الاقتصادية عالم الرقميمجلة الجزيرة نادي السياراتالرياضيةالجزيرة
Monday 08th January,2007 العدد : 181

الأثنين 19 ,ذو الحجة 1427

قصة قصيرة
أوهام جناح (606)
عبدالهادي القرني
كان مجهداً، فمنذ ساعات الصباح الباكر، وهو يرتب لهذا اللقاء، ارتمى على أقرب كرسي، وأشعل سيجارته، وبدأ يرقب دخانها، وهو يتصاعد إلى سقف الغرفة، ويتبعثر ببطء شديد، فلقد كانت زفراته متعبة، وها هو الآن قد وصل إلى موطنها، إلى المدينة التي تحتضنها وتستنشق هواءها الذي يتلاعب بشعرها عندما تقف على شواطئها، قبل أسبوع اتفق معها على اللقاء، فرح لهذا الموعد على الرغم من بعد المسافة بينهما، ولكنه لم يهتم، وقبل أن يرتحل إليها قال لها أنا قادم إليك، وكان ردها أشبه بالسحر، هو لا يتذكر ردها، ولكنها ذكرت له رملاً وسجاداً وشمعاً وها هو الآن هنا..
أصبح ينتظر اللحظات التي تجمعه بها، أحضرعلبتين معه ووضعها على الطاولة أمامه، ثم قام بتغيير اللوحة التي كانت معلقة على الجدار فلقد كانت تمثل زهوراً مرمية على الأرض وأحضر.
لوحة أخرى من غرفة النوم تتشكل منها ولادة شمس جديدة، وكأنها هو في هذا اليوم..
فتح جواله وأرسل لها رسالة: أنا أصبحت قريباً من قلبك، وسوف أسكن في روحك.. وبدأ في تخيل كيف سيكون اللقاء بها، سيجلسها أمامه، وسينظر إلى عينيها مباشرة، وسيراقب مبسمها وهي تنطق باسمه، وسيعمد إلى جعل الدم يتدفق إلى وجنتيها، وهو لن يتحرك من مكانه، ولن يستمع إليها فقط بل سيشاركها الحديث وسيثيرها، فهي تحب ذلك، سيرى هل توافقت مع تخيلاته فهو لم يرها من قبل..
انتبه إلى أنها لم ترد عليه كالعادة، ومضى على وجوده في الفندق أكثر من ساعتين، وقارب الزمن على تخطي منتصف الليل..
ليس من العدل ألا أحظى بحديث معك ولو على التلفون..
هذه رسالته الثانية، فعند وصوله أرسل لها رقم تلفون الفندق..
تشاغل بترتيب المكان، سحب أحد الكراسي ووضعه مباشرة أمامه، لم يجعل هناك حائلا بينهما، سيكون مواجها لها، وضع على يساره طاولة صغيرة، وكان عليها وردة بلاستيكية أزالها ووضع بدلا منها أغصان الريحان، وبجانب الأغصان كانت هداياه تتمثل في علبتين مغلفتين بورق أبيض، سيعتبر اللون الأبيض تميمة اللقاء، هو الآن فخور بنفسه، فلقد وجد تميمة لم يسبق لأحد أن فكر في مثلها..
تأخرت في الرد واقترب الصباح، وبدأ القلق ينمو كورم خبيث في نفسه، لماذا لم ترد إلى الآن..
أرسل لها الثالثة في ديارك أصبحت غريباً..
خمس ساعات وهو ينتظر منها رداً على رسائله وازداد القلق نمواً، وازدادت تخيلاته ووساوسه وصار ينظر إلى جدران غرفته ويتخيلها إنها ملئت بخطوط متشابكة كأنها بلور مكسور، وهذه الخطوط تتشكل حينا في كلماته تعزية ومواساة، وأحياناً أخرى في كلمات تهنئه بالسلامة.
لماذا لا ترد على رسائله!!!!
هل أصابها مكروه!!!!!
قد تكون في المستشفى الآن، ولكن أين!!!!!
هل ماتت!!!!!!
وعاد ليتصل بها.. ولكن لا مجيب!!!!!
حاول أن يقنع روحه بأن جوالها على الصامت أو أنها بعيدة عنه.....
استند بيديه على النافذة، ونظر إلى الجهة التي يعتقد أنها تطل على البحر، فهو لا يعرف في أي جهة هو... وتذكر لحظة دخوله إلى المدينة، لم يسأل عن اتجاه البحر، فلقد اكتفى بتواجده معها في نفس المدينة، رأى أن الأشجار ارتفعت أغصانها إلى الأعلى وانحنت ترحيباً به، وكذلك البنايات أخذت تغني بفرح وأزهار الحدائق، ظهرت وهي تردد ككورال خلفها، تذكر وهو يقطع المسافة إليها، وهو يتجاوز السرعة المعتادة فلقد قطع المسافة في أقل من الزمن المعتاد، وبين لحظة وأخرى، يرسل لها رسالة يخبرها بشوقه، واقترابه منها، هل أتى إلى هنا كحشرة الضوء التي تلهث إلى النار لكي تسقط به..
أنا(بالخارج) رسالة مقتضبة، وصلت أخيراً..
تذكرت أخيراً أن هناك من أتى ليراها..
لماذا لم تنتظره!!!!
ألم تحاول أن تعتذر عن خروجها من البيت!!!!
أين هي الآن!!!!!
صحا من نومه، لم يشعر بنفسه، تعاون عليه الإرهاق والتعب والملل، ونام وهو جالس ينظر إلى أنوار المدينة التي أشعلت في قلبه رياح الشك والحسرة..
استمر نائماً أربع ساعات فقط، هذا كل ما استطاع أن يستخلصه من المستقبل، لقد اقترب كثيراً من حافة السرير، وأصبح على طرفه، كان أقرب إلى الأرض من المخدة التي كان يحتضنها إلى صدره، سحب جواله برفق وبكف بارد، ونظر إلى صندوق رسائله لعله يجد فيه رسالة منها، ولكن لا جديد، قرر أن يكتب لها وللمرة الأخيرة.
ولكن ماذا يكتب لها!!!!!
هل يخبرها أن له وعدا لديها يجب أن تفي به!!!!!
يحب أن تكون له خياراته، وألا يفرض عليه في أن يكون وحيداً في مكان لا ينتمي إليه.. لقد أخبرها أن لديه ثقباً في القلب، ولا يستطيع تحمل ثقب آخر، ... حبنا مثل نسمة الهواء، لا نراها ولكن نشعر بها، بالأمس كانت أمنيتي أن أسهر معك، بقلبي، واليوم أمنيتي أن أراك بنون العين ..
رسالة قصيرة إليها تعبر عن الرضا والتسامح واللهفة، وأنه لم يأت لكي يبحث عن جمال جسدها كان يريد أن يضم روحها بقلبه كان يريد أن يقترب من مصدر الحياة التي بثتها في جسده المنهك، وروحه المنكسرة، لقد كانت مسؤولة عن تغيير نظرته إلى الحياة..
كان الرد سريعاً، إنها سترسل عيناها لتراها!!!!
وأخيراً سيصبح الحلم حقيقة..
لم يأخذ جرعته من الكافيين منذ البارحة، أحضر قهوته وأشعل سيجارته، وبدأ في التفكير في اختيار المكان الذي سيقابلها فيهن يجب أن يكون مكانا مميزاً جداً لذلك .. ولكنه لا يعرف المدينة جيداً، وسوف يغادر المكان بعد أربع ساعات فقط..
ذهب إلى أعلى مكان في الفندق، الدور الثامن يوجد فيه مطعم.. واختار مكاناً يطل على البحر من جهة، والجهة الأخرى تطل على المدينة، وطلب من النادل أن ينظف الزجاج جيداً عزم على أن يكون مكانها في هذا الركن، ويكون هو في مواجهتها لكي يغيظ البحر، هو لا يحبه، ولا يريد أن يشاركه فيها، ويفرح المدينة التي استقبلته بفرح وجنون..
اختار ورتب المكان بما يليق بها، لم يدع لها مجالاً في أن تحادث أو تشغل بغيره، حتى إنه أحضر كل (البارتشن) وصنع منه ركناً آخر، لقد صنع غرفة، فهناك رجل ينظر إليه بنظرات بلا معنى، وآخر يرتفع صوته بالضحك مع امرأة تجلس معه..
بدأ الوقت في الاقتراب من منتصف النهار، وغادرت الشمس مكانها، كذلك واقترب الظل أن يبلغ مثليه، ولا مجيب ولم يسمع صوت ضحكة الطفل الذي وضعه كدلالة على وصول رسائلها..
لم ينتبه من أحلامه إلا على صوت النادل وهو يطلب منه أن يطلب الأكل، قالها بلهجة حزينة كأنه يواسيه ويخبره بالحقيقة أنها لن تأتي.. ولكنها تحبني، هي قالت ذلك، وكم من مرة أرسلت لي رسائل تخبرني بعشقها، وتأكيد ذلك أحاديث الفجر والصباح، وأحاديث الليل الطويل التي كنت أقضيها بين أحضان صوتها، كانت تودعني بصوتها عندما أصل إلى عملي، وتستقبلني أحياناً كثيرة عند خروجي، كنت أسمعها وهي تغني، كانت تسألني دائماً (هل تحبني) هذا دليل على أنها تحبني بجنون، وأنا لم آت إلى هناك إلا لأثبت لها ذلك..
سمع صرخة مدوية كأن هناك كارثة حلت بالمكان، قفز من مكانه، ولكن تفاجأ بأنه الوحيد الذي تحرك، والرجل والمرأة ما زالت ضحكاتهما تعلو.. والرجل الآخر انتقل إلى جريدة أخرى يتصفحها بطريقة مملة، وعندما جلس مرة أخرى.. سمع الصوت مرة أخرى ولكن هذه من داخله.. ألم تقل لها ألا تنكأ جرحاً قديما، ألم تخبرها بأنك دفنتها منذ 16 عاما، وفي كل يوم تضع عليه كومة من الصبر، ألم تخبرها بأنك لا ترغب بأن تكون تجربة لعواطف زائفة .
هل جننت..
هل كل من قال لك أحبك تصدقه.
ألا تدري أن الزمن تغير، وأصبح هذا الزمن لعبا بالعواطف والمشاعر.. هل تريد أن يعود زمنك القديم عندما ذهبت إلى والدها وطلبت يدها.. أنت مجنون ولا شك في ذلك..
هي تعلم أنك قادم منذ أسبوع، وتعلم أيضاً بأنك هنا.. وتعلم انك تنتظر اتصالها.. فهي قد رحبت بك بالأمس.. لم تكن السجادة سوى كفن لك بعد أن تحترق بشموعها ورمال بحرها المزعوم مقبرة لك، لقد كنت تملأ فراغاً والآن هي تنعم مع غيرك.
لقد كان موهوماً سيرسل لها رسالة أخيرة، سينتصر لكلماته وسيقول فيها: إنه سينتصر لجرحه القديم ( أنا أشاهد الآن موطنك من الطابق الثامن وأتخيلك في كل بيت، وأتخيلك وأنت تنظرين إلى قدري أن آتي إليها بأحلامي وأعود منها وقد دفنتها في جناح 606 وإلى الأبد).
كانت الأشجار والمباني تنحني حزناً وألما، والأزهار تغني أغنية حزينة، وهو يغادر الفندق والمدينة غادرها سريعا، وكأنه يهرب من نار الفتنة.
وعند أول لوحة (الرياض 375) دفن أول هدية لها..
الرياض 180 ألحق الثانية بالاولى
وعند مدخل المدينة كانت الشمس قد أصبحت قرصا شديد الاحمرار خيل إليه أنها تشتعل.. أخرج ورقة كان قد كتبها كورقة عهد وميثاق بينهما انه سيحبها إلى الأبد عندما يقول قلبها مبروك.. مزقها إلى قطع صغيرة، وهو يستمع إلى مقطع من أغنية قديمة (حبيبتك في قلبها حب جديد)
ورماها في وجه الشمس التي هدأت عندما تطايرت الأوراق الصغيرة في السماء وخففت من توهجها.. وغابت في انتظار يوم جديد، وحب جديد..
مع عروس بحر جديدة
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved