الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

من يعرف محمد حاجي صالح؟

*د.سعد البازعي:
أجل من يعرف محمد حاجي صالح؟ هذا مع أنه ليس سوى اسم بين مئات أو آلاف الأسماء التي تغيب عن الذاكرة ولا تجد مكاناً في مساحة الاهتمام. شعراء وكتاب ومفكرون مهمون مشكلتهم أنهم ليسوا ألماناً أو فرنسيين أو إنجليز، مشكلتهم أنهم آسيويون أو أفارقة، حتى الذين يكتبون بلغات أجنبية من بينهم، مثل الماليزي محمد حاجي صالح، لم يحققوا الكثير من الشهرة أو الانتشار الذي يتمتع به كتاب من أوروبا أو أمريكا، والمعيار ليس التميز وإنما الموقع الثقافي والجغرافي.
حين كتبت الأسبوع الماضي عن الألماني هاينه كنت أعلم أن كثيراً من القراء لا يعرفون عنه الكثير، فهو من الشعراء المشهورين في بلادهم وربما في الغرب إجمالاً، لكن من الطبيعي ألا يعرفه الناس خارج تلك المناطق، ومع ذلك فإن وصفه بالألماني كان كافياً لأن يضفى عليه دون شك أهمية خاصة، هذا إلى جانب أنه كان هناك سياق يمنحه الكثير من الدلالة، فربطه بمشاهير مثل غوته، مثلاً، كافٍ لتقريبه إلى الفهم ووضعه في مرتبة عالية (طبعاً كونه يهوديا ربما يغير الصورة إلى حد ما بالنسبة للعربي والمسلم) لكن بالنسبة لشاعر ماليزي أو نيجيري أو إندونيسي هناك تصورات مختلفة تتقافز إلى الذهن وتعوق التصورات الصحيحة غالباً.
بل إن المشكلة هي في غياب المعلومة الأساسية إجمالاً، فنحن لا نكاد نعرف شيئاً عن كتاب البلاد الآسيوية والأفريقية، والذين عرفوا كانوا قد ترجموا إلى الإنجليزية أو الفرنسية ثم إلينا، مثل طاغور في الهند وكاواباتا في اليابان وقس عليهما.
أما الباقون فغائبون تماماً في معظم الأحوال، بل إن الفرد منا لا يتخيل كلمة مفكر أو روائي أو شاعر أو فنان تشكيلي مرتبطة بسريلانكا أو فيتنام أو كشمير أو غينيا أو كينيا.
المفكر والمبدع يكونان غربيين أولاً وتاسعاً، وفي المقام العاشر ربما في مكان آخر، ولا أريد أن أبدو هنا كأنني اخترقت الحجب وعرفت من لم يعرف الناس بمهارة خاصة، فتعرفي على بعض المبدعين من المناطق التي أشرت جاءت نتيجة ظروف محددة واجتهاد أملته تلك الظروف، فالواقع المحيط لا يشجع على القراءة، فقد درّست لبعض الطلاب في مرحلة متقدمة نسبياً من الدراسات العليا مادة بعنوان (الشعر) شجعني عنوانها على التحرر من أسر الشعر الذي أعرف: العربي والإنجليزي وبعض الغربي.
استدعت المادة ونوع الدارسين بالطبع، الذين كانوا أقرب إلى الزملاء أو الزميلات منهم إلى الطلاب بالمعنى التقليدي، طرح مجموعة من الشعراء الآسيويين أو المنتمين إلى خلفيات إثنية غير أوروبية للتعرف على بعض أعمالهم، ما اقتضى أيضاً قراءات في تاريخ أولئك الشعراء ومحاولات نقدية لوضعهم في سياق المقارنة بغيرهم ممن تعرف المجموعة أعمالهم.
الماليزي محمد حاجي صالح جاء في ذلك السياق، مثلما جاء شعراء مثل آرنولد إتوارو (غيانا)، وآغا شهيد علي (كشمير)، وديون براند (ترينيداد)، وكمالا داس (الهند)، وغيرهم. الطريف، أو المهم لا أدري، هو أن تجارب هؤلاء الشعرية تلتقي كثيراً مع تجاربنا ليس في انتمائها إلى ما يعرف بالعالم الثالث وما يمليه من مواقف تجاه الغرب فحسب، وإنما في تعبيرها أحياناً كثيرة عن تجارب ورؤى ليست غريبة عما نجد في الشعر العربي الحديث بوجه خاص. خذ مثلاً كيف ينظر محمد حاجي صالح إلى البرودة في صورة المطر وهو (يدغدغ أوراق العشب):
يوقظ المطر دائماً
وحشة عميقة
تكمن تحت الصمت.
تسقط القطرات بين الذكريات
فتبث فيها برودة الحياة...
فبرودة الحياة هذه ليست مما يعرف الأوروبي ذو المناخ المثقل بالصقيع، وإنما يعرفها القادم من المناخات الحارة حيث تصير الحياة صنواً للبرودة، وحيث يتمنى الأحياء لأنفسهم ظلاً ظليلاً تشيع فيه البرودة ويدعون الله لأمواتهم أن ينزلهم (جنة باردة).
أو خذ مثالاً آخر من قصيدة للكشميري آغا شهيد علي بعنوان (رجال الثلج). هنا سيغترب أهل الصحراء إذ يقرأون عن الثلج، لكنهم سيجدون معاناة شبيهة بوصف الشاعر لعلاقته بأجداده، فالقصيدة القصيرة تقدم صورة لجد الشاعر الأول المتحدر من ثلوج الهيمالايا نحو سفوح كشمير وسمرقند، ذلك الجد البدائي الصارم البنية، الذي كانت النساء يتجمدن في عناقه، صار هيكلاً عظمياً ينتقل من جيل إلى جيل ليستقر أخيراً تحت جلد الشاعر.
إنهم السلالة إذ تنتقل عبر النطف والسنين (يطرقون نافذتي كل عام - أصواتهم في هدوء الجليد)، المشكلة هي أن هذه المطاردة ستستمر ما لم يتمرد الحفيد على الأجداد، وهو بالضبط ما ينوي فعله:
لا، إنهم لن يتركونني أنعتق من هذا الشتاء
وقد عاهدت نفسي،
حتى لو صرت رجل الثلج الأخير،
أن أركب نحو الربيع
أكتافهم الذائبة.
هنا تتحدد المشكلة في صورة الموروث الخانق، التقاليد التي لا تتركك للفردية منعتقاً أو متنفساً فتطاردها لينصاع أفراد، بينما يتمرد آخرون، مثل شاعرنا. إنها مشكلة مجتمع شديد المحافظة، شديد التقديس لتقاليده وعاداته، مجتمع تعرفه مناطق كثيرة من العالم ولا تكاد تعرفه مناطق أخرى فتقترب التجربة الشعرية بدلالاتها وجمالياتها من هؤلاء وتبتعد عن أولئك.
ألسنا، بعد، من هؤلاء؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved