Culture Magazine Monday  09/04/2007 G Issue 194
فضاءات
الأثنين 21 ,ربيع الاول 1428   العدد  194
 

الأنصاري رائد الرواية «2»
(التوأمان) بوصفها فعلاً ثقافياً
سحمي الهاجري

 

 

يشير الأنصاري في مقدمة (التوأمان) (صفحة ب) إلى أنه سبق أن كتب مقالا في (مجلة المرشد العربي باللاذقية) يدعو فيه إلى إصدار الروايات، باعتبارها إحدى وسائل (الفتح) (المقدمة صفحة أ)، ويذكر أن إصداره لروايته نوع من تطبيق ما أشار إليه في مقاله، وإذا كان ظاهر الكلام توجيه هذا السلاح إلى خطر بعض أنماط الخطاب الاستعماري، فإن من مسلمات الأمور أن هذا السلاح ذاته قادر على القيام بنفس الفعل وأكثر، إذا كان الخطر خطراً فكرياً داخلياً، وهي طبيعة أي سلاح فعال من الناحية المنطقية.

ونلاحظ هنا أن الانتقال السريع من المقال إلى الرواية؛ أي من القول إلى الفعل، قد انتقل بالفكرة كلها من نطاق التبدد الملازم لأسلوب المقال، إلى نطاق الخلود بالسرد، وهو وعي متقدم بقيمة الفن الروائي.

وبما أن الدراسات السابقة انطلقت من (الحدوثة) فإن هذه الدراسة ستوسع دائرة الرؤية، وتنظر إلى (التوأمان) بوصفها فعلا ثقافيا تُستخلص دلالاته ومعانيه من مكانه في منظومة لحظته السياسية والثقافية، والقيم الأساسية التي بني عليها.

و(التوأمان) - منسوبة إلى زمنها ولحظتها - تعتبر من الأعمال التحويلية، التي تساهم في إعادة إنتاج الخطاب الثقافي على أسس جديدة، ومن سمات الأعمال التحويلية أنها لا تقدم نصاً أدبياً مفرداً، كما حاول الكثيرون أن يحصروها فيه، بل ترسخ قيما حديثة، وتفتح أفقا جديدا، وكما هو معروف أن الرواية جزء من تفكيك البنى الفكرية لخطاب التقليد، وهي تستمد قيمتها الأعمق من الأفق الذي تفتحه، فتكون قيمة الرواية في أثرها وليس في شكلها أو مضمونها. ويتم التمثيل على هذا عادة بالنصوص الشعرية والنثرية المترجمة من لغة إلى لغة أخرى؛ فهي تفقد الكثير من الأثر اللغوي والجمالي ولكنها تحتفظ بالتأثير.

والفعل الثقافي قرار أكثر من أي شيء آخر؛ ولهذا حشد الأنصاري عدداً من الإشارات المتوازية مع القصة والمتعاضدة معها مثل: النص على (الأولية)، وما ذكره في الإهداء أو المقدمة المستفيضة، وهي نصوص إضافية لأنه أدرك أو شعر بقصد أو بغير قصد أن (حدوثة) الرواية أقل من تمثيل طاقة أفكاره الكامنة، والاقتصار عليها يجعله كمن يعزف لحنا أحاديا على آلة للموسيقى الهارمونية.

وهذه الأولية التأسيسية، جعلت (التوأمان) بمثابة المشروع الذي يتجدد دائما مع صدور كل رواية جديدة، أو قراءة لرواية، أو خبر عن رواية، ومن هنا يمكن اعتبار

المشروع بجملته مختبرا للتواصل، وللممارسة والعمل وليس لمجرد النظر.

وفي البحث والنظر الجزئي لا نتوقع أن تكون (التوأمان) مثالا لما يجب أن تكون عليه الرواية، بل نتعامل معها كنص متحقق؛ لأن غير ذلك سيدخلنا في خطأ منهجي.

والأخطاء المنهجية هي التي ظللت بعض الدراسات السابقة؛ لأن الدارس - مثلا - لا يخرج عن نمطين.

النمط الأول: مدرك للسياق فاقد للأداة (وهم معاصروها) وقد قال عنهم الدكتور سلطان القحطاني: تناولها بعض النقاد بنقد لم يكن بذي مرجعية واضحة، لكنه - على أي حال - مشروع خصومة بين اثنين فأكثر تحول إلى أغراض شخصية، فالنقد في هذه الفترة ينزاح إلى الجوانب الشخصية أكثر من انزياحه إلى تقييم الأعمال الأدبية، كما يميل إلى الذاتية أكثر من الموضوعية النقدية (النقد الأدبي في المملكة العربية السعودية، الطائف: النادي الأدبي 1424هـ 2003م ص 77).

والنمط الثاني: عارف بالأداة وبعيد عن السياق، ومن أمثلة أحكامهم قول الدكتور محمد السيد ديب: (فكرة التوأمان - التي تدور حول علاقة الشرق بالغرب - كان من الممكن بسطها في مقال صحفي لا يتجاوز خمس صفحات) (فن الرواية في المملكة العربية السعودية، مرجع سابق ص 374)، وهو كلام يبدو أن فيه غيابا تاما عن سياق الإنتاج، واتضح في سياق التأويل.

وجميعهم كانوا يبحثون عن التكنيك الفني الظاهري. ينقل الغذامي مقولة سدلماير: (إنك إذا لم تبحث في الفن إلا عن الفن، فإنك لن تجد فنا) (ثقافة الأسئلة، جدة: التادي الأدبي الثقافي 1412هـ 1992م ص 89)، وفاتهم أن رواد النهضة كانوا يركزون على جلائل الأمور والقضايا العامة، ونكران الذات، وتستأثر القيم باهتمامهم، ولا يقدمون عليها أي شيء آخر، ولهذا فهم لم يكتبوا أعمالهم من باب الترف الذهني.

أما موقف النقاد فيمكن فهمه في ضوء مقولة فرويد من أن كل شيء جديد يحمل معه حججه وشواهده، ولكن خبراتنا القديمة خالية وتصنع مقاومات للجديد، والبحث عن حجج يثار بها الشك حول المادة الجديدة، ولا نبحث عن الجديد فيها

من هذه العملية هو أنها تحتاج إلى الوقت كي يتغلب العمل الفكري على المشاعر القوية (موسى والتوحيد، القاهرة د.ت ص141).

ومن الأخطاء المنهجية أيضا الاقتصار على تصيُّد القصدية الظاهرة للكاتب، أي نتاج ذاته الاجتماعية، في حين أن جوهر الدلالة، أي أثر الذات الفردية الواعية، يكمن في أعماق العمل، ومن خلال النظر إلى هذا العمل بصفته موقفا، أو فعلا ثقافيا، يستمد دلالاته من حواريته مع سياقه، ويمكن هنا الاستشهاد بمقولة الدكتور شكري عياد المبكرة: (إن الروائي شاهد على عصره، وأخطر ما في شهادته هو ما يستخلص من عمله الفني دون تعمد منه للمشاركة في الأحداث المحيطة به بوصفه مفكرا سياسيا أو اجتماعيا) (الرواية العربية المعاصرة وأزمة الضمير العربي، مجلة عالم الفكر، م 3 ع 3 ديسمبر 1972م ص 620 عن: د. محمد الشنطي، مرجع سابق ص 21).

ولهذا فإن الفعل الثقافي تصدق عليه القاعدة القائلة: (ليس المهم ما تصوب عليه بل ما تصيبه).

والرواية بممكناتها السردية تتجاوز الكاتب، لأن الرواية أذكى من الكاتب، والرواية التي يكون كاتبها أذكى منها لا يكون لها قيمة تذكر. (انظر مثلا: جون برين، كتابة الرواية، ترجمة مجيد ياسين، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام 1993م).

وهنا سنتوقف لنأخذ مثالين من العمل يتعلقان بالدلالات العميقة والجوهرية التي يمكن أن يفتحها العنوان فقط: الأول: عن دلالات الحضور والغياب. والثاني: عن تمثل اللحظة والتقاط الحالة السياسية والثقافية.

فمن سمات العمل الإبداعي أن العنوان فيه لا يقتصر على وظيفة التعيين التي تشترك فيها كل العناوين، بل إن له وظائف مقولية، إيحائية ورمزية، مفتوحة الدلالات، وسنلاحظ أن (التوأمان) عنوان ملغوم، بصرف النظر عن القصدية، كما أكدنا أكثر من مرة.

شخصيات الظل

(أو المرأة الحاضرة المغيبة):

تحدث كثيرون عن عدم صحة عنوان الرواية من الناحية اللغوية، وأن الصحيح هو: التوأم. (انظر مثلا: الدكتور محمد السيد ديب، فن

الرواية في المملكة العربية السعودية، مرجع سابق، ص 33).

وهنا يبرز سؤال هام: كيف يفوت هذا الأمر على رجل مثل الأنصاري ضليع في الدراسات اللغوية كما هو معروف؟، لا بد أن هناك شيئا جوهريا وراء هذا الخطأ الظاهري، ولكن كيف نجد هذا الجوهري؟

الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا تذكر أمرين:

* الأول: ما ذكره الغذامي عن الذات الواعية المتحررة، المغطاة بالذات الاجتماعية الظاهرة.

* الثاني: ما تفتحه ممكنات السرد من فضاءات، مثل دلالات الحضور والغياب، لأن اللفظ هنا (التوأمان) أكبر من المعنى الظاهر، وهو المتعلق بالشخصيتين الأساسيتين في الرواية (رشيد وفريد)، فلا بد أن هناك شخصيتين غائبتين ظاهريا، وموجودتين دلاليا.

إذا بحثنا عن هاتين الشخصيتين فلن تكونا غير (رشيدة وفريدة)، لأن شخصية المرأة بالصفة التي ظهرت بها في الرواية (الراقصة الفرنسية الخليعة المتهتكة) نوع من تغييب المرأة، ولهذا فما هو مغيب في الظاهر يعود ويظهر في الجوهر بصورة أنقى وأرقى، أي المرأة التي تذهب إلى المدرسة، مثل الرجل، ولها حرية الاختيار والتجربة والخطأ، وعليها تحمل نتيجة اختيارها، مثل الرجل تماما. وبهذا يكون ما هو غير صحيح من الناحية اللغوية، صحيحا من الناحية السردية، ثم اللغوية مجددا حسب الصيغة التالية:

(رشيد + فريد = توأم) و(رشيدة + فريدة = توأم آخر) المجموع = التوأمان.

ونجد هنا أن الذات الواعية المتحررة تنزع إلى أحقية (رشيدة وفريدة) بفرصة التعلم مثل (رشيد وفريد) وربما بما هو أبعد من ذلك، أي حرية الاختيار، والتجربة والخطأ.

قد لا يبدو مثل هذا الأمر اليوم خطيرا جدا، فقد تعود الناس على أن البنات يذهبن للمدارس، والحديث عن حرية الاختيار، والتجربة والخطأ يسمعونه كل يوم، ولكن دعونا نتذكر أهمية مسألة السياق، لقد كان مجرد التفكير في مثل هذا الأمر الجلل، في ذلك الزمن، جريمة يمكن أن تكلف صاحبها جميع ضرورات الإنسان الخمس دفعة واحدة؛ أي أن الأجناسية الروائية هنا صححت فقه اللغة بواسطة فقه السرد، خصوصا أن الأنصاري يملك حساسية عالية للغة في بعديها المعرفي والجمالي.

لقد كان كسر المألوف هنا - وهو دال بذاته - بصفته استراتيجية إبداعية، يذهب إلى أقصى آفاق الدلالة، ويصحح الأوضاع المختلة.

يتبع


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة