الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

آليات التجريب وآفاق الدلالة «2»
* د . عادل ضرغام:
***
البتر السرديّ من خلال العنوان الجانبي
لا تقف حدود التجريب في هذه المجموعة عند حدود تغييب الموضوع أو الحادثة أو تولد السرد المتنامي، وإنما نجد أن هناك شكلا مغايرا في بعض القصص الأخرى لمحاولة التجريب، ترتبط بتهشيم النمو السردي، محدثة في ذلك بتراً سردياً خاصاً من خلال العناوين الجانبية أو الأرقام التي تقطع النمو السردي. وفي إطار هذه التقنية السردية يمكن أن نجد قصصا عديدة لذلك المنحنى البنائي الخاص، مثل (أحلام مائية) لسعود الجراد، (ومزامير الملائكة) لزياد السالم، (ونوافذ ولصوص) لسعيد الأحمد، (ومساقط الرمل) لمحمد المنقري. وتفاوت الكتاب والقاصون في استخدام هذه التقنية، فنجد مثلا سعود الجراد يستخدمها استخداماً شكليا، لتأطير وترتيب أحلامه، فالقصة تبدأ من خلال السرد بضمير الغائب، بمقدمة سردية كاشفة عن طبيعة البطل المتأمل الحالم، وهنا يجب أن نشي إلى أن الحلم ينبع أساسا من جفاف اللحظة الحاضرة على المستويين الفردي والجماعي. وتبدأ القصة بعد قوله: (في ليال كثيرة كان يحلم) في أخذ منحنى جديد يرتبط بالبناء الحلمي الذي يختلف من ليلة إلى أخرى، وتتعدد الأحلام بشكل تراتبي، منها (الملياردير)، (الراعي)، (الفلاح)، (الرسام)، (الساحر)، (المعلم). والمتأمل للقصة على هذا النحو يدرك أنها بالرغم من استخدام تقنية التقطيع المرتبط بالعنوان الجانبي المتعدد، يدرك أن هناك نسقا تراتبيا يطل بوصفه خيطا ينظم الأحداث أو الأحلام، مما جعل القصة تعود إلى المباشرة والبناء التقليدي.
أما في قصة (مزامير الملائكة) لزياد السالم فإن التعامل مع هذه التقنية يأتي مختلفا اختلافا كبيرا مع التأمل السابق، فالعناوين الجانبية، التي وضعها القاص وهي على الترتيب: (الأطفال الطائشون - أما هو - ليل ومزامير الشوارع - غواية - إيقاع العتمة)، كلها عناوين جانبية، والترابط الظاهري بينها ليس موجودا، ولكن التأمل الدقيق يمكن أن يوجد علاقة ما بين هذه الجزئيات، ولكنها ليست علاقة قائمة على البناء والتراتب السردي المتنامي، ولكنها قائمة على وحدة الأثر النفسي، المرتبطة ببطل واحد، تشكل هذه الجزئيات ملامحه، وتشي بحركة البوار والموت الداخلي، الذي تتجاوب معه مزامير الملائكة. وسوف يطل سؤال النوع بارزا: هل تنضم إلى القصة القصيرة أم إلى قصيدة النثر؟ فليس هناك محاولة لبناء حدث تراتبي، أو قائم على التشظي، وإنما هناك محاولة لإدخال المتلقي في قلب حالة شعورية خاصة.
وفي قصة (نوافذ ولصوص) لسعيد الأحمد، تطل التقنية ذاتها، فالعناوين الجانبية العديدة (نافذة - مدخل - تساؤل - مساحة إعلانية - واقع - حقيقة - نافذة أخرى - اعتراف - انفراد) تأتي كأنها تمارس تحديا للعقل الإنساني في عدم وجود رابط ظاهري بينها، ولكنها تؤدي دورها في خلق حالة شعورية معينة ترتبط بالثورة على التقاليد والشكلية الجامدة والمؤسسة التي يعد الخروج عنها خروجا غير مقبول.
***
عطاء الرمز الدلالي
أشرنا - سابقاً - إلى أن أغلب قصص المجموعة التي بين أيدينا يمكن أن تندرج داخل إطار القصة القصيرة جدا، مما جعل أغلب القصص بعيدة عن القصة القصيرة المؤسسة بتقاليدها الفنية المعروفة، ولكن هذا التوجه أثر تأثيراً مباشراً، في وجود ميل لتكوين الرمز الأدبي، الذي لا ينبع دوره الدلالي من التحديد وإنما ينبع من انفتاحه على دلالات عديدة، وهذا الرمز الذي قدمته بعض القصص وثيق الصلة بالسياق الحضاري الذي يحيا فيه الأديب.
يتجلى ذلك حين نتوقف عند قصة (متاهة) للعباس معافا، فالمتأمل للقصة يدرك أن الرموز الموجودة في القصة عديدة. والقصة ترتبط براع يكتشف فقد عنزته العرجاء، بعد أن عاد إلى بيته، فيخرج للبحث عنها في الصحراء ولا يستطيع أن يجدها، ولكنه بمساعدة شخص منبوذ من المجتمع، يستطيع أن يصل إليها، ويجد الكلاب محيطة بها مستعدة للانقضاض عليها، فينقذها بمساعدة ضوء ذلك الخارجي المطرود. إن تلقي القصة على هذا النحو المرتبط بالحادثة يفقدها الكثير من قيمتها الدلالية، فالوقوف عند دلالة العنزة العرجاء التي قد تشير إلى بلده أو إلى الوطن العربي الكبير بكل أجزائه، ربما يفتح دلالات الرموز الأخرى، فالكلاب تشير إلى أعداء الوطن الذين ينتظرون الفرصة للهجوم، والخارجي المطرود أو المهمش يشير إلى المعرفة الموجودة والمفقودة في الآن ذاته، التي أنذرتنا بالكارثة المقبلة دون أن ننتبه إليها. وبهذا التفتيت الذي لم نفعله عامدين تتكامل الدلالة الخاصة بهذه الرموز، لتشير إلى حالة استبصار حياتي معيش. وفي قصة (معركة صغيرة جدا) لمصلح جميل، يمكن أن نفهم جانباً من جوانب العرج الذي وجد بالعنزة في القصة السابقة، وهذا الجانب يرتبط بعدم معرفة الآخر ومعرفة نواياه نحونا بشكل إجمالي. والقصة تصور شخصا عربيا سافر إلى لندن، وهو قادم إليها بعجز في اللغة، وعجز خاص من خلال وعيه التهويمي المنفتح على الآخر دون معرفة بطبيعته البرجماتية. ويتفق العربي وآخر لندني على لعب مباراة في الشطرنج، ويختلف توجه كل واحد منهما باختلاف تكوينه ووعيه الثقافي والديني، فالعربي يعتبرها مباراة للتسلية، واللندني يعتبرها - انطلاقا من وعيه البرجماتي - مرتبطة بالربح والخسارة، ويبرز للعربي لافتة توضح ذلك، ولكنه لعجزه اللغوي لم يفهم ذلك، ويكون مطلوبا منه أن يدفع المبلغ المتفق عليه. والصراع في الشطرنج يشير إلى الصراع بين الجانبين، وإلى وعيين مختلفين، وعي تهويمي منفتح على الآخر دون حساب الربح والخسارة، ووعي برجماتي ينطلق من زاوية المصلحة.
والمتأمل لبعض قصص المجموعة يدرك أن هناك قصصا تبني رمزها على قيمة المغايرة بين الماضي والحاضر، الماضي بكل بكارته وطفولته ونقائه، والحاضر بكل ماديته وبنائه جسورا فاصلة بين الناس. يتجلى ذلك في قصة (رسالة) لعبد الرحمن الدرعان، وقصة (الفانوس) للكاتبة المتميزة حكيمة الحربي، ففي القصة الأولى (رسالة) نجد أنها قصة بسيطة بنائيا وتركيبيا، ولكنها من الناحية الدلالية تأخذ مدى واسعا، وخاصة إذا ارتبط ذلك بالرمز؛ فالقصة تحكي عن (امرأة) تحمل كفنها وتسير في طرقات المدينة، وتنتمي إلى لحظة ماضية وإلى أفق قديم مملوء - من وجهة نظرها - بالخير والوفاء، وكان الناس منفتحين على بعضهم حتى أنها تعتبر كل بيوت البلدة بيوتها، كان يمكن أن تنام في أي بيت، ولكن مع اللحظة الآنية ومع وجود الأقفال، والتوجه المادي، فقد تهشمت تلك الصورة في منطقها، وهي في ذلك الإطار تأنف من المدنية الحديثة، هل ترمز تلك المرأة إلى صورة قديمة لبلدة الكاتب، كان الأمان والفطرة موجودين، أم ترمز إلى فراغ الحياة التي نحياها، وهي حياة مادية ترتبط بالشكل دون الجوهر، هل ترمز إلى طبيعة تكوين الأديب الذي يأنف من الحياة العصرية، ويميل إلى كل ما هو قديم وفطري؟ أنا أميل إلى الفهم الأخير. والمتأمل لأدب الجنوب بتجلياته المختلفة بصفة عامة يدرك وجود هذا المنحنى في الشعر والقصة على حد سواء.
هذا التوجه الخاص بالارتباط بالقديم، وبالصورة القديمة لبلادهم، وكأن هذه الصورة تمثل فردوسا مفقودا يحاولون العودة إليه، توجه يمثل الارتباط بالوعي الفطري الذي تلاشى بالتدريج، ويتجلى ذلك في قصة (الفانوس) للكاتبة حكيمة الحربي، والفانوس ينتمي إلى لحظة تاريخية سابقة، وتتساوق معها تلك الأبنية الطينية التي تشير إلى البراءة والى الفطرة. إن القصة تعقد تجاوباً بين الفانوس والأبنية الطينية، وبين المرأة التي تنتمي من خلال عمرها إلى لحظة وصورة سابقتين؛ لكي تقول لنا في النهاية إن هذه الصورة قد اختفت تماما أو كادت. والقصة حين تركز على جزئية أساسية وهي جزئية المرأة الوحيدة العاقر بعد وفاة زوجها تحمل حنينا خاصا إلى البيت الطيني والفانوس. هل تشير القصة إلى نهاية الفطرة والبدائية والمثال، وبداية حياة المادة والرأسمالية الجديدة، التي تزيد الفقراء فقرا والأغنياء غني، خاصة أن القصة تشير إلى طغيان المباني الأسمنتية على المباني الطينية، مما يؤدي إلى اختفاء وضع ما، كان يمثله الفانوس ويمثله البيت الطيني؟
وإذا كانت القصتان السابقتان تبنيان رمزهما في إطار الحنين إلى الماضي الزاهر، والابتعاد عن الحاضر أو الآني بماديته الخاصة، فإن قصة (الفراشة التي انهزمت) لعبد العزيز مشري تبني كيانها الدلالي والرمزي من خلال المقارنة بين طبقتين، الطبقة العليا والطبقة الدنيا، وهاتان الطبقتان توجدان بشكل متواز، ولا سبيل في منطق القصة إلى تقاطعهما، فالفتاة الصغيرة التي لا تملك نقوداً تشير إلى الطبقة الدنيا، ويمثل الطفل ذو الحذاء الجديد الطبقة العليا، والطفلة تحاول الانضمام إليه وإلى أصدقائه لشراء الحلوى، التي لا تملك ثمنها، ولكنهم يرفضون، فتتنازل تدريجيا وتطلب الأنس بهم والتكامل بوجودهم، ولكنهم يرفضون أيضا، لأن هناك سورا غليظا اسمه الطبقة، ومن ثم تتكسر كل محاولات الفتاة للوصول إلى الحلوى أو إلى الأنس بهم.
إن القصة ربما تحمل إدانة للمجتمع المادي الرأسمالي، ونحن في إطار هذه الجزئية، يجب أن تشير إلى شيء مهم، وهو أن المجتمع الرأسمالي يزيد الغني غنى والفقير فقراً، والقصة - باعتمادها على طفلين وما يرتبط بهما من حاجات إنسانية ضرورية - تدفع إلى الحزن المشوب بابتسامة صفراء باهتة.
***
جمالية اللغة
إن الحديث عن قيمة اللغة في العمل الأدبي ربما يكون حديثا لا شك فيه، فاللغة هي العنصر الذي يحمل إلينا العمل الأدبي، وهي التي تشكل سماته الخاصة، وتولد قيمته الفنية والجمالية. إذا تحدثنا عن لغة هذه القصص فيمكن أن نقول إجمالا إن الغالبية العظمي من القصص تندرج تحت ما يمكن أن نسميه جمالية التقرير، وبشكل أوضح وصريح، هي لغة بعيدة كل البعد عن اللغة الاستعارية المجنحة المموجة بتموجات ونتوءات الاستعارة، وهذه اللغة المملوءة بتموجات الاستعارة يمكن أن تكون ذات تأثير سلبي على منطق السرد القصصي، إذ تستطيع أن تقيم جذورا فاصلة في السرد بدلاً من البناء المتنامي.
وهذا التوجه الخاص الذي يرتبط باستخدام اللغة التقريرية المقطرة ربما يكون توجها يتساوق مع المشهد الإبداعي العربي، سواء على مستوى القصة القصيرة أو مستوى الرواية، فالوقوف عند معظم القصص سوف يثبت صواب هذا التوجه، ويتجلى هذا واضحا في قصة (الصدمة) لإبراهيم الناصر، و(فراشة) لحسن حجاب الحازمي، و(تقرير لرجل صامت) لمحمد حسن علوان.
ولكن في مقابل هذا التوجه الخاص الذي يتساوق مع سياق حضاري معين، نجد أن هناك قصصا أخرى، ما زالت تستخدم اللغة بشكلها الاستعاري، مثل (السابح في متاهة الغرق) لحسن دعبل، ويتجلى أيضا ذلك التوجه في قصة إبراهيم النملة (جنح). وهذا الجانب ما زالت القصة السعودية تعاني منه، وهذا الجانب اللغوي الخاص المرتبط باستخدام الاستعارة أو التهويم الرومانسي في النص السردي يمكن أن يكون محببا عند البعض، ولكن هذه اللغة الاستعارية - وهذا رأي خاص بي - تكون ذات تأثير سلبي على العملية السردية، فالثابت أو المقبول - وأرجو أن لا يشكل هذا وصاية أو مصادرة - أن السرد التقريري الذي لا يخلو من الجمال المرتبط بخلق عوالم حية ربما كان أفضل من استخدام اللغة الشعرية.
ولكن الإنصاف يقتضي منا أن نشير إلى أن هناك قصة وحيدة من قصص هذه المجموعة استخدمت اللغة الاستعارية، دون أن يتأثر السرد بالسلب، فقد حافظت على لغتها الشعرية، وحافظت أيضا على الجانب السردي المتنامي، ووحدت بينهما في شكل فريد، وهي قصة (الطريق إلى رمدان) لطلق المرزوقي وهي قصة ربما تكون مختلفة عن قصص المجموعة التي بين أيدينا، ويمكن أن نسمي هذه القصة الطريق إلى المعرفة، فهي تحاول الوصول إلى معرفة الوجود وطبيعة ذلك الوجود، ولكن من خلال ذاكرة مملوءة بخصوصية المكان المرتبط بالبدو والصحراء، وأطلال هؤلاء البدو.
وفي ذلك السياق يمكن أن تتحول (رمدان) إلى رمز شديد الدلالة على تلك العوالم غير الملموسة أو المحسوسة أو المادية، حيث تتوحد بالحلم، ويمكن أن يكون المحياني الذي كان موته علامة بارزة وفارقة في ميلاد هذا القلق الوجودي المرشد الذي يأخذ النفس الإنسانية، ليكون ضوءا كاشفا لمن يريد أن يدلف إلى هذه العوالم، فهو الذي يحدد لها الطريق، إلى البادية، ثم إلى الوادي ثم إلى المهرة أو الخيل التي تصعد به، وربما كانت هذه اللغة متساوقة مع العوالم التي يحاول ارتيادها، والتي لا تظهر للعيان بقدر ما تختفي، ومن ثم جاءت اللغة كاشفة عن هذه العوالم غير المحددة تحديدا كاملا.
 
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved