الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

حمزة شحاتة.. مركزية الذات
(القابلية - الطبيعة - الموقف) «3»

*سحمي ماجد الهاجري :
***
اقتراح الغذامي:
وقد حاول الغذامي أن يفصل بين النص والسياق، ويطور اقتراحاً فنياً لمسألة التداخل بين الفكر والشعر، وسك مصطلحاً سماه (الشحاتية) (الخطيئة والتكفير ص 89)، أي (النص المطلق لما خطه قلم حمزة شحاتة)، أو (النص الشحاتي الشامل) (السابق ص 93)., يقول (ليس لدينا هنا شعر أو نثر إن الذي لدينا هو: النص الشعري) (السابق نفس الصفحة).
أي أن الأساس هو الذات، وليس الجنس الأدبي الشعري، أوالجنس الأدبي النثري ، بحيث أصبحت الذات المبدعة وكأنها جنس أدبي.
ولكن هذا الاقتراح عليه ملاحظة من وجهين (إذا جارينا الغذامي في قصر الأمر على الناحية الفنية):
الأول: أنه الخيار الذي لم يأخذ به حمزة شحاتة في حياته، للأسباب التي ذكرناها، وجاء بعد سنين طويلة من رحيله، وكان قد اتخذ قراره وانتهى بعدم الرضا عن إنتاجه، والتكفير عن ذلك بالانفصال عن سياق الأدب المحلي، وعدم مواصلة الإنتاج، أو على الأقل عدم الاهتمام بالتجويد والتمحيص في إنتاجه، لأنه لن ينشره، إضافة إلى أن هذا الإجمال لا يتفق مع نظرة حمزة شحاتة التفصيلية، وشغفه بالكمال، خصوصاً وأن رأي الغذامي اقتضى استخراج الجيد من شعره، والجيد من نثره، ودمجهما مع بعضهما، أما غير الجيد فيقول عنه في عبارة مخففة إلى أبعد مدى (نبعده وننفيه إلى مكانه اللائق به). (الخطيئة والتكفير ص 93)، ولكن هل كان شحاتة يستطيع أن يبعد ذلك الشعر أو ينفيه؟.
الوقائع تجيب بالعكس، رغم محاولاته المستميتة لإبعاد ذلك الشعر أو نفيه، ولهذا يقول: يا لها رحلة برانا بها الجهد ولكن قد عز فيها النكوص، (شجون لا تنتهي ص 60). وقصائد الشاعر كما يقال مثل أبنائه، لا يدري أيهم أفضل حسب الأحوال التي تجري على الأبناء من جهة، وعدم سهولة نفي نسبهم من جهة أخرى، ولهذا فما كان سهلاً عند الغذامي شطبه بجرة قلم، لم يكن بذات الدرجة من السهولة عند شحاتة.
ولا بد أن الغذامي بعد تحوله هو الآخر للدراسات الثقافية عرف أن النصوص التي استبعدها، أو نفاها (حسب تعبيره) ربما تكون أقدر على تمثيل السياق الثقافي أكثر من نصوص الفن الخالص، التي تدخل في دائرة سياقات أخر.
والثاني: أن الغذامي استثمر هذا التحليل بعيداً عن مناط استدلاله، فذهب به إلى بديل بعيد (أي التكفير عن خطيئة البشر الأولى)، مع أن البديل القريب كان واضحاً وقريب التناول.
وجانب الاتفاق مع الغذامي هو موضوعة التكفير، فقد كررها حمزة شحاتة في عباراته بصيغ مختلفة، ولكن هل كان يقصد بها التكفير عن خطيئة آدم وحواء كما ذهب المؤلف؟، الإجابة بالنفي طبعاً.
وذلك لسبب بسيط، وهو أن حمزة شحاتة قال بشكل مباشر وصريح لا يحتمل التأويل أنه يقصد التكفير عن قصور لم يعجبه في شعره ومواقفه، بعد نضجه العقلي والفني، وهو القصور المتعلق بتداخل الشعر بالفكر، وهو التداخل الذي لم ينتج شعراً محلقاً، ولا فكراً رصيناً.. ومن المستفيض أن أكثر المبدعين يكتشفون قصوراً في إنتاجهم المبكر، أو في مواقفهم المبكرة، ولكن أغلبهم ينظر إلى الأمر باعتباره مرحلة مضت بحلوها ومرها، ويتخطاها إلى مرحلة أخرى.
الذي حدث أن حمزة شحاتة لم يأخذ بهذا الخيار الشائع، بل اعتبر ذلك سوأة وخطيئة يجب التكفير عنها بالحرق والتمزيق وعدم النشر، والانفصال عن السياق الثقافي المحلي جسداً وإسهاماً، وهذا ليس مصادفةً أو اعتباطاً ، بل مرتبط بتمركز ذاتي تنامى لديه، وأدى إلى موقفه المعروف.
صحيح أن الكثيرين يرون أنه أقوى شاعرية وأكثر اندفاعاً من أقرانه، وبالتالي فإن موقفه من شعره ومن نفسه فيه الكثير من القسوة، ولكنه كان أكثر منهم تطلباً، ولا يكفيه ما اكتفوا به، فهو ينظر إلى الأمر على قاعدة: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل أن السيف أمضى من العصا.
***
تداخل العام والخاص:
ومن الواضح أن حمزة شحاتة في بداية حياته الأدبية لم ينتبه لهذا التداخل من الناحية الفنية بين الفكر والشعر، ولا للتناقض في المواقف، لأنه في تلك الفترة كان جزءاً من الخطاب الإصلاحي والنهضوي الذي يتسيد فيه المضمون ناصية الإبداع، سواء كان الخطاب فيه موجهاً للعقول، أو للضمائر والنفوس، لأن الهدف واحد، وهو الإصلاح والنهوض, وليس الناحية الجمالية، ولهذا تختلط الجوانب الفنية والفكرية، فيدخل الخطاب الشعري عنده في المحاضرة الفكرية، يقول (خاطبنا الضمائر والنفوس هذا الخطاب الشعري) (المحاضرة ص 105).
في حين ينتقل الخطاب الفكري إلى الشعر، يقول: فزعت إلى شعري أواري به الأسى فقالوا أديب ناعم البال يفتن وما أنا إلا ثائر فل سيفه وأسلمه الحامي فأثخنه الطعن، (الديوان ص 175). وقد لمس الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي عضو رابطة الأدب الحديث في مصر هذا التداخل بين الشعر والفكر لمساً خفيفاً عندما قال (إن حمزة شحاتة شاعر عبقري ضخم الشاعرية، ولكن لا بد أن يكون في شعره هفوات فنية، وكنا نريد أن نتحدث عن هذه الهفوات الفنية، ولكننا عاجزون عن الحديث عنها، نريد أن نعرف مدى فطنته للدقائق, وإدراكه للتفاصيل، وبصره للأشياء، ومعرفته للجليل من المعنويات، ومدى تصرف شاعريته عندما تقع في الحرج، ومدى تخلصه بشعره من مأزق الفكر والفن جميعاً) (مقدمة شجون لا تنتهي، مطبوعات دار الشعب القاهرة 1975م ص 5).
هذه هي القضية، فقد كانت له موهبة شعرية متميزة، وموهبة فكرية متميزة، فصار ذلك مثار الإعجاب والتقدير من معاصريه ومن جاء بعدهم من المتابعين والدارسين، ولكن هذا كان مشكلته أيضاً، فهو يقول الشعر في أحيان كثيرة بعقل المفكر فيتحول إلى شعر ذهني، أو نثر منظوم، مما حدا بعدد من الباحثين إلى استبعاد أغلب شعرة، (أنظر مثلاً: الخطيئة والتكفير ص 93).
كما أنه كان يكتب أفكاره الفلسفية والاجتماعية بخيال الشاعر، فتكون بعيدة عن مناط التحقق، وهذا ما جعل أبا مدين يقول في هذا السياق (ذلك أن تخطيطا بدون تنفيذ لا يحقق شيئا)، (حمزة شحاتة: ظلمه عصره ص10).
ومما يعمق أثر التحول في رؤيته النقدية أنها تصاحبت مع تحول شامل في مجمل رؤيته العامة، والتحول في حياته الخاصة، وهو أكثر الناس معرفة بذلك، فتداخل الشخصي مع الأدبي، والذاتي مع العام.
يقول مثلاً عن فشل زيجاته الثلاث (الزواج الأول غلطة ، والثاني حماقة، أما الثالث فهو انتحار)، (رفات عقل ص 95) وربما كان هذا مطابقاً لأطوار حياته الأدبية، فالزواج الأول بالشعر الذهني غلطة، والزواج الثاني بالفكر الشاعري حماقة، ثم كان الزواج الثالث بالنقد الذاتي القاسي، وهو انتحار أدبي، خصوصاً وأن مفهوم الانتحار عنده مفهوم إيجابي عكس ما هو شائع بين الناس.
وربما نجد جذور مثل هذا الانتحار في المحاضرة، يقول: (ما أود أن تكون خاتمتي بينكم موتاً بل انتحارا، فالانتحار هنا على الأقل أضمن لتحقيق معنى الاختيار من الاستسلام للموت ولعله أدل عندي على الحيوية وتركز الإرادة ووضوح الفكرة)، (المحاضرة ص 27) وهذا يشبه ما يسميه الغذامي (موته الخاص) (الخطيئة والتكفير ص 176) والنتيجة التي انتهى إليها، لا بد أن تكون لها مقدماتها الخاصة أيضا، وأهم هذه المقدمات هو ما يسميه حمزة شحاتة (الصراع بين حقائق النفس وحقائق الدنيا)، (الديوان ص 281).
فنجد أنه في المحاضرة كان ينفخ بالون (الرجولة) في فضاء البطركية الاجتماعية، ويستمع إلى موجات متتالية من عواصف التصفيق على مدى خمس ساعات، وكان ذلك عنده من حقائق النفس.
ولكنه عوقب بثماني نساء، الفشل في ثلاث زيجات، و(مربية لخمس بنات) (إلى ابنتي شبرين ص 16) وكان هذا من حقائق الدنيا.
وفي المجال الأدبي أدرك أنه إذا كان في السياق المحلى (شاعر يجري ولا يجرى معه)، فهو في سياق أوسع يمكن أن يصبح (شاعراً ينشد وسط المعمعة)، وهو ما لا ترضاه نفسه المتأبئة.
ومما يزيد ردة فعله على التداخل بين الشعر والفكر، وبين حياته الخاصة والعامة، وتحول الطبيعة عنده إلى موقف، أنه اكتشف ذلك في وقت متأخر نسبياً يقول: (كنت الغبي الذي اتهمه الناس بالفطنة... لقد فهمت الحياة جيداً ولكن بعد فوات الأوان فلم يعد لهذا الفهم معنى ولا جدوى وهذا هو كل شيء)، (السابق رسالة 27 ص117).
ويقول في ما يشبه الاعتراف، في رسالة أخرى ماذا يمكن أن أكونه.. وماذا كان ينبغي أن أكونه شيء.. وما كنت إليه في آخر جولة شيء آخر هو الذي يبدأ منه القول وينتهي إليه.. النهاية هي التي تعطي البداية أو تسلبها معناها (السابق، الرسالة رقم 45 ص172).
وهو بوح خاص، ولكنه ليس معزولاً عن رؤيته العامة، يقول (التاريخ هو مجموعة الأكاذيب والمبالغات التي اصطلح الناس على تصديقها وتقديسها والاحتكام إليها) (رفات عقل ص89).
 
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved