الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

كيف يحرق العراق تاريخه الثقافي؟!

*قاسم حول:
ليست الحرب وحدها هي الأخيرة التي أدت إلى حرق تراث العراق الثقافي وسحقت آثاره ووضعت ذرات مسحوقها في أكياس من الجنفاص واستعملت متاريس للجنود البريطانيين والأمريكيين في مدينة بابل الأثرية، ولكن الموقف من هذا الحدث هو الذي أوصل العراق إلى هذه الفوضى وهو الذي أودى بعظمة تحف بابل إلى المهرسة العسكرية.
فعلى سبيل المثال عندما وضع الجنود التماثيل تحت جنازير الدبابات، وهذا حصل بعد عام من سقوط الدكتاتور، لم يحرك ذلك مشاعر السيد وزير الثقافة ليقدم استقالته على الأقل هذا إذا لم يذهب بنفسه أمام قائد الدبابة البريطانية ويلقي أمامه خطابا عن الأخلاق والثقافة والحرب والسلام والمعرفة والجهل ويطلب منه مغادرة البلاد.
وأيضا، كان ينبغي منذ البداية أن يرفض العراقيون الدكتاتورية منذ لادتها وليس بعد نموها وشبابها حتى شيخوختها. كانت كلمة لا هي التي يجب أن تقال لا أن تناقش، وأن يرفضوا الحرب لا أن يناقشوا الموقف منها. والدكتاتورية يسميها ابن خلدون في مقدمته بالعسف ويقول:
(العسف يؤدي إلى خراب النفوس وفساد النوع) وهو أدق تشخيص مركز وبليغ لسلوك الدكتاتورية ونتائجه في حياة الإنسان ونفسه وسلوكه وفساد النوع واضح وجلي وكان مختفيا في أقبية التعذيب وبيوت الأشباح فخرج إلى الشوارع بعد تهديمها وصار يعرض سلوكه في الهواء الطلق بسبب الفوضى بعد أن كان يؤدي ذلك في غرف مغلقة ليس ثمة علامة تقودنا إلى تلك الأقبية التي أطلق عليها عالميا تعبير (بيوت الأشباح).
هؤلاء الذين صنعهم العسف كان يقودهم صهر الدكتاتور وهو يتاجر بالآثار العراقية بين الفينة والفينة، كما أن زوجة الدكتاتور أهدت أكثر من مرة لزوجة رئيس يزور العراق، قلائد سومرية ومنها قلادة شبعاد ملكة سومر.
كما أهدى أحد الموسيقيين القيثارة السومرية للدكتاتور في مناسبة من مناسبات عيد ميلاده.
فمفاتيح المتاحف كانت مستنسخة وتمتلكها بعض الشخصيات المتنفذة في دولة الدكتاتور. قبل سقوط الدكتاتور تم تفكيك تمثال الثور المجنح الذي يعود للحقبة الآشورية ونقل على مراحل وتم اكتشاف أحد جناحي الثور في الحدود الأردنية العراقية وانكشفت السرقة ما حدا بالأجهزة الأمنية إلى ادعاء كشف تهريب هذا الأثر الهام من آثار العراق التاريخية.
وكانت الأجهزة قد أوعزت قبل هذا الحدث إلى مؤسسة السينما العراقية بإنتاج فيلم عن قدرة الأجهزة الأمنية في العراق على إعادة رأس الملك سوناطرق الذي سرق وهرب إلى لبنان وكان اسم الفيلم (الرأس).
يأتي ذلك للتغطية على مافيا المتنفذين في السلطة في تهريب الآثار العراقية. دعونا نتذكر غزو هولاكو لبغداد واتلاف مخطوطتها حيث تلون دجلة بالحبر الأزرق.
ونلقي نظرة كيف لم يفكر أهل بغداد بالحفاظ على تراثهم عندما شعروا بأن الغزو قادم والكارثة آتية، وهو ما لم يحصل أيضا عندما كانت جيوش العالم تلوح بالحرب وبالغزو.
لم يضع العراقيون خطة لحفظ تراثهم وتاريخهم، فالتلف لم يصب الآثار وحدها بل تعداها إلى اتلاف المخطوطات النادرة وأيضا أشرطة السينما الوثائقية منها والروائية.. الأصول السالبة والموجبة المصور عليها تأريخ العراق.
كتب لي أستاذ متخصص في الميثولوجيا يقول استدعتني الفرقة العسكرية الإيطالية المقيمة في مدينة الناصرية بعد الحرب وسقوط الدكتاتور وأخذوني معهم داخل الدبابة في رحلة نحو موقع أثري في مدينة أور كدليل معرفي للآثار. ونزلنا على مسافة من الموقع الأثري حيث كان من الصعب على الدبابة مواصلة السير. في الطريق كان ثمة حارس سابق معني بالآثار استضافنا في منزله البسيط الذي هو عبارة عن سياج وبضعة غرف متباعدة.
يواصل الخبير الميثولوجي حديثه قائلا: ذهبت إلى (التواليت) وفوجئت بأن أرض التواليت عبارة عن بلاطة كبيرة وعليها كتابة مسمارية!
هذه الكتابة المسمارية تعود إلى الحقبة السومرية أكثر من خمسة آلاف عام.. من يدري قد تكون هي الرقم المفقود من رقم ملحمة كلكامش التي عثر على تلك الرقم في مدينة أور كما أن منطقة الأهوار جنوبي العراق هي الأخرى خزين لآثار السومريين.
ويسكنها قوم يطلق عليهم اسم المعدان. المعدان، سكنة الأهوار هم أحفاد السومريين، أطلق عليهم اسم المعدان نسبة إلى معد بن عدنان الذي كان قومه أهل قشف وغلظ في المعاش، فيقال تمعددوا أي تشبهوا بهؤلاء القوم.
ولما كان سكان الأهوار يعيشون حياة غليظة ومتقشفة فسموا بالمعدان وواحدهم معدي وللتصغير أطلق عليه المعيدي وقيل تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
هؤلاء القوم (المعدان) هم سكان الأهوار، المنطقة التي يعود تاريخها إلى الحقبة السومرية، عانوا حروبا كثيرة في التاريخ ودخلوا الإسلام عند الفتح الإسلامي بقيادة خالد بن الوليد، وقاوموا الأتراك بالاحتجاج والرفض وعدم الانصياع لأوامر السلطان عندما استعمروا العراق، ولكنهم قاوموا الإنكليز بالبنادق لأول مرة إبان الاستعمار البريطاني للعراق، وكانوا يستخرجون المعادن من الأرض ويحصلون على قطع منها ويذيبونها ويخلطونها بالبارود وتعملوا صناعة العتاد.
لم يكن المعدان يعرفون أن المعادن التي كانوا يستخرجونها هي آثار أجدادهم النادرة، هي الآثار السومرية وعليها الكتابة المسمارية والنقوش والقلائد وقطع النقود المعدنية وأدوات الطبخ المستخدمة قبل آلاف السنين. الفترة التي فرض فيها الحصار على العراق برزت ظاهرة اختفاء الأعمال التشكيلية المهمة لرواد الحركة التشكيلية في العراق.
كما أن الرسامين والنحاتين المعاصرين صاروا يبيعون لوحاتهم أو يرسمون لوحات جديدة تباع بسعر التراب بسبب الضائقة المالية، وكانت ثمة ما يشبه المافيا تتولى هذا الشأن وقد خزنت في مخزن كبير في إحدى بلدان الخليج والأغرب من ذلك، تمت استضافة النحات الراحل إسماعيل فتاح الترك لنحت جدارية كلكامش على واجهة المخزن وهي حالة من حالات التغريب في الإعلان عن محتويات مهربة داخل مخزن علني وعليه نصب لملحمة كلكامش.
إذا أردنا أن نقف أمام هذه الأحداث الثقافية التي أتلفت التاريخ الثقافي العراقي والذي يعود إلى آلاف السنين، فإننا نحصد حقيقتين، الأولى: تتعلق بسيادة الجهل، والثانية: تتعلق بسيادة الدكتاتورية.
تجهيل الشعوب بعدم أهمية الأثر التاريخي والأثر الثقافي يقود إلى أن يحفر الحارس الأرض التاريخية ويستخرج قطعة أثرية يستخدمها بلاطا للتواليت وهي مكتوبة بالخط المسماري بداية الكتابة الإنسانية قبل أكثر من خمسة آلاف عام.
وأن يستخرج سكان الأهوار القطع المعدنية النقدية والقلائد والأساور والمصوغات ويذيبونها مع البارود لمحاربة الإنكليز معتقدين أنهم يحصلون على مواد أولية لصناعة الذخيرة بسعر رخيص! ولكن ما هو خطير أن ينبري رسامون مثقفون لترحيل وتهريب ملامح نهوض الحركة التشكيلية في العراق ومعرفة مفردات لغتها التعبيرية لتكون منهجا للقادم من الأجيال، بل ويعملون بشكل دءوب ومنظم على إعادة رسم اللوحات بشكل مستنسخ ليضعوها بدائل للوحات المهربة، ويتم ذلك بقدرة فائقة على التقليد تماما مثل إعادة رسم واستنساخ لوحات الاستشراق التي أصبح من الصعب التفريق بين الأصل والصورة.
(العسف يؤدي إلى خراب النفوس وفساد النوع)
ابن خلدون


*سينمائي عراقي مقيم في هولندا
Sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved