الاقتصادية عالم الرقميمجلة الجزيرة نادي السياراتالرياضيةالجزيرة
Monday 08th January,2007 العدد : 181

الأثنين 19 ,ذو الحجة 1427

تحولات المكان عند محمود درويش
قراءة في نص (في حضرة الغياب)
د. مصلح النجار

يتكئ حضور المكان في إبداعات محمود درويش على طبيعة المرحلة، والمهم ليس هو حضور المكان، بل الموقف منه. وغنيٌّ عن الذّكْر أنّ المكان الأهم في نتاجات درويش هو المكان الوطن- فلسطين.
من الطبيعي أن نشهد تحولات في حضور المكان والموقف منه في سيرة شاعر مثل درويش، عاش في الوطن المحتلّ، ثم خرج منه إلى أمكنة كثيرة: موسكو، والقاهرة، فبيروت، فتونس، فعمّان، فرام الله.
كان الموقف من الوطن في المرحلة الأولى، قبل مغادرة الأرض المحتلة، حاضرا بوضوح، وكان درويش شديد التعلق به، بحكم عقد المنفعة الحتميّ المبرم بين مواطنٍ ووطنه، وهو فيه. ولدى مغادرة الوطن، صار المكان طقساً من التعلق العلني، أبرزُ حالاتِ العلاقةِ معه هي الحنين، والتصريح بالحنين.
وقد استمر ذلك حتى مرحلة الخروج من بيروت، حين تحوّل الوطن إلى أيقونة جمالية، وظل الأمر على تلك الحالة، حتى ظهرَ تحوُّلٌ عامٌّ جديد في المعنى عند درويش، لدى بدئه مشروعَه في كتابه سيرة شعرية، مطلعها (لماذا تركت الحصان وحيداً)، مروراً (بسرير الغريبة) وصولاً إلى قطعٍ فنيٍّ مفاجئ تمثّله (جدارية)، وحالة المرض التي سبقتها. وبتجاوز متعمد لديوان (حالة حصار) نصل إلى ديوان (لا تعتذر عمّا فعلت) ومعاودة الحالة السيريّة، لنجد درويشاً، بعد ذلك، يُتوج أعماله الشعرية بديوانه (كزهر اللوز أو أبعد) الذي لا ينطلق فيه من مرجعية، باستثناء المرجعية الجمالية اللغوية، في غياب النصوص الغائبة.
وللاضطلاع بهذه المهمة كان لا بد له، كما يقول، من: (زيارات إلى اللا وعي) (ص48) في فضاء (شعرية اللا شيء) (ص48) (فاليوم عطلتنا عن الذكرى) (ص51) على (عرش طفيف بلا ذاكرة) (ص73)، (إذ يرتاح ربُّ الحرب في يوم الأحد) (ص53) (فالعمر يسقط كالشعر) (ص60)، وهو يصبح الضيفَ في منزله والمضيفَ... ربّما... ربّما لم يكن ههناك) (ص61) والموت في البيت أفضل من دهس سيارة في الطريق إلى ساحة خالية!) (ص62).
في حضرة الغياب
يشكل هذا العمل حالة من الاستمرار لمشروع السيرة الذاتية، وإن لم يكن عملاً شعرياً، على الرغم من شعريته الفيّاضة. وفي الوقت ذاته فهو يشكّل حالةً من القطع مع أعمال شعرية متلاحقة، لم يقطعها عمل نثري منذ (عابرون في كلام عابر)، إلا رسائله المتبادلة مع سميح القاسم.
سأتجاوز العنوان (في حضرة الغياب) لأتكلم على تصدير العمل ببيت مالك بن الريب في رثاء نفسه، وهو تصدير يصبح ذا إيحاء خطير حين يقترن ببداية النص، وذلك الخطاب الموجه إلى الشعر، فيبدو فيه التصدير موجهاً إلى الشعر أيضا، على خلاف ما قد يفهم كثيرون من أن التصدير ينصرف إلى رثاء النفس، أو إلى رثاء النفس فحسب، فلعل هذا الرثاء يجد طريقاً ليكون رثاءً للشعر، في صيغة أكثر توسعا.
أما العنوان (في حضرة الغياب)، فحضرة هنا ليس عكس (غياب) فحسب، فالحضرة تدل كذلك على مكان بين يدي عظيمٍ ذي شأن، وفي ذلك إيحاء بتعظيم مكانة الغياب، هذا فضلاً عن أن هذا العنوان يتناص مع أولى الحضرات الإلهية وهي (حضرة الغيب المطلق)، كما يقول الجرجاني صاحب كتاب (التعريفات)، وهو كذلك يحيلنا إلى أجواء صوفيّة، ليس فهمها صعبَ المنال.
يبدأ النص بقول درويش: (سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع) (ص9) والمشهد الذي يصفه المقطع الأول هو مشهد تشييع: (أقف الآن باسمكَ كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير) (ص9)، يذهب فيها الراحل إلى حياة ثانية (وعدتكَ بها اللغة، في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض)، وهنا يتنبّأ النص للمخاطب ? الشعر بحياة ثانية تعِدهُ بها اللغة، ومكان هذه الحياة، وتمثلها يتحققان في (قارئ)، وهذا يجعل توجيه فهمنا أن المخاطب هو (الشعر) أكثر شرعيةً، حتى تتحقق هذه الحياة الثانية التي تعد بها اللغة، حيث يشكل التأويل والقراءات المتعددة حياةً للشعر يقوم بها قارئ آخر.
هذا العمل على عكس سابقِهِ مليء بالإحالات، بسبب السمة التتبعية، فمشكلة الحرف من الاسم تظهر (ص10) لتحيلنا إلى (جدارية) (ص 15): (لا تختلف معه على حرفٍ)، و(حصان العائلة يظهر) (ص 13) مثلما ظهر في (لماذا تركت الحصان وحيداً؟)، وأمنية (ليت الفتى حجر) تظهر (ص 14) كما ظهرت سابقاً في (حصار لمدائح البحر) و(يوسف) (ص19) يحيل إلى (أنا يوسف يا أبي)، والأبيض (ص31) يحيل إلى أبيض الجدارية، والحرية في المطار (ص54) هي تلك التي تكلم عليها درويش بلسان راشد حسين في مطار القاهرة، وسؤاله (لماذا نزلت عن جبل الكرمل؟) يوازي بصورة صارخة عنوان ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيداً؟) على مستوى الإجابة، وما يثيره كلٌّ من السؤالين في ذهن المتلّقي، وأما أن بيروت ليست حيفا، فتحيلنا إلى قصيدة معين بسيسو (ولست أندلساً ياأيها الوطن!) وهو (أي معين) يظهر بنفسه في (ص44) عندما قال درويش: (سألت السائق: أين معين بسيسو، لماذا لم يأتِ معي؟ .. لو لم يسافر إلى لندن، لو لم يضع على باب غرفته في الفندق (الرجاء عدم الإزعاج) لكان مضيفي اليوم في غزة). يظهر معين بسيسو، ويظهر إميل حبيبي ليغيبه الموت، وتظهر أوراق عشب والت ويتمان بنبوءته العفوية ونسبته إلى البديهية ليكون مضاداً ليباب إليوت، ليخلص النص إلى مقولة (باطل الأباطيل، والكل باطل) التي تحيلنا إلى قوله: (باطل، باطل الأباطيل ...باطل، كل شيء على الخليقة زائل) في الجدارية، وتلوح من بعيد قهوة أم محمود التي لطالما حنّ لها في قصيدته التي غنّاها مارسيل خليفة.
إن نصّ (في حضرة الغياب) هو سيرة ذاتية غيرّية نثرية، يقول فيها درويش بحرّية أكثر، تتيحها له (بحبوحة النثر) كما يقول (ص177)، وببلاغة عالية أوتيَها درويش هنا، ولم يسبق له ? كما يقول- أن أوتي مثلها إلا في المطالع (ص9، 173)، ليكون هذا العمل نزهة الشاعر في عالم النثر(ص 177)، يتتبع فيها المراحل الواضحة من حياته، والمعاني الكبيرة، والأشياء المؤثرة.
أمّا الكتابة، بحدودها الواسعة، فيسوّغها درويش بقوله: (للدفاع عن الحبكة والذاكرة، فكتبتُ أصداء سيرة شخصية- جماعية) (ص 142) محاولاً الخروج على حتمية معادلة الشاعر- المواطن، فيقول: (ألأن شرط الإبداع الفلسطيني هو العبودية؟ أم لأن الحرية لا تليق بإيقاعاتنا؟ وما معنى أن يكون الفلسطيني شاعراً، وما معنى أن يكون الشاعر فلسطينياً؟ الأول: أن يكون نتاجاً لتاريخ، موجوداً باللغة، والثاني: أن يكون ضحية لتاريخ، منتصراً باللغة. لكن الأول والثاني واحد لا ينقسم ولا يلتئم في آن واحد).


Muslih@hu.edu.jo

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved