Culture Magazine Monday  09/04/2007 G Issue 194
الملف
الأثنين 21 ,ربيع الاول 1428   العدد  194
 

المسيري والحداثة الغربية
حجاج أبو جبر

 

 

اهتم المفكر العربي المعاصر عبد الوهاب المسيري منذ أوائل السبعينيات بدراسة الحداثة الغربية وعلاقتها الوطيدة بظهور الإبادة الجماعية كحل نهائي لمشكلاتها المتفاقمة وكأداة ممكنة لبناء الفردوس الأرضي الذي يتمثل في الوصول إلى أقصى درجات التقدم المادي العلماني المنفصل عن القيمة الإنسانية والمرجعية الأخلاقية.

ويرى المسيرى أن مشروع الحداثة الغربية يضرب بجذوره في القرن السابع عشر وما تحقق من إنجازات ثقافية واقتصادية واجتماعية في القرن التاسع عشر في الطرف الشمالي الغربي من أوروبا, وهو يرى أن الحداثة الغربية بدأت كمشروع ثقافي في عصر الاستنارة, ذلك المشروع الذي كان يهدف إلى إلغاء الإله أو تهميشه والتمركز حول الإنسان باعتباره سيد الكون القادر على تأسيس جنة الخلد على الأرض دون الاستعانة بأي قوى غيبية مفارقة, وأصبح العقل والعلم والتكولوجيا أهم الآليات الحاكمة في إحداث عمليات التحديث والتطور الصناعي في ظل النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي فيما بعد.

ولقد أدى نجاح هذا المشروع إلى الإيمان بأنه النموذج الأمثل والمرجعية النهائية التي تفسر غائية التاريخ العالمي وتمنح أوروبا الحق المطلق في الريادة والسيادة الأبدية على شعوب الأرض والأعراق الأخرى.

يبدأ المسيري حديثه عن الحداثة الغربية بالتأكيد على ما يعتبره (النموذج المهيمن) في الحضارة الغربية، وهذا النموذج ليس نموذجا متجاوزاً يحتفى بأي نوع من التجاوز سواء للإله الخالق أو الإنسان المخلوق وإنما هو نموذج مادي يؤمن بأن الواقع المادي كل مترابط ومتماسك ومكتف بذاته بحيث لا يحتاج إلى عوامل خارجية لتفسيره.

وليس بمستغرب أن يندهش القارئ من استبعاد المسيري للنماذج المعرفية الأخرى التي تتجاوز الفلسفة المادية، لكن المسيري ما يلبث أن يوضح للقارئ أن هذه النماذج الأخرى موجودة بالفعل، لكنها لا تحظى بنفس الوزن أو الثقل الذي يتمتع به النموذج المادي. فرغم تصدي المثقفين الغربيين في الماضي والحاضر لسطوة النموذج المادي، فإنه مازال يتمتع بمركزية كبرى في معظم جوانب الحياة العامة والخاصة.

ولكن كيف توصل المسيري إلى هذا النموذج المهيمين؟ يقول المسيري إنه لاحظ أن الحداثة الغربية قد بدأت بإعلان مركزية الإنسان وقدرته على السيطرة على الطبيعة من حوله، ومن ثم إمكانية تشييد الفردوس الأرضي دون انتظار الفردوس الإلهي في الآخرة، لكنها انتهت بإعلان موت الإنسان لصالح شيء آخر غير إنساني مثل الآلة والدولة والسوق والقوة أو شيء أحادي البعد مثل الجسد والجنس واللذة.

وهذا ما دفعه إلى تطوير منظومة جديدة من المفاهيم حتى يستطيع تتبع تطور النموذج المادي في المنظومة الغربية، لكنه لم يلجأ إلى السرد التاريخي المعلوماتي للأحداث وإنما تعامل مع الحداثة الغربية باعتبارها متتالية نماذجية تبدأ بما يطلق عليه (العقلانية المادية الصلبة القديمة) وتنتهى بما يسميه (اللاعقلانية المادية السائلة الجديدة).

ويستخدم المسيري هذين المصطلحين كأداتين أساسيتين لتفكيك المصطلحات المتعلقة بالحداثة الغربية، ولا سيما مصطلحي (حركة التنوير) و(الحركة الإنسانية الهيومانية).

كثيراً ما تستحضر مفردات مثل

(النور) و(الاستنارة) و(الأنوار) و(التنوير) حقلا دلالياً إيجابياً يشير إلى إمكانية الوصول إلى الحقيقة الأصيلة التي تستبعد المعتقدات الخاطئة والخرافات الباطلة التي تحول بين الإنسان وبين معرفته الصحيحة بذاته والوجود من حوله.

وعندما طرح كانط سؤاله: (ما هو التنوير؟) قال (التنوير هو تحرر الانسان من الوصاية التي يفرضها على نفسه)، وتتمثل هذه الوصاية في "عجز الانسان عن استعمال قدرته على الفهم دون توجيه من الآخرين.

لقد ارتبطت هذه المفردات في الثقافة الغربية بحركة ثقافية فكرية حضارية كبيرة اهتمت بإبراز التجربة العلمية والإبداع الإنساني في مختلف المجالات، كما عملت على مواجهة الخرافات والمعتقدات التي كانت تقيد حرية الإنسان وطاقاته الابداعية.

ولا يخفى على القارئ أن هذه الحركة العلمانية قد تأثرت إلى حد كبير بعصر النهضة وحركة الإصلاح الديني الذي اصطدم بالكنيسة باعتبارها مؤسسة دينية سياسية تسيطر على كافة مناحي الحياة العامة والخاصة. وعندما يتحدث المسيري عن عصر التنوير، فإنه يهمش الجانب المضيء من هذه الحركة حتى يتحول هذا العصر إلى (الاستنارة المظلمة).

إن المسيري لا يتحدث عن هذا العصر باعتباره ظاهرة ثقافية حضارية شهدت اهتماما كبيراً بالفن والموسيقى والشعر والأدب.

والقارئ لا يجد أثرا في كتابات المسيري عن التنوير لازدهار دور الأوبرا، والإنتاج الغزير للموسيقى الدينية والدنيوية، أو الابداع الإنساني في النوادي الأدبية والصالونات الثقافية أو حتى الأبحاث العلمية في مخلتف العلوم.

وإذا ما وجد القارئ شيئاً عن هذا الابداع الإنساني، فإنه يتم اختزاله إلى الإبداع المادي الكموني المنغلق على ذاته والمتمركز حول الطبيعة المادية التي لا تعترف بقدسية الإله أو خصوصية الإنسان. وأظن أنه إذا أتيحت الفرصة للمسيري بأن يتناول الفن في عصر التنوير، لكان المهندس والرسام الإيطالي باتستا بيراتزي هو النموذج الأمثل للفنان في عصر التنوير لأنه أبدع العديد من التحف الطوبوغرافية التي تعرض للجانب المظلم لهذا العصر من خلال تصوير السجون التى تخيلها بيراتزي في تلك الفترة.

إننا نلتقي بالعلماء وبفلاسفة التنوير وبالمثقفين باعتبارهم المتلاعبون بالعقول الذين نسجوا خيوط المؤامرة الكبرى، رغم أن المسيري لا يؤمن بفكرة المؤامرة، التي اتضحت معالمها في الفلسفة المادية التي استبعدت الله والإنسان من الوجود وجعلت الطبيعة المادية هي المركز الواحد والأوحد الذي يتحكم في مسار الإنسان والتاريخ.

وهذا ما دفع المسيري إلى تعريف الحداثة بأنها (استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيمة).

إن المسيري، رغم ذلك، يعترف بأن الفلسفة العقلانية المادية الصلبة قد نجحت، رغم ماديتها الصارمة، في تأسيس نظم معرفية وأخلاقية (تستند إلى نقطة ثبات مثل العقل والطبيعة البشرية والقوانين العلمية)، ولكن هذا الإنجاز لا يروق المسيري، ومن ثم يستجمع طاقاته

النقدية من أجل تفكيك هذه الرؤية المادية الصلبة التي تمزق الحبل الأنطولوجي الذي يربط الإنسان بالإله.

وهنا يلقى المسيري الضوء على النتائج التي أفرزتها المادية العقلانية الصلبة القديمة، ليس فقط على المستوى الأنطولوجي وإنما أيضاً على المستويين المعرفي والأخلاقي، ولعل أبرز هذه النتائج هو تحول الإنسان الرباني، كما يسميه المسيري، إلى الانسان الآلي أو بالأحرى الحيوان الآلي، أو، من منظور المسيري، (الانسان الاقتصادي) و(الانسان الجسماني)، أي أن المادية المادية العقلانية الصلبة التي كانت تحتفي بالإنسان والطبيعة كانت تحوي بداخلها إمكانية المادية اللاعقلانية السائلة التي لا تعترف بأي مركز وتؤمن بأن الإنسان ليس أمامه إلا أن (يقبل وضعه باعتباره كائناً زمانياً مكانياً محدوداً بحدود الزمان والمكان، خاضعا لحتميات الطبيعة، وأن يكف عن الثرثرة عن التجاوز والقيم والقانون والسببية) وهذا الخضوع لا يعني أي شيء سوى وجود حالة دائمة من السيولة التي تقضي على كافة أشكال الصلابة والسببية والتي تلغي كافة الحدود والثوابت والكليات.

ويرى المسيري أن انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيمة الإنسانية والمرجعية الأخلاقية حول العالم إلى حلبة صراع للجميع ضد الجميع, وأنه السبب الرئيس في تحول الحداثة الغربية إلى منظومة إمبريالية داروينية, وهو الذي دفع جيوش أوروبا إلى الخروج إلى جميع أنحاء العالم وهي تحمل أسلحة الفتك والبطش والإبادة حتى تحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية يتم توظيفها لصالح الإنسان الغربي (السوبرمان المطلق) وبناء الفردوس الأرضي الأوروبي, ومن ثم لم يتعامل الإنسان الغربي مع شعوب آسيا وإفريقيا باعتبارها شعوبا لها تاريخ إنساني وحضاري وثقافي, ولكن باعتبارها مخلوقات دون البشر (sub- men تعيش في فراغ جغرافي أو مكـان بلا زمان، أوجغرافيا بلا تاريخ. وهذا ما فعلته جيوش أوروبا عندما تناست الدور العربي والإسلامي في بناء الحضارة الإنسانية على مدار القرون الماضية, حيث تعامت مع العالم العربي على أنه مجرد مصدر مهم للمواد الخام ومجال خصب للاستثمارات وسوق

عظيمة للسلع التي تنتجها الدول الغربية، كما قامت الجيوش الغربية بنقل سكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مواد استعمالية رخيصة, ناهيك عن نقل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وإفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة مثل الهنود وسكان المغرب العربي.

ولذا يؤكد المسيري أن الحداثة الغربية لم تحقق سيادة الإنسان التي ظلت تتشدق بها على مدار ثلاثة قرون, وإنما اختزلت المسافة بين الإنسان والطبيعة المادية وجعلته جزءا منها حتى فقد مكانته ومركزيته, فكانت الحداثة الغربية تأكيدا على مركزية أوروبا وريادتها دون باق الأمم أكثر من كونها تأكيداً على الإنسانية المشتركة ودورها في البناء الحضاري.

بيد أن الإنسان الغربى نفسه لم يسلم من هذه الرؤية المادية, وبدأت الحداثة الغربية تصنف جميع أفراد المجتمع, ولا سيما أعضاء الأقليات, إلى مواد بشرية نافعة (العمال) وغير نافعة (المجرمين والمعوقين والمسنين) من أجل استئصال كل ما هو غير نافع أو ضار بالمدينة الفاضلة المادية (اليوتوبيا التكنوقراطية) التي لا يعيش فيها سوى الانسان المثالي (الإنسان الآلي), وهو إنسان يتمتع بأعلى درجات الدقة والانضباط والتنظيم تماماً مثل النحل والنمل والحيوانات الأخرى دون الاهتمام بالقضايا الانسانية الكبرى أو الأعباء الأخلاقية التي تميزه عن الطبيعة المادية المحضة (القوانين الاقتصادية وتكثيف الانتاج).

وبذلك ازداد تمركز الحداثة الغربية حول الكفاءة وتأثير الصفات البيولوجية والوراثية على إنتاج السلالات البشرية المنتجة والفاعلة في المجتمع.

ويرى المسيري أن الإبادة النازية هي واحدة من أبرز العواقب التي أفرزتها الحداثة في مرحلة الصلابة, فقد ساعد الخطاب العلمي عن العرق البشري على خلق مجموعة من الصور المجازية والمفاهيم النظرية التي تصور الغرب في أبهى صوره والآخرين على أنهم آفات أو حشرات أو حشائش, وأصبحت صورة اليهودي كآفة صورة محورية في الخطاب الغربي، وكان هذا هو السبيل إلى محو إنسانية الجماعات اليهودية ومعاملتها معاملة الحشرات والآفات والحشائش الغريبة التي تضر بالجنة الأوروبية, وكان ذلك كافياً لتقنين الإبادة وتبريرها وإضفاء الشرعية عليها وعلى القائمين بها.

أما في مرحلة السيولة, فقد تلاشت سلطة الدولة باعتبارها الإله الطبيعي العلماني بعدما تولت قوى العولمة الخفية قيادة العالم, أي أن العولمة أدت إلى انحسار دور الدولة التي تخلت عن المواطن كلية وتركته يعتمد على قدراته الذاتية في التعامل مع عولمة الفقر والاستهلاكية المفرطة والإرهاب والجريمة والاستعباد الجنسي.

كما ظهر أبطال الحداثة السائلة (مادونا ومايكل جاكسون وروبي), وهم أبطال تغير شخصياتها وهوياتها بصورة دائمة ترفض الاستقرار أو الثبات لأنهما علامتان من علامات التخلف والجهل.

ويرى المسيري أن هذه السيولة قد بدأت في منتصف الستينيات عندما أصبح العالم الغربي يحتفي بالنسبية المعرفية والأخلاقية بصورة واضحة. وهو يرى أن هذه السيولة لا تقوض خصوصية العالم العربي والإسلامي

وحسب, وإنما تقوض الانسانية بشكل عام لأنها لا تتقيد بأي أسس معرفية أو أخلاقية تحدد طبيعة وأسس التعاون بين البشر ودورهم في الاهتمام بالقضايا الإنسانية حيث يعيش كل إنسان حبيسا لقصته الصغرى (العمل, الترفيه, التسوق, السياحة) دون الاهتمام بالقصص الكبرى (إقامة العدل في الأرض, مقاومة الظلم والعدوان, مناهضة العولمة والاحتلال).

ولقد تجلت هذه السيولة الشاملة في مقولات (النظام العالمي الجديد), (الشرق الأوسط الكبير), (الشرق الأوسط الجديد), والعامل المشترك بين هذه المقولات هو الذوبان الكامل للهوية العربية والإسلامية في النموذج المادي الغربي.

ففي إطار هذا النموذج يستطيع العالم العربي أن يحظى بقدر كبير من المعونات والاستثمارات والقروض والمزايا في مقابل التخلي عن مطالبه بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة والانسحاب الأمريكي من العراق وأفغانستان.

إن هذه السيولة الشاملة تدعو إلى ضرب التصور الاسلامي, ولاسيما مفاهيم الجهاد والمقاومة والاستشهاد, وتعمل على الترويج لمفاهيم أخرى مثل (الربح) و(المصلحة) و(الحرية الذاتية) و(الاستقلال الذاي) و(تحقيق الذات) و(المصلحة الوطنية) و(مصلحة الأمة), وباختصار تعد مرحلة السيولة ضربة قوية لمفاهيم (الجماعة) و(الولاء) و(التضحية) لأنها تعتبر من يتصرف بدوافع غير دوافع (المصالح الذاتية المادية) شخص يسلك بطريقة (غير عقلانية) أو أنه يقوم (بمغامرة غير محسوبة) أو أنه (بحاجة إلى العلاج) أو أنه (يستحق الحجر عليه).

وهنا تتوافق رؤية المسيرى مع طرح عالم الاجتماع البريطانى زيجمونت باومان الذى ظل يؤكد في معظم أعماله على خطورة الحداثة السائلة وسيطرة النموذج المادي الغربي لأن مرحلة السيولة الشاملة تشهد حتما غياب الأصدقاء، وتفتت الروابط الأسرية والاجتماعية، وبدلا من التأكيد على أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، نصل إلى مرحلة السيولة الشاملة عندما يصبح الله، كما يرى عالم الاجتماع زيجمونت باومان، في عون العبد ما كان العبد في عون نفسه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة