الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

سيِّد المجالس
عبدالله محمد الغذامي*

لن ألوم أحداً من القراء والقارئات فيما لو ظنوا بكلامي عن عبدالرحمن البطحي الظنون واتهموني بالمبالغة وتكبير الكلمات، وقد يرون أن المحبة والتقدير الخاصين لهذا الرجل هما الباعث على الثناء، لن ألوم أحداً يقول ذلك، فكل مَن لم ير عبدالرحمن البطحي ولم يجالسه لن يتصور صدق الكلمات في حقه ولن يتصور تعداد الصفات فيه.
أما أنا فقد جالست الرجل مدة تزيد على أربعين عاماً وقد تلامس الخمسين، وعرفته جاراً لنا مثلما عرفته أستاذاً ومعلماً وراعياً للنشء، وكان صاحب عين ثاقبة يرى التميّز والنبوغ في وجه الطفل الصغير ثم يبدأ في رعاية الصغير وتوجيه بوصلته الفكرية حتى ينضج. وهذه سيرة تربوية عرفناها عنه، وهي على جلالها لم تكن هي الجالب لهذا الإعجاب الكبير لعقله ولشخصيته.
إن القصة هي قصة مجلس من نوع خاص جداً، وعبدالرحمن البطحي هو المجلس والجلسة، وهي جلسة امتدت عمره كله، في كل ليلة من ليالي حياته، يضاف إليه صبحيات وضحويات الإجازات، حتى ليالي العيد والجمعة وحتى ليالي البرد والمطر. كان المجلس مفتوحاً، وفيه كانت الحكاية كلها.
لو قال لك قائل إن هذا المجلس يذكره بمجلس سقراط مع تلاميذه، ولو قال قائل آخر إنه مجلس يشبه مجلس الأصمعي، ولو قال ثالث إنه مجلس يشبه مجالس مضارب البادية والسمر، ولو قال قائل إنه مثل مجالس العقاد، ولو قال آخرون إنه جامعة مفتوحة، لو قال هؤلاء كل هذه التشبيهات لصحت كلها، ولكل من هذه التشبيهات وجه وصواب.
ولو قلت لكم إنني في مجلس عبدالرحمن البطحي عرفت الناس في كل طبقاتهم، من الفلاح إلى الطالب إلى السياسي والمؤرّخ والمفكر، ولو قلت لكم إنني إذ فقدت مجلس أبي إبراهيم فإنني أفقد صلتي الوثيقة بالنماذج الاجتماعية فلا تظنوا أنني أبالغ، لقد كان هو صلتنا كلنا ببعض، وهو ظلنا وخيالنا مثلما هو عقلنا.
في مجلسه يتنوّع الحضور، ولكنك تسمع صوتا واحداً فقط، إنه هو، وعنده تنتهي شهية الكلام، ويتنازل كل منا عن كل أنانيته واستعراضيته وعن قدراته ويؤجل ذلك إلى حين ينتهي المجلس، فالجميع يأتي لسماع أبي إبراهيم وتوجيه السؤال له.
وهنا تنشأ اللعبة كلها فمن يبادر بطرح سؤاله من بداية الجلسة هو الذي سيقرر مصير تلك الليلة أو الضحوية، وأنت مع أبي إبراهيم لا تحتاج إلا لتقديم السؤال والباقي عليه وعلى الحاضرين في المجلس، مع رسم تلقائي للأدوار، فلهم الاستماع ومتابعة الموضوع بمزيد من الأسئلة وتفريعات لها، بينما يتولى أبو إبراهيم الباقي. ولله كم هي لحظة مشرقة تتجلَّى فيها ابتسامته وتتهلّل قسمات وجهه ويطير محلقاً كنسر مجنح أو كفرس منطلق، حينما يأتي سؤال ذكي ولماح وجديد، حينها ترى عبدالرحمن البطحي يحلِّق في سماء الجلسة مثل الخيال أو أخف، ثم تسمع العجب العجاب، من فكر وفلسفة وتاريخ ورأي.
تأتي متعة الجلسة معه حينما تتحداه في أمر من أمور الثقافة والخبرة، ليكن عن أمراض النخيل أو عن تاريخ نوع منها وكيف جاء ومتى جاء وما حكايته، وليكن عن أمر من أمور السياسة وطوارئها، وليكن عن الفيزياء - ولقد تعلمت منه أموراً في الفيزياء لم أكن لأعرفها لولا استطراد طريف قاد إليها، ثم عزَّزها سؤال استيضاحي - وكذا الحال مع الفلسفة وعلوم الدين والعقائد والمذاهب والطوائف، وهي الحال نفسها مع الإنسان وتاريخ العرب والخيول والحروب والأشعار والروايات، وحينما كنت أبحث في موضوع كتابي (النقد الثقافي) جلست مع أبي إبراهيم جلسات لأعرف منه أموراً في الثقافة الشعبية
ودلالات الكرم والضيافة وشعر المديح، مما أفادني كثيراً، ولقد سجلت شكري له في مقدِّمة الكتاب، كما أنني كنت - وما زلت - أعد العدة لبحث مطول عن القهوة، ولقد تحدثت معه مراراً ومراراً، وأخذت عنه فيه أموراً كثيرة في رموز البحث ومجازاته، حتى وهو على سرير المستشفى، حيث استمر حديثي معه حول هذا الأمر كلما سنحت فكرة استطرادية تجلب معنى أو تحيل إلى إشارة مفيدة لهذا الموضوع، ومرة قال لي فكرة وهو يعتصر من شدة الألم وعجز عن إتمامها بسبب الألم الذي كان في صراع معه لحظتها، وكان الألم يعصره وهو يقاوم، وكنت أرى ذلك ولم يتركني - رحمه الله - أدفع به إلى ترك الموضوع، كان يصارع من أجل أن يقول لي الفكرة، وكأنه يتسابق مع الموت كي يغرس شجرة قبل قيام القيامة، وجاء هاتف شغله وأنهاه، فنسي المسألة وتركته ينساها شفقة عليه من المكابدة، ولكنني بعد أن ودعته وذهبت تفاجأت بهاتف منه على منزلي بعد ساعات من تلك الزيارة، وقد اتصل يعتذر عن انشغاله ونسيانه، ثم أخذ يتكلم معي بشأن تلك الملاحظة ويدقق في معانيها، ولقد سجلت ذلك كله وسأشير إليه - إن شاء الله - إذا كتبت بحثي عن القهوة.
وأنا إذ فقدت عبدالرحمن البطحي لا أفقد شخصاً ولا أفقد صديقاً ولا أفقد رجلاً كريماً ورمزاً ثقافياً عالياً فحسب، وإنما إضافة إلى ذلك كله أفقد علاقة مع المكان والزمان، فعنيزة بالنسبة لي هي بلدة أبي وأمي، وكنت أذهب إليها لأجلهما، ثم لما رحلا إلى ربهما، صرت أشعر بفقدان صلتي بعنيزة وأشعر بانقطاع سبب علاقتي بها، ولكن عبدالرحمن البطحي هو العوض، وكان لي هو زينة المكان وطعمه ورائحته، وآخر مرة زرت فيها عنيزة كانت في عيد الأضحى الماضي (1426هـ)، ذهبت هناك لمدة أربع وعشرين ساعة، وفيها ذهبت إلى مجلس أبي إبراهيم، وكانت صحته وقتها ليست على ما يرام، وحينما دخلت على مجلسه وكان عامراً بالناس، حاول أن يقوم متحاملاً على نفسه للسلام علي وحاولت منعه من القيام لكنه قام وسلَّم وتهلَّلت نفسه، وشكرني إذ جئت إلى عنيزة وقد ظن أنني قد قطعت مع المكان بعد وفاة والدتي، ورددت عليه بأن قلت إن سبعين بالمائة من زيارتي هي لك وبسببك، والباقي من أجل بناتي لكي يشعرن بالعيد، ولقد تهلَّل وجهه مصدقاً لقولي وهو يعلم صدقي وصداقتي له. وهو الرجل الثاقب البصيرة الذي يقرأ الكلمات ولا تفوته الملاحظة وتمييز الصدق من المجاملة.
راح السبب وراحت الصلة وانقطع الكلام وأغلق المكان بعدك يا أبا إبراهيم، ورحمة الله عليك أيها المؤمن العميق في إيمانه، والصادق الصادق في قوله وفعله، وأنا لست أبالغ وكل من عرف أبا إبراهيم أو حضر له مجلساً، يعرف أن ما قلته هو حق وحقيقة. ورحمة الله عليك يا سيد المجالس، هو رجل انقطع فليس له ذرية تخلفه وليس له كتب تشهد على عبقريته، ولكنه خالد فينا وبنا وعبرنا. ولله ما أخذ ولله ما أعطى.


* الرياض

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved