الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

عصر البطحي
فيصل بن عبدالله القصيمي *
التحقت بعملٍ طبي قصير في مستشفى الملك سعود بعنيزة منذ حوالي أربعة عشر عاماً، وقد قام زميل بالمستشفى بدعوتي إلى زيارة الأستاذ عبدالرحمن البطحي في بيته، وكان كل ما أعلم وقتها أنه مدير مدرسة متقاعد وجلس ثلاثتنا على الأرض نحتسي الشاي ولم أكن أدري وقتها بمكانة الرجل.
وتحدث البطحي عن الأمم والممالك، والحرب العالمية الأولى، وأحوال نجد وحروبها، ومنازل القبائل والوديان، ودروب الصحراء والهجر والماء والطير والحيوان، وغدر العرب ونخوتهم، ودهاء نفوسهم وسماحة قلوبهم، وكان حديث البطحي كالسحر، وطار عقلي وجسدي كأنني أعيش لحظة أن أغار لورنس العرب على العقبة أو نسف خط حديد الحجاز، أو أسمع أهازيج وأشعار الاخوان وهم يواجهون طائرات الإنجليز ومدافعهم الرشاشة التي لم يعرفوها من قبل، وكيف اصطدمت قوة العقيدة بجبروت العلم والحديد والنار يصبها الإنجليز من آلاتهم، وكيف اهتزت القلوب وقتها وزاغت الأبصار وتعثرت الخطى.
وبعد أيام جاء البطحي ليتطوع باصطحابي في جولة في قرى وخبوب القصيم، وكان الهدف الظاهر من هذه الجولة هو أن أشاهد خب الحلوة - مسقط رأس الوالد عبدالله القصيمي - والهدف الكامن (كما أدركت بعدها) هو حنين البطحي للأرض والبيوت القديمة والمكان والرمال والأطلال.
وبعد خب الحلوة تجولنا في إحدى القرى المهجورة، والبطحي يرسم حياة الناس وماضيها في البيوت الخربة، وكأنه يستحضر طفولته ويوغل في صراع الآباء والأجداد مع شح الماء والغذاء وقسوة الحياة، وطار الرجل طرباً عندما اكتشف أحد الأبواب الخشبية القديمة الذي ما زال قائماً على بيتٍ خرب، وراح يسهب في شرحه لأساليب نحت الخشب التقليدية واختلافاته من منطقة لأخرى.
وقد جاء البطحي بين عصرين، عجيب أمر البشر! في الأيام الأولى قبل مجيء طفرة السبعينيات الميلادية كان هم الناس - وهم فقراء - أن يتعلموا حباً في العلم وأن ينفعوا غيرهم من البشر وأن يدفعوا مجتمعاتهم للرقي، وبعد الطفرة تكالب الجميع على الشهادات وصار حاملو الدكتوراه أكثر من ميكانيكيي السيارات وصارت قيمة الرجل تقاس بما جمع من مالٍ أو أدلى بتصريحٍ في جريدة، وما بالك لو نشرت صورته مع التصريح.
لقد كان البطحي كما كان لأنه نتاج عصر كان أكثر مثالية من عصرنا، ومن مدينة عنيزة التي اشتهر أهلها بالتواضع وحب الثقافة، ولكن هذه وحدها ما كانت تكفي لو لم يكن الرجل فريداً في صفاته وسعة أفقه ونبل ذاته، ما أجمل أن يلتقي الزمان والمكان والذات!
رحم الله الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم البطحي وأحسن عزاء أهله وتلاميذه ومحبيه، ولربما يكون أفضل تخليد لذكراه أن يؤلف أحد تلاميذه كتاباً عن حياته ومواقفه ليحفظ للرجل بعض أفضاله.


* جامعة الملك سعود

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved