الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 8th December,2003 العدد : 38

الأثنين 14 ,شوال 1424

محمد العلي .. شاعراً ومفكرا
حمد العسعوس

* قبل أن أكتب عن محمد العلي، حرصت على أن أقرأ شيئا له أو عنه.. ولكني فشلت في العثور على شيء من ذلك.. الى أن أسعفني «أبويعرب» الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي.. حين أمدني ببعض المصورات لقصائد العلي وبعض كتاباته وما كتب عنه.
* وعلى مدى ثلاثة أيام أو أكثر وأنا أحمل معي تلك المصورات، وأطالع فيها في السيارة وفي البيت وفي المكتب.
* وقبل الاطلاع على هذه الأوراق كنت أعرف محمد العلي كشخصية أدبية متميزة ومتفردة.. إنه أحد الشعراء المقلين.. وفي الوقت ذاته أحد الشعراء القلائل الذين يجيدون إشعال الحرائق.
محمد العلي بركان شعري خامد.. ولكنه يتفجر.. ويشتعل، ويشعل النار في الآخرين.. إذا وقف على المسرح بقامته الطويلة، وصار يحتدم.. ويتدفق الشعر من كل أطرافه.
* محمد العلي شاعر متواضع.. وصادق.. وهادئ.. وزاهد في الأضواء.. لكنه صاحب رسالة.. وقضية..هي قضية الحرية، فهو يرى أن الشاعر، إذا لم تكن لديه قضية يطرحها ويدافع عنها ويبثها في شعره.. لا يمكن أن يبدع.
* ومن خلال مطالعتين في الأوراق التي زودني بها «أيو بعرب» ازدادت معرفتي بالشاعر الكبير محمد العلي وازداد اعجابي بشخصيته الأدبية.
* لقد كان واسع الاطلاع على الفكر العالمي المعاصر، وعلى الفكر العربي والابداع العربي، ومنذ أوائل الستينات كان قد قرأ لرموز الشعر العربي الحديث في العراق وسوريا ولبنان.
* وأثمر ذلك عن انتاج شعري تقليدي الشكل، تقدمي المضمون في الستينات، وعن انتاج شعري حديث في الشكل والمضمون في الثمانينات الميلادية.
* وكان العلي مقلاً في شعره، فقد بدأ اشتباكه بالشعر منذ عام 1950م، وخلال ثلاثة عقود أنتج ثلاثين قصيدة فقط، ولم يصدر ديواناً يضم قصائدها حتى الآن، والكم الأكبر من قصائده كتبه في فترة الستينات الميلادية، وهي المرحلة التي شهدت كثيرا من الأحداث والتغييرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي حدثت في الساحة العربية.
* وبرغم هذا الانتاج الشعري القليل.. إلا أن ذلك لم يحط من قدرة ومكانته كشاعر متميز وصاحب صوت مرتفع في ساحة الشعر السعودي والعربي المعاصر، وصاحب قامة طويلة بين الشعراء العرب المعاصرين.
* محمد العلي أيها السادة أحد الشعراء الرواد، وأحد أساتذة الشعر في المملكة، فهو يكتب الشعر، يشتغل بتدريس اللغة العربية في المدارس الثانوية، ومن خلال ذلك استطاع ان يلم بالتراث العربي إلماماً علمياً واسعاً.
* وكان في بداياته شاعراً عمودياً يتشعلق في عمود الشعر العربي.. ولكنه من أوائل الرواد الذين تحولوا لكتابة القصيدة الحديثة عندما تحرك تيارها في الوطن العربي.
* سمّاه الدكتور الناقد شاكر النابلسي في كتابه «بنت الصمت»:
(نافورة النخيل.. محمد العلي) وافتتح الحديث عنه بمقطع من قصيدته (الشعلة الباردة):
«سأغني:
سأستحيل براكين انفعالٍ وفرحةٍ وابتكارٍ»
* وهي قصيدة من الشعر العمودي التقليدي الشكل، الحداثي المضمون، ومنها:
وتقولين لي:
سحائبك الخُضرُ ظمأى الى عناق الصحاري والأغاريد في حناياك تهتز اشتياقاً إلى فم القيثارِ
هكذا قلتِ، والكآبة في عينيكِ جرحٌ ينهلُّ في أغواري
وتلظى على شفاهيَ بوحٌ
صامتٌ.. شعلةٌ بدون أُوارِ
كيف أشدو؟ وبين جنبيَّ قبرٌ
لطماحي، وفكرتي، وشعاري
* ويقول النابلسي عن شاعرنا:
«عندما نقرأ شعر العلي، فنحن نقرأ شاعراً يشتبك مع الشعر، وهو مدجج بأيديولوجية محددة الأبعاد، فنحن لا نقرأ لشاعر مجاني ينشد شعراً للتطريب والترديد في ليالي السمر المقمرة».
وهذا مؤشر على تفرد الشاعر محمد العلي، ودليل على أنه شاعر يغني خارج السرب، وهذه الصفة لا يتصف بها سوى الشعراء الحقيقيين الذين يتطهرون من الأهداف المادية الخاصة، ويتعلقون بقضية الاصلاح والتنوير، ويخلصون في ابلاغ رسالتهم عبر ما يكتبونه من أشعار.
وهذه الصفة هي الوقود الذي يجعلنا نتأثر بقصائد العلي وأمثاله من الشعراء المخلصين، دون غيرهم، وهي الرابط الذي يربطنا ببعض النتاج الشعري، دون غيره، ويبني جسور التواصل بين الشاعر والمتلقي.
* وفي موضع آخر من الكتاب يقول النابلسي:
«إن الشاعر العلي في ذاته طاقة كبيرة للتغيير، لا يستطيع التعبير عنها إلا من خلال رمزية مكثفة».
«وهو لا يستعمل الأساطير والرموز ذات المرجعية التاريخية أو المرجعية الاجتماعية، ولكنه يستنبط رموزه من واقعه، وبيئته المحيطة».
ولعل من أبرز الرموز التي استخدمها الشاعر العلي:
1 البحر.
حيث ينسى البحر الطروب ثنيه
فيغريك أنه من جماد
* من قصيدة «غربة» التي كتبها الشاعر عام 1965م، وتصور الواقع العربي الذي يهمل العقل والتفكير ويعتمد على ما يسمع من الشعراء وغيرهم:
صوري لي الندى يزخر بالأسماع
سالت لشاعر صيادِ
يتغنى بالشعب حتى ترى ما
بين ألفاظه قبور العباد
وينادي بكل ما يبعث التصفيق
والحب من جموع الجراد
* وهي قصيدة تذكرنا برثائية أبي العلاء المعري الشهيرة (غير مجد في ملتي واعتقادي) في بنائها المعماري وفي نظرتها التشاؤمية.
* ولقد ورد هذا الرمز في عدة قصائد كقصيدة (غابة الصدأ) كرمز للاستحالة والجهد الضائع:
يا نجد إني صدئت
غرست أغانيك في البحر
يا من ترى الرمل نهراً
راوح خطاك على الوهم حتى تجيء
* وقصيدة (آه.. متى أتغزل) كرمز من رموز القحط والموت:
هذا الخليج المبرح غادر منه المحار
إناء.. خذيني لصوتك
ثم اكسريه على البحر
فيروز.. قد أقفل الموج أفراحه ثم هاجر.
ذلٌ صقيل هو العشق
لكننا قد عشقنا
وما عرف الساهرون التي يصنع البحر
في هذا المقطع الأخير بالذات تتجلى شاعرية محمد العلي وقدرته على التصوير والرسم بالكلمة:
«ذلٌ صقيلٌ هو العشق
لكننا قد عشقنا»
* يا سلام يا أبا عادل..!
كم تخلب لبي.. وعقلي.. وبصري.. بمثل هذه اللقطات التصويرية الرائعة.
2 الماء:
استخدم الشاعر العلي «الماء» كرمز للقوة والسيطرة:
تنفست الجداول
سالت الأكمام أغنيةً من الألوان
وللأبعاد بوح الماء، وهويتيه،
ينسج زرقة الشطآن
* من قصيدة «العيد والخليج» وهي من أروع قصائد الشاعر، كتبها عام 1967م بعد هزيمة حزيران، كشهادة من شهادات دفتر النكسة الذي امتلأ بأشعار جلد الذات العربية.
3 الريح:
لأن شاعرنا يتوق الى الحرية، ويكابد الشوق والحنين الى الماضي، فقد استخدم الريح كوسيلة مواصلات تطير به الى ذكريات الماضي والى أحلام المستقبل:
هل تقبلين اللآلئ جاريةً، إذ يراودك النوم..
تنسج من قصص البحر والريح فيما مضى هودجاً لرقادك.
* من قصيدته «دارين» التي يقول في مطلعها:
في شفاهك رائحة البوح
إن العصافير هاجعة
والينابيع ما استكملت عُريها
***
دارين..!
يوحى لي الآن
هيَّا اكشفي لي الجراح التي نهلتها
الرماح.
***
استخدم « العلي» هذه الرموز وغيرها عدة استخدامات، ولعدة معان ودلالات.. ولكنني اكتفيت بذكر نماذج من استخداماته الرمزية وبمقاطع قصيرة من قصائده.
.. وبعد:
في الختام.. لا بد أن اعترف أنني لم أعتمد على ذاكرتي ورؤيتي الخاصة في الكتابة عن الشاعر محمد العلي..، لكي لا أبخس الرجل، ولكي لا أظلمه أو أقصر في حقه.
ولا بد أن اعترف أن هذه الآراء والانطباعات مقتبسة من كتاب «بنت الصمت» للناقد الدكتور شاكر النابلسي.
ولكن اعجابي بتلك الآراء وايماني بها، وحرصي على المشاركة في الاحتفاء بشاعرنا المميز.. هذه العوامل جعلتني أعتمد عليها وأقتبس منها، مشفوعة بتقديري ومحبتي لشاعرنا الكبير، واعجابي الذي ليس له حدود بشخصيته الأدبية، وبعطائه الشعري المتألق.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved