الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

عبدالرحمن البطحي.. اللقاء الأول وحكايات أخرى
إسماعيل بن إبراهيم السماعيل*

لم أكن أدرك عند اللقاء الأول بالموسوعة التاريخية الأدبية التراثية الجغرافية الأخ عبدالرحمن البطحي - رحمه الله - أنه سوف يستمر حتى لحظة مرضه الأخير، إذ لسجلت تلك اللحظة الخالدة التي تعرفت فيها على مثقف شامل كون ثقافته الشاملة كما فعل العقاد.
كان أول لقاء حينما كنت ومجموعة من العائلة في زيارة عنيزة بلد الأجداد، واصطحبنا العم عبدالرحمن السماعيل إمام جامع الضبط - رحمه الله - لزيارته في مزرعته الشهيرة (مطلة) التي كانت اسماً على مسمى بسبب موقعها المتميز الذي يشرف على السهول حولها.
كان اللقاء في غرفة طينية، إذ لم تكن المباني الأسمنتية قد زحفت بعد، ولم يكن هناك جهاز تكييف. وكان على المائدة عناقيد من العنب العنيزي من إنتاج مطلة.
لقد تفاجأ صاحب مطلة بحضورنا إذ لم يسبق ذلك أي تنسيق، ولكنه كعادته التي عرفتها عنه فيما بعد كان يغدق عبارات الترحيب، والسرور بهذه الزيارة كما تغدق السحب أمطارها. وقد أشعرني ذلك بعمق العلاقة بين الشيخ عبدالرحمن، وصاحب مطلة التي تتجاوز الصداقة إلى الأخوة بما فيها من معانٍ سامية، وإيثار.
كان حديث مضيفنا الشيق وتنقله من التاريخ إلى الشعر إلى الحكايات الشعبية إلى الجغرافية، حديثاً راقياً يجعلك تظن أن المتحدث قد تخرّج من إحدى أعرق الجامعات العالمية، على رغم أنه لم يتجاوز في دراسته النظامية شهادة الكفاءة المتوسطة ودراسة اللغة الإنجليزية في بيروت.
لقد أنسانا حديثه الموسوعي الذي تتخلله عبارات ترحيب وابتهاج بهذه الزيارة غير المنتظرة الحرارة المرتفعة والازدحام في تلك الغرفة الطينية، ولو لم يحن وقت صلاة الظهر والارتباط بموعد بعدها. لما رغبنا في إنهاء ذلك اللقاء، كنا مرغمين على ذلك.
استمرت هذه الصداقة منذ لحظة اللقاء الأولى حتى وفاته - رحمه الله تعالى - يوم الخميس 24-6-1427هـ.
ما بين اللقاء الأول والوداع تقابلنا كثيراً، كنت أقوم بزيارة كلما جئت إلى عنيزة فرداً أو مع زملاء آخرين.. المهم أن تكون زيارته جزءاً من برنامجي حتى لو كانت لدقائق معدودة.
كان موعد جلسته اليومية في (مطلة) بعد صلاة المغرب في كل يوم ما يسمح للزائر بترتيب مواعيده مع الآخرين. وتخصيص هذه الفترة لزيارته.
ولأن زيارتي لعنيزة ليست مرتبطة بتاريخ معين، ولكن حسب الظروف والمواعيد التي تحكمها العلاقات الاجتماعية مع الأقارب أو الأصدقاء في باريس نجد، فقد كان شيئاً من الحزن يساورني ومن معي حينما لا نجد (صاحب مطلة) لكونه مسافراً يبحث عن موقع تاريخي أو متتبعاً أثر السحب أو لتوثيق مشهد تاريخي من معايش له في بلدة بعيدة.
شيء من الأسى الآخر يساورني أيضاً حينما أجده في موعده في (مطلة) يكشف شيئاً من أنانيتي، حيث أجده محاطاً بعدد من الزائرين الذين يجمع بينهم عشق الثقافة على تنوع مصادرها، ورغبتهم في سماع المزيد من موسوعة عنيزة. لقد كنت أتمنى لو كنت الزائر الوحيد؛ لكي أستمع أكثر وأن أسأل كثيراً.
مع ذلك كنت أحاول كبت هذه الأنانية.. مستشعراً الفخر والاعتزاز بمعرفة هذا والهرم الثقافي الذي يتضاءل تحت شموخه كثير من مدعي الثقافة ولو كانوا من حملة المؤهلات العليا.
لن أنسى أبداً ذلك المساء أيام حرب الكويت عام (1990م) حينما زرته ووجدت في ضيافته أكثر من مثقف تزدهي الصفحات الثقافية في جرائدنا اليومية أو القناة الأولى، أعرف كثيراً منهم بأسمائهم، ودرجاتهم العلمية وهم يستمعون إلى (صاحب مطلة) وهو ينهمر في أحاديثه كالسيل الجارف وهم ينصتون إليه مثل التلميذ أمام معلمه.
وعلى رغم أن كثيراً من الناس لا يحب أن ينفرد محدثه بالحديث لوحده، إلا أن تلك الظاهرة أو الملاحظة لا تطبق بحق صاحب مطلة، بل إن هناك إجماعاً لدى زواره على ضرورة أن يكون المتحدث وهم المستمعون؛ لأن حديثه وحكاياته من النوع الذي لا تجوز مقاطعته.
مع ذلك فإنه ربما كان يحس هذا التقدير من زائريه، لذا كان يتحول إلى الأسلوب الجاحظي حينما يمزج حديثه التاريخي بحكاية ليست جزءاً من سياق الحديث، ولكنها على علاقة به، أو أن يضفي على طريقة الحديث (إن سمح المجال بذلك) بما يخرج به من دائرة الجد إلى حديقة المرح. أعترف أنه كان بارعاً في استعمال الأسلوب الاستطرادي في الحديث ببراعته في الحديث في كل مجال يذهب إليه.
كان زائراً خفياً لمنطقة الوشم. يأتي إليها باحثاً عن موقع تاريخي أو عن تاريخ قرية قديمة دون أن يشعر به سوى ثلاثة أشخاص وهم الأستاذ سعد المحيميد - رحمه الله - الذي كان يملك متحفاً للتراث الشعبي قل نظيره، والشيخ عبدالرحمن السدحان إمام الجامع بشقراء الذي يعد موسوعة في تاريخ شقراء وحوادثها وحكاياتها الشعبية ونوادرها الطريفة، والأستاذ محمد المانع أول مدير للتعليم في منطقة الوشم عندما كان إشرافها يصل إلى بلدة ظلم الواقعة على طريق عفيف الطائف.
كان يجمعه بالأول الحب المشترك للتراث الشعبي، ومع الثاني حب التاريخ وحفظه معايشته أو استماعاً. ومع الثالث التجربة التعليمية والتربوية التي عاشها الاثنان. المانع في إدارة تعليم الوشم، وصاحب مطلة في المدرسة العزيزية في عنيزة.
عدا هؤلاء الثلاثة كان يمر كالنسيم نحس به ولا نراه وإن كان الإحساس بذلك تأخر طويلاً لبراعة صاحب مطلة في التخفي.
كنت أفاجأ كثيراً وفي الصباح الباكر من أيام الخميس بوجود هدية رمزية وهي صندوق خضار موضوع عند الباب الخارجي. ليس على الصندوق أية معلومات تدل على من أرسله أو من أحضره. وحسب معرفتي بالعادات والتقاليد الاجتماعية في أشيقر أن من يحضر شيئاً على سبيل الإهداء كان عليه أن يضغط على جرس المنزل، وأن يقف عند الباب حتى يحضر إليه أحد أفراد العائلة ويستلم هديته؛ شريطة دخوله المنزل ولو لدقائق قليلة لشرب فنجان القهوة.
لكن حاتم المتخفي أعجزنا عن معرفته من هو مدة من الزمن، إلا أنني بعد فترة لاحظت أن زميلاً مشتركاً لي ولصاحب مطلة يتلقى مثلي تلك الهدية في نفس اليوم والتوقيت، ولا يمكن أن تتجاوزنا تلك الهدية إلى شخص ثالث.
اتجه الظن مباشرة إلى صاحب مطلة، ولم يكن ذلك الاعتقاد من الظن الآثم، بل كان صحيحاً كشفت الأيام سره. عندما جاء صاحب مطلة في زيارة استكشافية لبلدة الفرعة القريبة من أشيقر، وأخذ يتجول في طرقاتها ومبانيها القديمة، وكان يبحث عمن يحدثه بشيء ولو قليلاً من تاريخ تلك القرية.. في تلك اللحظة التقى بشاب وسأله أن يدله على أحد كبار السن ليستمع منه تاريخ هذه القرية. أشار الشاب إلى والده الذي يجلس في أحد بساتين النخيل التي ورثها عن أمه، وعمل على إحيائها بأنه أفضل من تجد عنده ما تبحث عنه - كان عمر والد الشاب آنذاك (90) عاماً - قبل أن يمضي صاحب مطلة إلى والد الشاب سأله الأخير عن اسمه ومن أين جاء، وهل يعرف أحداً في هذه المنطقة؟
أجاب صاحب مطلة عن السؤال الثالث، وأنه يعرف فلاناً، وذكر اسمي واسم الأخ حمد الحفير السياري. عندها انطلق الشاب إلينا خارج أشيقر، وأبلغنا عن صاحب مطلة الذي لم يكن يعرف اسمه، ولكنه وصفه لنا وصفاً دقيقاً أدركنا من خلاله من هو صاحبه.
ذهبنا للبحث عن صاحب مطلة للأسف. لقد استشعر أن هذا الشاب قد جاء إلينا لإبلاغنا؛ لذا ارتحل للبحث عن مواقع تاريخية أخرى كان يخشى أن نجده فنقطع عليه رحلته، ونضيع عليه وقته بحجة شرب الشاي أو القهوة.
وعندما عدنا إلى منازلنا وجدنا الهدية الرمزية ننتظر عند الباب عندها عرفنا من هو الكريم الخفي.. الذي انكشف سره حينما جاء في زيارة بحثية إلى المنطقة حاملاً هديته، وعندما همَّ بوضعها بجانب باب المنزل، وجدني بانتظاره دون سابق موعد، عندها اعترف بأنه الزائر الخفي، ولكنه اعتذر عن الدخول؛ عندها خيرته بين أمرين؛ إما الدخول أو الانتظار ليخرج والدي - رحمه الله - الذي كان يعاني من مشكلات صحية للسلام عليه. عندها آثر أن يعفي الشيخ الكبير من المشقة، وكانت جلسة تاريخية أدبية نادرة تخلى من أجلها عن شيء من وقته وبرنامجه احتراماً لوالدي الذي شهد معنا أول لقاء مع صاحب مطلة منذ أكثر من عشرين عاماً.
خلال مدة هذه الصداقة التي امتدت أكثر من عشرين عاماً. كان هناك لقاءان خاصان به مع صاحب مطلة امتدا من بعد صلاة العشاء إلى قريب الفجر. كان رفيقنا في اللقاء الأول الراوية محمد بن إبراهيم المجيدل - رحمه الله - الذي عايش كثيراً من الأحداث التاريخية وشارك فيها في تلك الليلة التاريخية، ترك صاحب مطلة زمام الجلسة بيد ضيفه ليقود الحديث في هذه إلى أي شاطئ يريد، واكتفى بإحضار جهاز التسجيل، وتحول من متحدث إلى صحافي يسأل والشيخ المجيدل يجيب عن أحداث ووقائع كانت في غاية الأهمية وجهاز التسجيل يحفظ.
وفي اللقاء الثاني كان رفيقنا الشيخ عبدالرحمن السدحان إمام الجامع في شقراء، وكانت لصاحب مطلة معرفة سابقة به، إلا أنها كانت المرة الأولى التي يلتقي به فيها في عنيزة.
في تلك الليلة أيضاً آثر صاحب مطلة أن يكون مستمعاً أكثر منه متحدثاً، فضيفه هذه الليلة كان علامة في تاريخ منطقة الوشم وبالتحديد شقراء وآدابها الشعبية، ونوادرها وحكاياتها. والخطوات البدائية للتعليم فيها حيث كان من تلاميذ الشيخ عبدالمجيد الجبرتي رحمه الله.
كان الليل قصيراً، إذ كانت الزيارة صيفاً. وكان صاحب مطلة يتمنى لو يطول الليل أكثر. ولهذا طلب منا تنظيم زيارة أخرى شريطة أن يكون موعدها أطول ليل في الشتاء؛ لكي يحلو السمر، وكان وعداً قطعناه على أنفسنا لكنه للأسف لم يتم للحالة المرضية لصاحب مطلة التي امتدت شهوراً طويلة حتى توفاه الله.
لعلي لاحظت في الزيارتين الخاصتين اللتين أشرت إليهما سابقاً أنه لا يكتفي باستضافتنا على العشاء. بل يصر على أن نتناول طعام الإفطار عنده، وأن نحضر في تمام الساعة السابعة تماماً.
عندما نحضر لاحظنا أنه يقدم إلينا الحليب والقهوة والشاي. ويقوم بتكرار التقديم عدة مرات. أما طعام الإفطار فمؤجل لما يقرب من ثلاث ساعات حتى كاد يتحول إلى وجبة غداء مبكرة قليلاً.
حينما سألته عن السبب قال: لو عجلت الإفطار لعجلتم بالسفر لذا تعمدت تأجيل الإفطار لأستمع أكثر من الراوية محمد المجيدل رحمه الله والشيخ السدحان أطال الله عمره.
وحسب معرفتي بصاحب مطلة في إصراره أن يكون مضيفاً لا ضيفاً وممانعته في الاستجابة للغداء أو للعشاء، إلا أنه اضطر عند زيارتنا له مع الشيخ عبدالرحمن السدحان إلى حضور غداء الأخ عثمان العضيبي من أجل أن يستمع أكثر إلى ضيفه لتعويض قصر ليلة الصيف.
هكذا كان صاحب مطلة كما عرفته.. تاركاً الحديث عنه في مجالات إبداعه الأخرى لمن عايشوه أعواماً أطول واستمعوا إليه أكثر.
رحمك الله يا أبا إبراهيم، لقد كنت المثقف غير المرئي كما كتب عنك الأستاذ محمد رضا نصر الله بعد زيارته لك في مطلة أيام حرب الخليج الأولى.


* مؤرخ وباحث وشاعر - أشيقر

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved