الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

ذكرى البطحي المضيئة
عبدالله حسين العبد المحسن*

مالت أجمل نخلة سامقة من نخيل (المطلة) أثقلها الثمر الوفير، الذي لم يُجن بعد. و(المطلة) لمن لا يعرفها هي: مزرعة الراحل الباقي الأستاذ عبد الرحمن البطحي، لم يتسنّ لي أن أسأله، والأسئلة المعلّقة في انتظار أجوبته الشافية تظلُّ كثيرة، على ماذا مطلة؟ على التاريخ، أو المستقبل، فالرجل كان يقبض على الاثنين معاً. لقد كان مزيجاً متجانساً عجيباً من التاريخ والمستقبل.
وهذا أحد الأسرار الغامضة التي تكتنف هذا الرجل الواضح البسيط، وهذا ما يجعله ينتزع الإعجاب والاحترام والمهابة من مختلف الأجيال مهما اختلفت الانتماءات الثقافية وتفاوتت الاهتمامات. فالجميع كانوا يسعون إلى مجلسه لطلب معلومة، أو حلِّ إشكال مسألة. أو اقتناص متعة، فلقد كان موسوعياً في معرفته، وكان راوياً فذاً يمتلك ذاكرة لا تخونه أبداً .. إن دخل مسارد التاريخ، وتنقّل في محطاته القديمة والحديثة والمعاصرة، أو راح يفصل سيرة، أو غاص في محيط الأنساب أو أخذ يترنّم نشواناً بقصيد من النبطي والفصيح. أتذكَّر لقائي الأول به عندما قصدنا منزله بعنيزة العامرة بالمحبة والمعرفة برفقة الأستاذ عبد الكريم الجهيمان والأستاذ عبد الرحمن السويداء والأستاذ محمد القشعمي وثلّة من أهل عنيزة بناءً على دعوته الملحَّة .. استقبلنا مرحِّباً بقامته الشامخة وابتسامته الصادقة الوقورة؛ بسرعة تلاشت حواجز المجاملات ودخلنا في صلب أحاديث ذات شجون.
استهل الأستاذ عبد الكريم الجهيمان هذا اللقاء الحميم مداعباً مضيفنا بلوم شفيف يعكس حبه وغيرته، حيث سأله عن سر عدم مشاركته في محافل عنيزة الثقافية. ثم طرح الأستاذ عبد الرحمن السويداء مسألة (العقيلات) أصلهم وتسميتهم ومسرح نشاطهم .. كان الأستاذان البطحي والسويداء قطبي النقاش. وانسرب الحديث إلى القبائل والأنساب وتم التطرُّق إلى ما قد أُثير مؤخراً عن مسألة وجود قحطان وعدنان. ثم انتقل الحديث إلى الإسرائيليات، حيث استلم دفة الحوار الأستاذ البطحي، فقد كان يمتلك معلومات قيِّمة وثرّة؛ ولأنّ الإسرائيليات مرتبطة بحمام الدم الذي ترتكبه قوات إسرائيل في فلسطين ولبنان حظيت تلك القضية باهتمامنا؛ لأنّها القضية الملحّة الآن. أعربت للأستاذ البطحي عن أسفي أن يهدر وقته الثمين في مراجعة أنساب القبائل ببطونها وأفخاذها، وتمنّيت أن كتاب القبائل لم يفتح فبلادنا ولله الحمد تشهد تحوُّلات اجتماعية واقتصادية يفترض منها أن تؤدي إلى تحلل الهيكلية القبلية، كونها هيكلاً اجتماعياً لا يتلاءم مع البنى الاقتصادية الحديثة، بل تعيق التطوُّر وتحول دون تكون نسيج ثقافي متين. فأكد البطحي عدم اهتمامه بهذا الجانب لولا فضول روّاد مجلسه، وعلَّق بتهكُّم ساخراً:
إنّ أشجار الأسر وجداول الأنساب التي أخذت تتزيّن بها جدران القصور والمنازل، لا تخلو في معظمها من أخطاء وثغرات لا تملأها القرون.
هذا الرجل الإنسكلبيدي يبهرك اتساع دائرة معارفه التي تنداح حلقات متصلة لتشكِّل منظومة فكرية وعلمية منفتحة على الإنتاج الفكري الإنساني قديمه وحديثه ومعاصره، وتنتظم وفق منهج علمي محدَّد، مما يثير فضولك لمعرفة المنهل الذي اغترف منه.
حدّثنا بإسهاب عن علاقته الحميمة بالكتاب وسعيه الحثيث من أجل تثقيف الذات .. كيف كان يدّخر المال عاماً ويسامر عاماً ليقضي شهور الإجازة في عواصم الكتب العربية، ينزوي هناك في نزل .. يقرأ ويلخِّص ويعود محمّلاً بمدوّناته الحافلة بالمعلومات والملاحظات، وذكر لنا بعض معاناته مع الكتاب .. حدّثنا عن تلك الكتب التي كانت تقلقه ويخشى منها وعليها، فقد كان يودعها في حظائر الماشية في وسط حزم العلف، وعندما ينحسر خوفه يعيدها إلى رفوف مكتبته. وأنّه كثيراً ما كان يصادف أعواد العلف في طياتها بعد تعاقب السنين.
وعلمت من خلال حديثه أنّه كان معلماً ثم مديراً لأول مدرسة نظامية في عنيزة (العزيزية) أي أنّه كان على صلة شديدة بالقرطاس والقلم. فإذا علمنا قدر حبه ذاك للكتاب واهتمامه البالغ به، نستغرب أشدّ غرابة من كرهه للقلم! فما الذي أقصاه عن حب القلم؟ سوّغ لي ذلك الغموض أن أسأله، كما سأله الآخرون من قبلي، ذلك السؤال الصغير الذي ظلَّ مفتوحاً لاجتهاداتنا ليغدو كبيراً: لماذا لا تكتب؟!
أجاب مبتسماً: مسك القلم مثل خلع السن.
لم يكتب، وهو الذي يملك ذاك الفيض الدافق من المعلومات القيِّمة، وتلك اللغة البليغة المشاكسة والمنهجية العلمية والموضوعية.
لا أظنُّ أنّ حمل القلم يؤلمه وهو الذي كان يتحمّل صبوراً جلداً الآلام المبرحة .. كم مرة غيّبه مرض شديد عن الأنظار، ينزوي في منزله موصداً بابه كاظماً ألمه حتى يتماثل للشفاء فيفتح بابه وقلبه لأحبّته .. وكم مرة شدّ الرحال في طلب العلاج وأشاع للأصدقاء أنّه ذاهب للسياحة والاستجمام. قد تكون الكتابة عنده مسؤولية والتزاماً، لذا كان مسك القلم مثل خلع السن أو أشد ألماً، وقد تكون هناك إجابة لكن لن تكون شافية لمن عرفه وعرف غزارة علمه وسعة اطلاعه.
رحم الله الراحل الأستاذ عبد الرحمن البطحي سيبقى كتاباً مفتوحاً وستظل سيرته ذكرى مضيئة لأصدقائه ولمن جايله.


* القطيف

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved