الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

قصة قصيرة
السمكة والبحر
*شريفة الشملان:
أشتاقه..
عنده فقط أغسل تعبي وإرهاق يومي.
أريد أن أسير بمحاذاته، يرش روحي بنسيمه العبق، فيغسلني من الداخل
أنادي صديقتي ونذهب، في السيارة صامتة أنا، فالتعب أخذ طاقتي للكلام.. الكلام الذي دار هذا اليوم كثير ومتفرع، لكنه مخيف، وأنا أخاف الظلام، وأحاديث السحر والجن، وكلاهما دارا هذا الصباح، فالإنسان كان وما زال عدو ما يجهل لأن ما يجهله يخيفه، وأنا أخاف الجهل كثيرا، وأحاول أن أحاربه ما استطعت لذلك سبيلا..
حاولت أن اذهب بعيدا فلا أسمع شيئا، لكني سيدة البيت وواجب الضيافة يحتم علي البقاء، أحاول أن أزيل أثر الأحاديث قبل النزول من السيارة وهواؤه يلفح وهي بندواته جميلة وأظن أنني فلحت، ولكن..
ننزل نحن الثلاثة نسير بمحاذاته، تهب علينا ريحه التي غسلها لنا وعطرها برائحته، تستحثني الصديقتان على الإسراع.. أجر رجلي أنها تأبى الحركة، أجلس قباله وأدع صديقتي تكملان سيرهما، أرفع الغطاء عن وجهي وأدع الهواء الطري يداعبه، أشعر أن الريح الندية تدخل لأعماقي، تخدرني، تلغي كل شيء التعب، وهم الأبناء، والبيت ومتابعة نشرات الأخبار والمصارعة الحرة وغير الحرة، وكل شيء، لا شيء البتة أنا وريحه العذبة وتكسر الموج على صفحاته أمامي كأنها كسر مرايا تتصادم، والألوان تتراقص على سطحه وأتساءل، ويقولون: ماذا تحبين في الدمام؟!!
وامامي كل هذا البحر، فكيف لا أحب الدمام!!
الهواء يسير الهوينى على سطحه، وبضع سمكات تتشاقى فتتقافز فامتلئ فرحا، وكأنني طفلة تشاهد الرسوم المتحركة.. وأصنع مدنا لهذه الأسماك وأهبها أسماء جميلة، ألاعبها في خيالي وأقفز معها وأبتعد وإياها عن شبكة الصياد، وأتذكر أنشودة قديمة للأطفال تقول:
يا بط يا بط
أسبح بالشط
قل للمملكة
أتت الشبكة
ميلي عنها
تنجي منها
على جانبي صيادون أضحك بسري، وأقول ماذا لو سمعوني أقول ذلك بصوت عال.. هل سننشب بصراخ، أم سيضحكون من امرأة تجلس وحيدة وتخاطب الأسماك..
أمضي بتخيلاتي مع عالم البحر، قواقعه وأصدافه، واللؤلؤ والمرجان، وأشكل لوحات مبهجة لداخله، وموجه يعزف أمامي لحنا هادئا.. وعن غير بعد تسير باخرة تتهادى ليلا بأنوار تتماوج على السطح وتتشابك، ثم تقفز سمكة كبيرة بجسم علوي نسائي، وأسفلها سمكة، قلت في خاطري هأنذا وجها لوجه أمام عروسة البحر، ويقولون خيال بحارة يحلمون بامرأة طال الزمان والمسافات بهم عنها!! ألمس جسدها لزجا ناعما تتحرك أمامي، أتفحصها.
عروس لها عينا غزال وشعر منسدل على ظهرها، عابثة الموج، رفعت نصفها الأسفل بيديها وجلست جنبي، وراحت تجاذبني أطراف الحديث، عرفت أنها تعيش عمرا كعمر البحر، وأنها سيدة هذا الشاطئ الممتد إلى ما شاء الله.
أما والدها فهو ملك الشطآن كلها ودعتني للنزول معها، فقلت لها: إنني لا أجيد السباحة الا بضع مترات لا تتعدى أصابع اليد، وأني أشرق بالماء المالح (ضحكت عن أسنان لؤلؤية وقالت سأحملك).
تركت عباءتي وغطاي على الكرسي، وحملتني كان شعورا لا أعرف كيف أصفه، وأنا في وسط الماء، هو شيء أكبر من الفرح، وألذ من الوسن قلت في خاطري سأكتب هذا الشعور وسأحاول أن أختزن لحظاته، وسأحكيه (لأميمة الخميس)1 فتأخذه لتضعه بقصة للأطفال، وتذيعه الإذاعة والتلفاز، لم يكن سباحة ولا طيرانا هو بين الاثنين كانت السمكة المرأة تلعب بزعانفها، وأنا أتماوج بسعادة داخل الماء، وأتنفس ولا أظهر فقاعات ولا أغرق، وروحي ترفرف، جناحان لها تخفقان كما خفقان فراشة شقت شرنقتها.
تنزل بي، وتبحث عيناي عن قصص ألف ليلة وليلة وشهر زاد تجوب البحار بالسندباد، وجنيات البحر، لا أجد قصورا إنما صخورا ملونة وبينها تسبح آلاف الكائنات الجميلة، التي تعبر بين عيني ويلتصق بعضها على جسدي، وأعابثها وأنا أمد كفي لأمسك شيء منها، لكنها تهرب مني بزئبقية، وأنا تقهقه روحي كطفل معافى، أرى قوقعة ما مرت ببال نوخذه2، أمد يدي تتحرك بلزوجة كالهلام تحت أصابعي، يغمرني شيء بين الخوف والسعادة.. استأذن صاحبتي بأخذها فتقول لي: دعيها سأمنحك أكبر لؤلؤة ما عرفها هارون الرشيد).
قلت لها أو تعرفين هارون الرشيد؟!.
قالت: ومن ذا الذي لا يعرفه.
قلت لها: أنا أحببته كثيرا، من درس التأريخ.
قالت: أنا كنت سعيدة، وأنا أعيش عصره..
سألتها: أصحيح كل ما يقال عنه..؟
قالت: لا تصدقي كل ما يقال فأنتم يا أهل الأرض أكبر مزور للتأريخ.
كنت أريد أن أستزيد منها لولا أنها أدخلت ذيلها تحت أحد الصخور، فتخرج لي لؤلؤة ما رأت عيني مثلها قط أمسكها جيدا أنها دليلي على الهبوط علي أن لا أفرط بها. وربما أجعل منها قلادة لابنتي في زفافها.
من بين الصخور الجميلة دخلت قصرا ليس كالقصور التي أحاطت بالبحر مؤخرا بعد أن تم دفن أجراء كبيرة منه وكأن برارينا لا تكفينا فغزونا البحر!!
قصور يداعبها البحر وتجملها الكائنات، من صخور ملونة مبنية، قلت في خاطري لابد أن أختزنها لأرسمها لابنة صديقتي التي تدرس التصميم الداخلي، لكنني تعبت وأنا أحتفظ بالمناظر الرائعة في داخلي، ثم قررت أن أستمتع بما أرى، ولا يهمني لمن سأحكي فيما بعد.
قلت ليتها تجعلني أسلم على أبيها، كنت أوسوس بذلك لنفسي، أريد أن أرى سيد الشطئان، كيف يكون؟!، ومن يشبه؟؟، لكنها التقطت ذلك وقالت سأجعلك ترين أبي اللحظة، انفتح باب كبير في القاع وولجناه. وإذا ببساط سندسي يتماوج بفعل هزهزة الماء فيتغير لونه عدة مرات، وأنا مأخوذة باللون الجميل وبالسحر الذي يحدثه في داخلي، ثم جاءت موسيقى خفيفة كأنها تأتي من بعد، شبيهة بموسيقى (موزارت)3، ورأيت جسرا كالجسر الذي يربط مدينة (ستراسبورج) القديمة بالجزء الجديد، وأحسست نفس الإحساس الذي انتابني وأنا أسير عليه آنذاك وكأنني أنتقل عبر بوابة للمستحيل. خرج رجل له رهبة لا كرهبة الرجال هو بين الرجل الحلم وبين الرجل الأب، له سماحة وجه بجمال وله طول فارع تكاد تنكسر رقبتي وأنا أنظر إليه، وأحسست كأن له نظرة أبي، ثم امتزج بشكل عمي، لكني عندما نظرت لأسفله، والدنيا السمكي الذي له تأكدت أن ليس أبي ولا عمي، ملابسه جميلة وغريبة، عمامة يهفهفها الموج وصديرية بأزرار كأصداف مرمرية، في إصبعه الخنصر خاتم كبير له فص تتغير ألوانه وتتداخل حتى كاد يعمي ناظري من لمعانه، كنت أخمن أنه خاتم سليمان الذي يفركه فيكون كل شيء ملك يديه اللحظة، قلت بخاطري أي اللغات ترى يتكلمها؟!، قال لي بعربية فصيحة: كل لغات الله نعرفها.. ومد يده مسلما كانت يد دافئة أحسست بها ود وسخاء، أجلسني إلى يمينه ورحب بي، وقال كلام جميل عن أهل الأرض، ثم التفت لابنته التي اشارت له بطرف لحظته، أن يقول ما بدا له قال: هل أحملك رسالة؟ قلت: نعم أن استطعت ذلك.
قال: تستطيعين فأنت تكتبين في الصحف.
وأصابني شيء من غرور حتى أهل البحار يعرفونني يا لي من مشهورة..
قال: سأحملك رسالة قولي لهم يكفون عن أذية خلق الله.. إنهم يضايقوننا ويخربون مناطقنا.. غواصات ومدمرات وطاقات نووية، ألا يكفيهم خراب ديارهم.. اكتبي عن ذلك.
قلت له والله العظيم كتبت مرات كثيرة.
قال: أعرف، لا تيأسي اكتبي واكتبي وراسلي منظمة السلام الأخضر.
يا لله هذا الرجل يعرف كل ما يحدث على الأرض. سأطلب منه أن يساعدنا في الانتفاضة الفلسطينية. وجمعت كلماتي لأقولها له عن محمد الدرة وإيمان حجو وعن أطفال ماتت أحلامهم الصغيرة، انتهكت الرصاصات أجسادهم الغضة. أطفال بلا أقلام ولا دفاتر تلوين، أنهم لا يرون البحر ولا يعرفون قفزات الأسماك.
وقبل أن أفتح فمي ضحك حتى كاد يستلقي على زعنفة ذيله، وقال يا ابنتي، لا أستطيع أن أساعدكم، إذا لم تساعدوا أنفسكم.. اليهود أقوياء عليكم إنهم يستغلون ضعفكم وتفرقكم.. وثلاثة أرباعكم غير جادين في خلاص الفلسطينيين من اليهود، بل إنهم يساعدونهم.. قلت كيف؟؟ كنت وقتها أفكر بسفارات الأرض المغتصبة في ديارنا العربية، والأبواب المغلقة التي فتحت لها لتلج ديار الله، وبالمكاتب الاستخبارية التي يطلقون عليها مكاتب تجارية، وأقول في خاطري كل ذاك معروف لابد لديه ما هو أكثر، سأنشر كل ما يقوله لي سأكشف المخبأ. لكن صوتا كان بالقرب من رأسي يقول همسا. (يا حليلها4 نامت..!!).
فتحت عيني، لم يكن سوى صوت إحدى صديقتي، لم أعرك عيني كنت أشد على اللؤلؤة بيدي.
ولكني عندما ألقيت نظرت كانت يدي تشكو الفراغ..
تمنيت أن أعود لداخل البحر، أعيش أجواء جميلة لكني تذكرت كلام ملك الشطئان عن المدمرات والقنابل النووية.. وقلت كلنا بالهم سواء..
1 نوخذه: اسم خليجي يطلق على سيد غواصي اللؤلؤ
2 يا حليلها: كلمة تعجب وتحبب نجدية وخليجية
3موزارت: موسيقي نمساوي، كذا ستراسبرج مدينة نمساوية جميلة جدا ولد وعاش بها الموسيقار موزارت
4 أميمة الخميس: كاتبة قصص قصيرة، سعودية لها قصة جميلة للأطفال اسمها الوسمية.
 
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved