الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

لقاء مع الماغوط

قصدت الصيف الماضي دمشق لا لأتجول في حاراتها القديمة وشوارعها التي أشتاق، ولا لأزور سوق الحامدية الشهير الذي تجذب بضائعه وطرازه القديم سواح العالم، لم أذهب كسائحة استهوتها طبيعة دمشق الساحرة ببحرها ونهرها وشمسها، ولا كعربية أرادت استحضار تاريخ أمتها هناك حيث ماضي الدولة الأموية وحضارتها الباقية تشهد لها وصوت النداء إلى الصلاة من مآذن جامعها الأموي الشهير، لم أذهب أقتفي خطا أجدادي وعظمتهم بل زرتها هذه المرة بصفة أخرى ولحاجة مختلفة.
كنت هناك لألتقي برجل ذي طبيعة تختلف عن غيره من البشر، رجل أمضيت العمر أقرأ له، وأحلم به كسنديانة تتسلقها أحلامي, وكصنوبرة تفوح في شرنقة الحلم، رجل رسم القصائد بحبر دمه، وسياط الحرية التي نالها بقيت كوسام عُلّق على ظهره أبد الدهر، رحت أبحث عن طفل أرهقته طفولته، وعن خارج عن القانون، وسجين أبدي ظل سجين أوراقه وآلامه وقضاياه الأبدية، استوقفتني الأرصفة التي طالما كتب عنها وسكنها، تساءلت أي الشوارع مر به وأي الأرصفة تلك التي كتب عن انتمائه لها.
طلبت من السائق أن يتوجه إلى بردى، توقفت عند أحد محال الزهور في طريقي وابتعت سلة ورد، ولما وصلت إلى النهر أسرعت كطفلة رأت من بعيد أسراب فراشات وقوس قزح، وكأن المكان الذي أنشده هو دنيا العجائب التي قرأت عنها في عالم أليس الساحر.
وقفت قرب الماء الجاري في عروق النهر سرت قشعريرة في جسدي وكأنها برودة الماء تنفستها فاستيقظت داخلي الحياة.
في مرايا الماء شاهدت رسم امرأة غيري لعيونها لغة الصمت، ومن جسدها تخرج رائحة الحنين والحزن، اتسعت حدقة العين لتسكنها اللوحة مكتملة بألوانها وأنفاسها وأصواتها وحركتها المتواطئة مع حفيف الذكريات.
حملت سلة الورد ونثرت أوراقها فوق بردى، حتى إذا سار الماغوط برفقته صباحا كعادته عبق بردى بالورد المسفوح دمه فيه، هي رسالتي إليه سيقرأها الشاعر كيفما أراد وباللغة التي طالما أحب الكتابة بها.
لا بد وتستوقفه الوردات وشذاها وسأكون أسعد البشر إن أسعده عبيرها وألوانها، تمر نسمات عطرة تبعثر الذاكرة وتوقظني من دائرة الحلم تنزلق دمعة دافئة لتصافح الماء فتعود كفاي بها وببعض الماء أغسل وجهي وأنهض.
تتوجه بي السيارة إلى الربوة، إلى مقهى أبو شفيق الذي كلما اقتربت منه كانت تزداد ضربات قلبي، ويزداد شوقي أيضا، دقائق قليلة ما بيني وبين المكان لكنها كانت دهرا، للحظة انطفأت الشمس بغيمة، عزقتني الأشجار بأوراقها اليابسة ولسعت بشرتي لفحات آب الحارة لكنني لم أكن أفكر إلا بالرجل، كيف يبدو، ماذا سأقول له، كيف سأتعرف إليه، ما هي هيئته وأصدقاؤه؟ وقفت وسط غيمة من دخان على باب المقهى، ذلك المكان الرجولي من الدرجة الأولى والذي استغرب رواده من وجود امرأة بهندام مرتب وهيأة محترمة في مثل مكاني، تذكرت تأنيب أمي ودهشتها حين أخبرتها انني ذاهبة لألتقي الماغوط في مقهى، تذكرت عباراتها القاسية.
مجنونة أنت، ومتى لم أكن إلا كذلك؟ جنوني هو طريقتي الرائعة في معايشة الحياة وتقبلها، جنوني هو عالمي الذي أحب أن أكون فيه بعيدة عن رتابة العقل، هو تأشيرة دخولي لعالم لا يقبل إلا الصدق بعيدا عن التمثيل والتصنع والزيف والخداع، إن كانت التلقائية والبراءة هي جنون فلا بأس به إذا، قصدت هذا المكان لأطابق الواقع بالخيال، والصور الصامتة بالصوت والصورة الحية.
تجول بصري في الوجوه أبحث عن رسم صاغته مخيلتي له، عن طفل يتسلق الأسطر ويلهو مع العصافير برفقة الريح وعلى أرصفة الحياة، كنت أبحث عن ملامح رجل خارج عن قانون الحياة والطبيعة، عن سجين كانت القصائد والحرية التي نشدها هي التي كبلته بالقيود والأغلال وساقته لسجون حفرت سياطها على أديم ظهره خرائط بؤس وألم، كنت أبحث عن عينين يسكنهما الوطن ووجه يأبى إلا أن يعكس ماضيه على ملامحه، وكلما ظننت أنني وجدته كان بصري يرتد وجسدي يرتعش، وأزداد تعرقا، حتى أدرك أنه ليس هو.
في ركن من المقهى كان يجلس رجل يلتهم سجائره كقطعة حلوى، رجل سبعيني طفولي الملامح، يرتدي قبعة من القماش وجلابية داكنة وحوله سحابة من دخان سجائره، لم يكن يشبه صوره كثيرا، فالسنوات زحفت سريعا على وجهه، وصار أكثر سمنة وأقل حركة، الورقة والقلم على طاولته أكدت لي أنه هو، وكذلك صبي المقهى، حدقت فيه بصمت، ذبلت نظراتي بدمعة حزن سقطت رغما عني، وآثرت أن أغادر المكان دون أن أتحدث معه، آثرت أن تبقى صورة الشاعر العظيم والوطني الحر دون أن تزعزعها الحقيقة القاسية وسنوات العمر التي أرهقت الرجل.
ركبت السيارة وطلبت من السائق العودة من حيث انطلقنا في الصباح الباكر، ودعت دمشق وشهدت لحظة توسدت الشمس الأرض وصبغت السماء بحمرتها، عدت بذاكرة مرهقة موجوعة بالحقيقة مسكونة بهاجس لقاء لم يتم، بقي الماغوط فيها كما أردته أن يبقى ماردا وعظيما.

ميسون أبوبكر
شاعرة وأديبة أردنية مقيمة بالرياض
maysoonabubaker@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved