الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

(أبي والبطحي) و(أنا وسُريج التنك)
أ. د. عبدالله بن عبدالرحمن الربيعي

قبل أن أطبع كتابي (صناجة عنيزة: الراوية عبدالرحمن بن إبراهيم الربيعي 1309 - 1402هـ) عرضته على أستاذي أبي إبراهيم البطحي عليه شآبيب رحمة الله، فقال: أعطني قلمك الأخضر لأنني لا أريد أن أصوب ما أراه خطأ باللون الأحمر، وهذا تواضع منه أمام تلميذ من تلاميذه لم يغير حرفي الألف والدال من وضعه أمام من لهم حق عليه، وتسلمت (البروفة) وقد اخضرت صفحاتها: تصويباً وتعديلاً وإضافة وحذفاً واقتراحاً وتلطيفاً وتخفيفاً، فكانت لهذه العمليات التجميلية أثر في تقبل القراء للكتاب.
وكنت في عام 1410هـ قد وزعت خمسين استبانة على خمسين شخصية من أصدقاء الوالد رحمه الله، فكان أبو إبراهيم أسبقهم إلى الإجابة وأصدقهم في الأحكام في ثماني صفحات بخطه الجميل، وقد أجاب عن السؤال الأول عن بداية علاقته بالوالد بقوله: (التقيت به أو بمفهوم أصح اجتمعت بوالدكم في أول الثمانينيات (الهجرية) من خلال أحد الأصدقاء وهو الشاعر حمد بن محمد الجابر (رحمه الله)، ثم توالت الاجتماعات واللقاءات حتى تاريخ وفاته تغمده الله برحمته، هذا بالنسبة إلى اللقاء، أما مجرد المعرفة فأنا أعرف عنه وأسمع قبل ذلك بكثير، إذ كان في فنه علماً من أعلام المجتمع العنزي) انتهى كلامه رحمه الله، وما بين الأقواس إضافة مني. لقد ظل والدي وأبو إبراهيم ينظر كل واحد إلى الآخر نظرة إعجاب وتقدير وقلما يمر أسبوع دون أن يلتقيا، كانا يتبادلان الكتب، وقد وجدت في مكتبة الوالد - بعد وفاته - ديوان المتنبي في أربعة أجزاء وعليها اسم البطحي، فرددتها إليه فامتنع معللاً ذلك بأنها هدية والهدية لا ترد، وكثيراً ما كان والدي يردد على أسماع الناس أن البطحي ليس مجرد مفكر وأديب ومحب للشعر بل شاعر، وهذا ما كان أبو إبراهيم ينفيه، والذي جعل والدي يؤكد ذلك إبداع البطحي في حفظ القصائد العامية وإنشادها ونقدها واكتشاف أخطاء النساخ أو تبديل الحفاظ، ولم يدرك الناس ذلك إلا بعد أن أذن البطحي بتداول ملحمته (هذي عنيزة) التي أهداها (إلى كل من ألحّ عليّ بإخراجها خاصة وإلى عموم أبناء عنيزة ذكوراً وإناثاً).
وقال في افتتاحية ملحمته تلك: (لكل إنسان الحق المطلق بأن يفخر ويعتز بتاريخ بلده، وبأفعال أهلها المتميزة - إن وجد - لا يقصد الادعاء ولا يقصد التعالي على الغير، والاستهانة بهم، وإنما بهدف ممارسة الحق الطبيعي وتثبيته، ومن يدعي احتواء الفضل، ومبررات الفخر وحده دون غيره فهو تافه مغرور كالديك الذي يظن أن الشمس لا تشرق إلى لكي تستمع الى صياحه). كانت هذه الملحمة الشعبية إسهاماً بمرور مئة عام على دخول عنيزة في منظومة الملك عبدالعزيز ناسج الوحدة الوطنية، ومحرر الإنسان السعودي من قيود الخوف والتخلف والشتات، أما محتواها فيغطي أحداثاً تاريخية امتدت بين عامي 1182هـ - 1322هـ وهي مؤلفة من نحو مئة وخمسين بيتاً، وأكثر من سبعين تعليقاً تاريخياً، واشتملت على أسماء كثيرة لأعلام ومواقع ومعارك، وكانت له آراؤه في الحوادث التاريخية يخالف فيها كثيراً من المؤرخين ومن أبياتها:
يشعاه أبو تركي كما ذيب امفيد
امثلِم اخشوم طغاها شالها
اللي بعزه لبست الثوب الجديد
لملم نزايعها أو شد اعقالها
ويعني الملك عبدالعزيز رحمه الله.
أما معرفتي بأبي إبراهيم، فتعود إلى سنة 1389هـ عندما اصطحبني أخي العزيز عبدالعزيز بن عبدالله الزيادي - حفظه الله - إلى المدرسة العزيزية بعنزية ليسجلني في الصف السادس منقولاً من مدرسة حسان بن ثابت في الرياض، فقد احتفى بي مدير المدرسة الأستاذ عبدالرحمن البطحي، ومنحني اهتماماً شأني في ذلك شأن الكثيرين من تلاميذه، لقد كان شخصية إدارية تربوية فذة، الطالب النجيب يحترمه ويجله، والطالب المتهاون يستحي منه ويخشاه، يجمع بين العقاب والثواب، شديد الملاحظة، لماحاً، قوي الإرادة صريحاً، دقيقاً في المواعيد، حريصاً على الإنتاجية، يشجع تلاميذه على المنافسة الشريفة في المسابقات الثقافية التي تجري بين دراس المدينة. يشرف على تقوية مستوى الطلاب، وإذا لزم الأمر جمعهم في المساء ليلقي دروساً في التاريخ وغيره بروح علمية وطنية.
لا أريد أن أسهب في البطحي التربوي، ولكن أود بسط القول عنه مفكراً وطنياً، ومحيطاً بأنساب القبائل ومراحل تاريخنا الوطني، لقد نشأ في عنيزة إبان الخمسينيات والستينيات الميلادية جيل مثقف تأثر بالرياح الفكرية التي واكبت تلك المرحلة التي شهدت صراعاً بين العرب واليهود الغربيين في فلسطين، وظاهرة عبدالناصر، وكارثة 1967م، وكان البطحي يقرأ الحاضر ويستشرف المستقبل بناء على معطيات الماضي، كان يتتبع مواطن الخلل، ويتابع الأخبار ويقارن بين مصادرها؛ يطالع الصحف والمجلات، يتصفح كتبه ومراجعه، فلديه مكتبة زاخرة بكتب تشكل مراحل تفكيره، لم يكن ذا عاطفة جياشة تتحكم في مواقفه بل كان يحكم عقله، لذا فهو يناقش على قواعد عقلية (بما أن.. إذن) وأذكر أنني بدأت مطالعة كتب الأدب في المرحلة المتوسطة، وكنت أسمع من يتهم معروف الرصافي في عقيدته، فسألته: يقولون عن الرصافي كذا وكذا! ففاجأني ببرد لم يتوقعه تلميذ من أستاذه. قال لي: (إن داخل رأسك (سريج تنك) ولا بد من تنويره بنور العقلانية والتفكير السليم، يا بني: لا تعول في أحكامك على (يقولون)، ولست بصدد الدفاع عن الرصافي أو غيره، ولكنه الطرف الغائب في القضية وعليك قراءة قصيدته في ديوانه لتجد الإجابة:
رماني القوم بالإلحاد جهلا
وقالوا عنده شك مريبُ
فمن ذا منك قد شق قلبي
وهل كشفت لكم فيّ الغيوبُ
فعند الله لي معكم وقوف
إذا بلغت حناجرها القلوبُ)
كان درساً قاسياً لن أنساه، أفادني في مسيرتي فلم ولن أصنف الناس عقدياً؛ لأنني لا أعلم الغيب ولا أزكي نفسي ولا أحداً على الله وهو حسيبنا.
كان مجلسه منتدى أدبياً، يغشاه الشيخ والشاب، المثقفون والدهماء، الراعي والفلاح، ما جعل بعضهم يتساءل عن السر وراء هذا الإقبال والاستمرار! وأخذ المصنفون يتلمسون بالظلماء أسباباً، يوحون إلى مريديهم بما يريدون حسداً من عند أنفسهم، فقالوا عنه: قومي عندما كانت القومية كفراً، واتهموه بالوطنية حينما كانت وزراً، وانشغلوا في تشخيصه عن التسامي إليه، وقعدوا عن السير في ركابه، وفضلوا أن يقفوا على قارعة الطريق والقافلة تسير وهم يصمونها بالفلسفة ولم يدركوا كنه هذه اللفظة اليونانية (حب الحكمة)، ثم زالت الغشاوة عن تلك العيون، فأدركوا أنهم جهلوا فعادوا ثم علموا فعادوا، فألفوه علماً لم يعش لذاته، ووطنياً أحب هذا الوطن؛ نجده وحجازه وشماله وجنوبه وشرقه، أحب فسيفساءه، فاستقبل بحفاوة كل قادم؛ لأنه يؤمن أن الهوية الوطنية لا درجات لها ولا مذهبية فيها، والسر وراء جاذبية البطحي كمتحدث قدرته العجيبة على إشراك الحضور في موضوع واحد على رغم اختلافهم ثقافياً، موزعاً نظراته على الجميع، مسترسلاً، وربما خرج عن الموضوع الأساس لكنه لا يبرح أن يعود إلى النقطة التي وقف عليها بأسلوب شيق ينم عن متحدث متمكن واثق بنفسه وبذاكرته.
أما البطحي مؤرخاً، فلي فيه رأي لا أخاله يجانف الحقيقة، فلم يدع - رحمه الله - بأنه (مؤرخ) بالمطلق، فليست له مصنفات ولا إسهامات صحفية أو ندوات أو مؤتمرات لأنه ليس أكاديمياً ولا يضيره ذلك، بل هاوٍ وعاشق للأدب والتاريخ والشعر والفلسفة، وهذا وأيم الله هو الذي حرره من أسر التخصص وقيود النعوت، فانطلق في آفاق المعرفة حراً طليقاً، بعيداً عن الأضواء والمناسبات والضوضاء الإعلامية، وأسجل هنا الفوز الذي حققه الأستاذ محمد السيف حيث استطاع مقابلته في جريدة الاقتصادية، لكن البطحي يعد من نقاد التاريخ الوطني؛ لأنه يملك مخزوناً ضخماً من الشواهد المادية والمكتوبة، وعاصر شهوداً عياناً فأخذ منهم، وله آراؤه في كثير من المسلمات التاريخية.. برز ذلك جلياً في تهميشاته على الكتب المنشورة لأكاديميين وغير أكاديميين، وأيضاً في توجيهاته للباحثين الشباب مثل الأستاذ علي الصيخان الذي يعد كتاباً عن أسر بني خالد في عنيزة، فقد ورد على مورد البطحي يستقي منه معلومات قيمة، وقد سمعت أبا إبراهيم يثني على هذا الأنموذج مبرراً ذلك بأنه يعتمد على الوثائق لا على التخمينات.
وعلى رغم أنني لا أميل إلى مثل هذه الدراسات التي تصنف الشعب السعودي إلى قبائل، ولا أميل إلى (مشجرات الأنساب) التي انتشرت - هذه الأيام - بكثرة، إلا أن أبا إبراهيم لم يؤيدني في ذلك، وذكر أن كل أسرة لا بد أن تنتسب إلى جد، وبالضرورة فإنه متصل بآدم، وما بين الاثنين سلسلة يعتريها النقص والسهو والنسيان، فيظل الإنسان مرتبطاً بالجد الأبرز، ومن هنا فهناك أسر تنتهي إلى قبيلة، وأسر تنتمي إلى جد، ومن حق هذه وتلك أن يكون لها (شجرة) لكي تضمن تعارف الأجيال، وصلة الرحم لا الفخر والتعالي.. فأبو الجميع واحد.
ولا شك أن إتقانه للسان الإنجليزي قراءة وتحدثاً مكنه من الاطلاع على الثقافات العالمية، فكان مدركاً للتغيرات التي حدثت في الشرق والغرب وبخاصة منذ عصر النهضة الأوروبية إلى القرن العشرين.. متابعاً تطور النظريات العلمية والسياسية والاقتصادية، وأود أن أشير إلى أن سفره إلى لبنان - أول مرة - عام 1374هـ كان للعلاج، وقد استغل مدة وجوده في بيروت التي قاربت عاماً ونيفاً بدراسة اللغة الإنجليزية والتقاء نماذج من أدباء لبنان ومفكريها، ثم عاود السفر إلى بيروت مراراً، وكوّن منها معظم مكتبته، وجل مطالعاته، لهذا يمكن أن يصنف البطحي بالمثقف الشمولي، لقد كان يأنس بالشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله، وكثيراً ما عرض عليه وجهات نظره في مسائل خلافية.
أما وقد ودعناه إلى مثواه البرزخي، فإني أتطلع إلى أن تظل (مطلة) هذا الموقع الجميل الذي يطل على الموقعين الأثريين (القريتين)، أقول لعل مطلة تظل (مركز إشعاع ثقافياً) يجمع فيه تراث البطحي، ويضم معرضاً دائماً مصوراً عن عنيزة منذ مطلع القرن العشرين فصاعداً ليكون ذاكرة مقروءة يسهم فيها الجميع، وقد أخبرني الأستاذ محمد القشعمي أنه بصدد إخراج كتاب عن الأديب الراحل، وأدرك أن أبا يعرب متمكن في فن كتابة السير، وأود أن تتعاون أسرة الفقيد ومحبوه في تزويده بما لديهم. وللقائمين على هذا الملف، وللقراء تحياتي.


* أستاذ العلاقات الحضارية - أستاذ الدراسات العليا - كلية العلوم الاجتماعية - قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved