الاقتصادية عالم الرقميمجلة الجزيرة نادي السياراتالرياضيةالجزيرة
Monday 08th January,2007 العدد : 181

الأثنين 19 ,ذو الحجة 1427

العلم الطبيعي والإيمان بالله 2-2
العقيدة في العلم الطبيعي
د. صلاح كنه

حدثنا في الحلقة السابقة عن تعريف العقيدة، وأن (العقيدة) ضرورة للحياة وللعلم، وأن (التوحيد) من أهم عقائد العلم الطبيعي، وأن النظريات العلمية تحويل للحقائق إلى عقائد، واختلاف العقيدة العلمية عن العقيدة الدينية، كما ذكرنا أمثلة لفوائد وجود عنصر (العقيدة) في العلم الطبيعي.
وننتقل إلى أهمية العقيدة في مواقف العلماء، وهنا تلح شخصية ألبرت آينشتاين على الذهن، لأنه أكثر من عبر عن هذه الأهمية... وأنها ضرورة للعالم ليبدع وينجز، وكثيراً ما كان يردد بأنه لا يستطيع أن يتصور عالماً حقاً دون عقيدة علمية فائقة يتحلى بها، وأن التفكير البحت الذي لا يهتدي بعقيدة لا يؤيدي إلى النتائج النهائية (1)، وإن علماً بلا دين علم كسيح، ودين بلا علم دين ضرير(2)، وكان يصف تلك العقيدة العلمية على أنها (شعور ديني كوني)
Cosmic Religious Feeling.
(3)
قد يغري ما ذكرنا بأن نخلط العقيدة العلمية بالعقيدة الدينية لتكون العقيدة العلمية للعالم مؤشراً لعقيدته الدينية، وقد نضمن أن آينشتاين امتاز بعقيدة دينية كما امتاز بعقيدة علمية راسخة.
لكن الواقع غير ذلك، فالعقيدة العلمية غير العقيدة الدينية، بل إن عقيدة آينشتاين الدينية عقيدة ترفضها الأديان السماوية، لأن إله آينشتاين - كإله إسبينوزا - لا وجود له خارج الطبيعة (4)، ولا يتدخل في الأحداث التي تطرأ على الإنسان.
هذا ويتعين أن نتذكر هذه الحقيقة حين يذكر آينشتاين اسم (الله) God كما سيأتي، فمما يعرف عن عقيدة آينشتاين العلمية أنها ترفض العشوائية والاحتمالات في عمل الطبيعة، لذا لم يتقبل مبدأ الارتياب في نظرية الكم، ولا يجوز أن نخلط إله آينشتاين بإلهنا الحق سبحانه الذي يتمتع بوجود ذاتي خارج النظام ويقرر الأحداث التي يعاصرها الإنسان.
قد لا تكون لآينشتاين مبرراته - المرفوضة طبعاً - فحين كان في الثانية عشرة من عمره قام بمقارنة الحقائق العلمية بما ورد في الإنجيل ووجد تناقضاً مزعجاً أفقده الثقة بالأديان (1)، كما أنه رأى أن الإله الذي لا يتدخل في شؤون الإنسان يكون بريئاً من وجود (الشر) في الحياة (2).
لا يهمنا هنا سلامة العقيدة الدينية لآينشتاين أو لغيره من العلماء، ولكن ما يهمنا هو أن نكشف ما للعقيدة العلمية من دور رئيس في إنتاج العلماء وإنجازاتهم، فهذه العقيدة تمد العالم بالطاقة والحماس ليتحمل عناء أبحاثه، وتوحد مفاهيمه نحو الظواهر المختلفة، كما توجه أفكار العالم وتحدد المسارات الذهنية التي تسوق إلى إبداعات العالم واكتشافاته العلمية.
ولتوضيح أثر العقيدة في إنجازات العلماء نأخذ مثالاً من عالمين تناولا ونظرا في قائمة الملاحظات ذاتها ولكن من خلال نافذتين وعقيدتين مختلفتين. العالمان هما (جوهانز كبلر) وأستاذه (تيكو براهي) وقائمة الملاحظات هي ما رصده تيكو براهي عن حركة الأجرام السماوية. وهنا نجد أن العقيدة العلمية التي اتخذها كبلر (3) هي التي أتاحت له اكتشافاته في حركة الكواكب، فقد كان (يعتقد) في وجود نظام منطقي رياضي قابل للبحث العلمي في حركة الكواكب، في زمن كانت العقلية السائدة فيه ترفض إخضاع السماء للدراسة العلمية، وتقول إن الأرض محور الكون، وإن الله يمسك بخيوط السماء ويحركها بنفسه لا عبر لوائح وقوانين وضعها ويمكن البحث فيها ودراستها. وعقيدة كبلر العلمية المتحررة من العقلية السائدة في عصره هيأت له أن يكتشف في ملاحظات أستاذه تيكو براهي ما لم يستطع تيكو براهي نفسه أن يكتشفه، وهو.
المسارات الإهليليجية لحركة الكواكب، والقوانين التي تتحكم فيها. أما أستاذه تيكو براهي (1) فقد كانت عقيدته العلمية ترفض أن تكون الشمس محوراً لحركة الكواكب، لذا لم تكن عقيدة (براهي) حافزة لإبداع علمي. كان تيكو براهي يملك المواد العلمية المطلوبة لإقامة بناء القوانين التي تتحكم في حركة الكواكب، لكن المواد العلمية البحتة لا تؤدي إلى الغايات النهائية إلا إذا اقترنت بعقيدة مناسبة، مثل: من يريد القفز بالزانة، فإن العلم يوفر له الزانة، لكن القفزة لا تتحقق علمياً حتى تتحقق في الذهن أولاً، وهذا التصور الذهني للقفزة قبل بدئها يمثل العقيدة العلمية، والعقيدة العلمية للعالم تمثل القاعدة الفكرية التي يقوم عليها كل نشاطه بوعي وبغير وعي منه، وهي التي تحدد اتجاه العالم في أبحاثه.
ذكرنا أن العقيدة العلمية تختلف عن العقيدة الدينية اختلاف النظام عن خالق النظام، لكننا حين نلج دائرة الإسلام نجد وضعاً فريداً، إذ نجد العقيدة العلمية امتداداً للعقيدة الدينية، ذلك لأن العلم في الإسلام جزء من الدين، ويمثل محاولة لقراءة كتاب أبدعه الخالق، وتتبعاً لخطوط رسمها في لوحة فنية رائعة تنضح ذكاء إلهياً وملامح العقيدة العلمية المتشبعة بروح الإسلام هي أنها تقوم على الواقع والفكر، والرؤية الموضوعية العقلانية المتحررة من قيود التقليد، فلا غرابة إذن في أن العلماء الذين تخرجوا في هذه المدرسة هم الذين وضعوا المنهج العلمي التجريبي، ولأن العقيدة العلمية للعالم المسلم امتداد لعقيدته الدينية فإننا لا نتعجب حين يقول محمد عبدالسلام في حفل تسلمه جائزة نوبل إنه يدين بإنجازه العلمي لعقيدته الدينية.
***
خلاصة القول إن الإنجاز العلمي مزيج من فكر وعقيدة وتجربة وملاحظة، فالعقيدة ليست كائناً نادراً أو غريباً في عالم العلم الطبيعي وإنما هي كائن كثير الظهور فيه على الرغم من أنه عالم معادلات رياضية وكلمات موجزة يعبر بها العلم عن القوانين التي يفرزها، وأكثر ما تظهر العقيدة في العلم الطبيعي في الأسس الرئيسة التي يقوم عليها، وفي النظريات العلمية ومواقف العلماء.
وعلى سبيل المثال انقسم علماء العلم الطبيعي في العقود الأخيرة إلى فئتين، فئة تؤمن بنظرية الأوتار الفائقة وتحضر مؤتمراتها، وتعدها أهم نظرية علمية أفرزها العلم الطبيعي، وفئة أخرى ترفض النظرية وتقاطع مؤتمراتها، وتعدها نظرية عقيمة لا طائل منها، وتعد البحث في النظرية مضيعة للوقت.
وما اتخذ الإنسان هذه العقائد العلمية إلا لأنها تعمق وتوسع فهمه واستيعابه للكون وللطبيعة التي تحاصره. كما أن اعتزاز الإنسان بنفسه وكبريائه لا يحتملان أن يبدو جاهلاً ببعض ما يحيط به من مظاهر الوجود. لذا لا يجد الإنسان بأساً أو حرجاً في الاستعانة بالعقيدة عوناً للعلم لشد أزره وسد ثغراته.
فإذا كان الإنسان يفتقر إلى مختبر يحتكم إليه لمعرفة وجود الروح مثلاً، فإن ذلك لا يضيره في أن يوسع القاعدة العلمية لتتسع لعقيدة تقرر وجود الروح، لأن وجودها يفسر الوحدة التي تمثل الكائن المكون من مختلف الأعضاء. والمنهج العلمي لا يرفض هذه التوسعة وهذا الافتراض لأنه لا يناقض واقعاً أو حقيقة قائمة أو أساساً من أسس العلم الطبيعي.
فإذا كنا نتخذ النظريات العلمية عقائد لتفسير ظواهر وحقائق تواجهنا، فالأجدر أن نتخذ عقيدة تفسر أهم ظاهرة تواجهنا، وهي وجودنا ووجود الكون، فكما لا يستقيم العلم الطبيعي دون عقيدة أو يتم إبداع العلماء دونها، كذلك لا تستقيم حياة الإنسان دون عقيدة شاملة توجهها كما وجهت العلم والعلماء.
***
تحدثنا في هذا الفصل عن العقيدة في العلم الطبيعي لنرى الصلة الوثيقة - التي تكاد تكون تشابهاً - بين العلم وبين الدين في ظل مبدأ العقيدة. وهي صلة تتجلى أكثر حين نستعيد أن وظيفة العلم الطبيعي لا تقف عند مد الإنسان بالحقائق وتفسير الظواهر، وإنما تمتد إلى المشاركة لتحقيق الاستقرار والهدوء الداخلي والاطمئنان النفسي للإنسان، وهذا لا يتحقق إلا إذا تحققت الإلفة بين الإنسان وبين الظواهر التي تحيط به بعلم الإنسان بهذه الظواهر، والعقيدة ضرورة للعلم في تفسير كثير من الظواهر.
هكذا تتجلى (صلة القربى) بين العلم والدين عند مبدأ العقيدة، وهي صلة لا غرابة فيها لأن كلاً من العلم والدين يسعى لإثراء حياة الإنسان.
1 -A.Einstein:Ideas& OpinionsP.42
2 - Ideas&OpinionsP.55
3 - Ideas&OpinionsP.39
4 - Ideas&OpinionsP.48
1 - Lain Paul:Einstein and Theology,P.115
2 - AEinstein:Ideas&OpinionsP.46
3 - جوهانز كبلر (johannes Kepler): فلكي رياضي ألماني، كان أول من وصف حركة الكواكب حول الشمس ومساراتها البيضاوية، وقد مهدت قوانين كبلر عن حركة الكواكب لنيوتن صياغة قانون الجاذبية الكونية The W.B. Encyclop.Vol(11),p.305
(1) تيكو براهي Tycho Brahe (1546- 1601) فلكي دنماركي، جمع أكواماً من المشاهدات والملاحظات عن حركة الأجرام السماوية، لكن عقيدته العلمية الرافضة لنظرية كوبرنكس لم تتح له اكتشاف حقيقة حركة الكواكب حول الشمس، التي اكتشفها كبلر من ملاحظات تيكو براهي W.B.Encyclopedia Vol )2) P. 558
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved