الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

العجيلي.. عميد الرواية السورية

بوفاة الدكتور عبد السلام العجيلي خسر الأدب العربي أحد فرسانه الكبار على مدى ما يقارب القرن من الزمان، كما خسرت الرواية العربية أحد روادها الواقعيين حيث كانت الرواية العربية في بداية تشكُّلها وتكوينها. كتب ما يقارب (45) كتاباً في القصة والرواية والسياسة والاجتماع، وكان شاعراً مقلاً، وما ديوانه الوحيد (الليالي والنجوم) إلا دليل على شاعريته الإبداعية الرائعة، ولكنه يأبى أن يعد شاعراً أو يصنف كذلك.
الحياة الطويلة التي عاشها (العجيلي) جعلته يعيش مراحل متعددة من حياة أمته العربية السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية؛ فقد شهد بدايات النهضة العربية، وتحرُّر الوطن العربي من الاستعمار، وضياع فلسطين، وقيام الحرب العالمية الثانية.
عاصر العديد من رجالات الفكر والأدب والسياسية في الوطن العربي وخارجه، فكان دائم الترحال والتنقل. تقلب في عدة مناصب سياسية في بلده، ولكنه آثر إلا أن يكون بعيداً عن ذلك ليعود طبيباً وكاتباً ومواطناً عادياً حبيباً لقومه أميناً لهم. حياة طالت تسعة عقود شاهدة على قرن، حافلة بكل المتناقضات الثقافية والاجتماعية والسياسية، حملها في ذاكرته ووجدانه، وصاغها أدباً رفيعاً رائعاً في القصة والرواية والحكاية والمقالة، فظل يكتب، وظل يُطَبِّب، وظل يفكِّر غير آبهٍ بماديات الحياة وبهرج المناصب، وكانتْ مضاربُ قومه في بلدته الرقة تفوقُ مرابع لندن وباريس وكل المدن الصاخبة.
(العجيلي) صاحبُ طُرْفَةٍ وفكاهة وسرعة بديهة، يتمتع بذاكرة مدْهشة جبارة، يحفظ مطولات الشعر العربي وروائع التراث ثم يصوغها بأسلوبه الحكائي المتميز؛ حتى ليود سامعه ألاَّ يتوقف عن الحديث. فكان بمثابة الطبيب الذي حكى عنه الروائي المصري يحيى حقي في روايته (قنديل أم هاشم) الوعي ممزوجاً بالسحر وبالعادات المحلية.
ومما يدل على ظرفه وشاعريته ما رواه في إحدى المناسبات، قال: عام 1947م كنت نائباً في البرلمان السوري عن مدينة الرقة، وفي ذلك المجلس كنت زميلاً للشاعر الكبير بدوي الجبل الذي كان نائباً وأميناً لسر المجلس، وكان الرئيس العلامة (فارس الخوري). وفي أصيل أحد الأيام كنتُ في زيارة لصديقي الشاعر، فاقترحت عليه أن يحضر معي ندوة لحفلة الزهراء كان موعدها بعد ظهر ذلك اليوم على أن نخرج منها إلى جلسة المجلس مباشرة، فلم يُبْدِ البدوي استجابةً لما اقترحته وتعلل لذلك، ثم نزل على إلحاحي عليه وقبل مرافقتي بعد أن وعدته بأن نترك الجلسة مبكرين. كان اجتماع الحلقة ككل جلساتها ندوة أدب وسحر رفيعين، كما أنها إلى جانب روَّادها من المثقفين والكتاب تضم زمرة رائعة من السيدات والأوانس.. تألقت بينهن صبية فاتنة الحسن رقيقة التهذيب تفيض ظرفاً وحيوية، هي الآنسة سلمى. وبدا لي أن صديقي الشاعر لم يأسف على قدومه إلى الندوة، بل إن جوَّ الندوة راقَ له إلى درجة نسي معها جلسة البرلمان التي حان انعقادها. وكما حاولتُ إقناعه للحضور حاولتُ إقناعه للخروج والتوجه إلى المجلس. وفي هذه الجلسة بينما كنت في مقعدي إلى جانب زملائي من النواب جاءني أحد السعاة يحمل إليَّ ورقة مطوية من أمين السر الذي كان مقعده إلى جانب الرئيس. فضضتُ الورقة فإذا بها:
لا تُبالي والخير في أن تبالي
ألهجرٍ تصدُّ أم لدلالِ
ضحكتُ.. وسألني زملائي: ماذا تريد الرئاسة؟
فتنحيتُ جانباً ورحتُ أجيبه وكتبتُ تحت البيت:
لو تراها وأومضت مقلتاها
تسكب الشوق في ثنايا السؤالِ
أين لا أين عاشق بدوي
ملهم الروح عبقري الخيالِ
كلنا في هواك صبٌّ عميد
مثل بدو السهول بدو الجبالِ
وأعدتُ الورقة مع الساعي إلى المنصة وعيني عليه، ولاحظتُ كيف قرأ البدوي الورقة ومال بها إلى الرئيس يتلوها، وكيف كان فارس الخوري يهزُّ قامته الضخمة. ولم ألبث بعض الوقت حتى عاد الساعي يحمل إليَّ الورقة مرة أخرى، وعليها:
ما لسلمى بعد المشيب وما لي
بدعة الحب صبوتي واكتهالي
إن حب الجمال أصبح عندي
بعد شيبي عيادة للحجالِ
كلما لاح بارق من سناه
جن قلبي وضل أي ضلالِ
هذه واحدة من روائع حكاياته التي تدل على شاعريته وظرفه وذكائه وروعة أدبه وثقافته. لقد سئل ذات مرة: من أين تأتي بهذه القصص والحكايات؟ فأجاب: من الدكان المجاور.
عبد السلام العجيلي كان أمة وحده، وكان أمة في كتابته، وأمة في الشكل الذي اختاره لكتابته، وأمة في الشكل الذي اختاره لكتابته.. وهذه الأمة لن تنساها الأجيال التالية.


خالد محمد الخنين

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved