الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

مأساة الليبرالية الجديدة (5)

*فاضل الربيعي:
كان وضع النخبة الفكرية والثقافية التقليدية في العراق في مطالع القرن الماضي، والتي ظل موقفها مادة لنقد الحداثيين الذين كالوا لها الاتهام بالتراخي عن دعم مطالب الإصلاح، يتسم بتعقد الظروف وتشوش المواقف السياسية من حولها، ولكنه قلما اتسم بالعجز عن إنجاز نوع من فك الارتباط بين الموقف من الاستبداد العثماني والموقف من الخطر الأوروبي (البريطاني تحديداً). وكان بوسع رجال دين شعراء ينادون بالإصلاح والحرية أن يظهروا ما يكفي العزم على معارضة مساعي الغرب الاستعمارية. إنهما شيئان منفصلا لا ينبغي الخلط بينهما أو تبرير أحدهما بالآخر، فالجزع من الاستبداد لا يجب أن يؤدي إلى القبول بالحل الخارجي.
وحين اختبر التياران على الطبيعة كل هذه المواقف والأفكار والأوهام، أتضح أن أهداف البريطانيين كانت أكبر من شعار التحرير. بعد نحو خمسة أشهر من اندلاع الثورة وتحديداً في 11 تشرين الأول أثار الزهاوي ضجة كبيرة في المجتمع بأسره حين قام باستفزاز مشاعر العراقيين وهو يلقي خطبة عصماء في احتفال أعد لاستقبال الحاكم السياسي للعراق برسي كوكس في محطة القطار. لقد حل للتو محل الضابط العنصري ولسن. ولم يكتف الزهاوي بالتهليل لمقدم كوكس، بل خاطبه بقصيدة مثيرة قال في مطلعها:
                                           
                                   
     عد للعراق وأصلح منه ما فسدا
                                                             وابثث به العدل وامنح أهله الرغدا
                                         الشعب فيك عليك اليوم معتمد
                                                                      فيما يكون كما كان معتمدا


كانت الثورة في نظره قلاقل، ما (ثار ثائرها في الأطراف إلا من سوء التفاهم، وأن المتفكرين في الأمة قد ذموها) هكذا كتب.
وأضاف: وأن بريطانيا هي حزب الحق:

                                  
    أتى الله حزب الحق نصراً فحرروا
                                                                وراء انتصار في الحروب شعوبا
                                      وأعطوا من العدل العراق نصيبه
                                                                     يسرون من أهل العراق قلوبا

إذا ما وضعنا حوارية فرنسيس مراش (بين الحق والعقل) في هذا الإطار، فسوف نلاحظ كيف أن النخبة العراقية رأت في الغرب العظيم، وبالمقلوب، رمزاً للحق، بينما كان يمكن بقليل من التبصر والنزاهة أن ترى فيه رمزاً لتلك الشخصية المتنكرة والمقنعة التي تسترت على روح التوحش في أعماقها، حين أبدت وبخلاف ما حقيقي، مقداراً مذهلاً من الرياء والخداع.
لم يكن الغرب العظيم حزباً للحق كما ارتأى الزهاوي المنبهر بفتوحاته وأساطيله إلا بمقدار ما أظهر هذا الغرب من طاقة على التمويه.
إذا كان الزهاوي استبق الاحتلال البريطاني بنحو عشرين عاماً حيث جاهر بوقوعه في غرام (قوة أسطولهم الحربي) ومدنيتهم العالية، فإن من الصعب الزعم أن تياراً ليبرالياً قد تشكل في العراق في هذا الوقت، والأدق أن الليبرالية الأولى في صورتها الأكثر نضجاً، ولدت مع تفجر المعركة حول الدستور (الثورة المشروطة 1906-1908).
ومهما يكن من أمر فمن المؤكد أن الليبرالية الأولى كانت ضحية الاستشراق بالقدر نفسه الذي بدت فيه وكأنها صنيعته.

.................................................................انتهت
 
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved