاء الذين يحرقون الغابات ويدهسون الورد ويلعنون الموسيقى ويخنقون الحب، ويمجدون الضياع والفساد والإرهاب وقتل الناس وتدمير الأشياء.
ريم كتاب حب يقف على قدميه.. ومعزوفة من حلم جميل.. هي معنية بانقاذ العالم لا باستعماره.. ومهتمة بتقديم الورود للمصابين لا باستغلالهم بآلة تصوير.. ومشغولة بدموع الثكلى وأنين الناس عن استثمار ذلك.. ومنصرفة بكل كلها إلى الحب عن لعبة (نحن وهم) واسطورة (معنا أو معهم).. فهي كانت دائماً مع كل الحياة وكل الحب.. وضد كل الغدر وكل القتل.. لم تسأل يوماً من المخطئ ومن المصيب.. ولكنها كانت تقول "اللهم احفظهم جميعاً.. واهدهم جميعاً".
كانت ريم تحدثنا عن النخيل والحمام والسواقي والورود والمطر، وكنا نحدثها عن الغارات والطائرات والأسلحة الكيماوية والقنابل النووية.. كانت تبهرنا وهي تروي لنا قصص الحب والسعادة، وكنا نفجعها ونحن نروي لها قصص ترويع المدن والعمليات الانتحارية.. كانت تعتبر البشر مشاريع عشاق.. وكنا وما زلنا نعتبرهم مشاريع جثث..
وسقط صوتي محاصراً بدموعي الهاطلة.. ولم يوقفها إلا ابتسامة لاحت على وجه ريم، ونظرة كانت تقول لي بمشاكستها الأخوية، ولهجتها (الشرقاوية): اش دعوة تطالعني.. ما ني قايلة شكراً".
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved