Culture Magazine Monday  09/04/2007 G Issue 194
فضاءات
الأثنين 21 ,ربيع الاول 1428   العدد  194
 

من العشق إلى العقل
سجالات عبدالقدوس الأنصاري عن العربية (2-2)
د. صالح زيَّاد

 

 

لا ريب أن اللغة عند عبدالقدوس، تغدو سبباً من أسباب النهضة، بل إن الأسباب السياسية والاجتماعية والفكرية ليست إلا تمكين اللغة من أن تفعل، بالمعنى الذي يُدخل خيالنا إلى الدائرة الذاتية للإبداع، الدائرة المتحررة من الاستعمار.

يقول: (لا بد لنا نحن العرب في نهضتنا الحالية أن نستكمل أسبابها، ونأخذ بزمام المبادرة فيما يختص بحياتنا الفكرية فنخرج بها من نطاق الاستعمار الفكري الغربي ونعود بها إلى حظيرة لغتنا العربية).

وأن تفعل اللغة، يعني أن تحيا، ومن جديد نعود إلى المعنى الذي لا يمل عبد القدوس من تكراره، معنى الترابط بين اللغة وبنيها، وجوداً وتقدماً، أو اضمحلالاً وتخلفاً:

(إذا حُبست.. في قماقم القواميس وهجرها أهلها كان نصيبها الاضمحلال الذي يسبق اضمحلال ذويها، من أجل هذه الفكرة الحيوية كافح رجال الإصلاح اللغوي محاولات إبقاء اللغة العربية منكمشة ومهلهلة كاللغة اللاتينية، حتى لا يعدي ضعفها وخللها الأمة العربية جمعاء).

ويتصل عبدالقدوس الأنصاري في هذه المعاني مع فكر الإصلاح والنهضة الذي استحضر المسألة اللغوية بقوة، منذ القرن التاسع عشر، وهو يكافح الاستعمار، ثم وهو يواجه مسؤولية الحرية وتحديات الاستقلال، فمن رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى مالك بن نبي ومحمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري.. الخ.

كان سؤال النهضة مقترناً بسؤال اللغة والهوية، السؤال الذي يضع الذات أمام الآخر من وجهة البحث لها عن موقع في العالم الحديث. وهنا يقول عبدالسلام المسدي: (لقد كانت الهوية مفهوماً حضارياً تاريخياً ولكنها على التدريج استحالت إلى مفهوم ثقافي سياسي، ولم يجسم هذا التحول في المفهوم شيء، كما جسمته المسألة اللغوية في الفكر العربي المعاصر وهو يخوض معركة الأنا والآخر).

4- لغة حية - لغة نامية

هذا الوعي لدى عبد القدوس الأنصاري، بعلاقة اللغة بالنهضة، يقوده إلى وعي باللغة من منظور حيوي، ينفي عنها الجمود والانتهاء والمحدودية، ويستمد من دلائل حركتها وأدواتها ما يضفي على حيويتها معنى النمو، وعلى كينونتها خصائص القوة والاتساع والعمق والانفتاح باتجاه المستقبل وليس الانغلاق على الماضي، (فاللغة كالحضارة متطورة، وبتطور الأفكار وتجددها تتطور الألفاظ وتتجدد). وهو مؤدى ينقض الفهم التقليدي الجامد تجاه اللغة في محاصرته إياها وأسرها في الماضي، ماضي الأعرابي بعالمه المحدود وأفقه المغلق على الصحراء وما يتصل بها.

إن اهتمام عبدالقدوس بانضباط قواعد اللغة وتبلورها، لأن اللغة نظام، لا ينفي أن رؤيته إلى العربية كانت أوسع من أن تستسلم لضيق هذه القواعد وحدِّيتها؛ ولهذا نراه ينكر على النحويين المتأخرين إهمال بعض المظاهر الإعرابية، سعياً وراء التوهم بوحدة القاعدة وعمومها، ويبدو مثال ذلك عنده، في ردِّه على أحد الكتاب اتخذ من قوله تعالى: (إن هذان لساحران) دليل على (أن للقرآن نحواً خاصاً) ما يجعل قاعدة نصب المثنى بالياء ضيّقة أمام واسع الاستعمال.

يقول عبدالقدوس:

(أما زعم أن قاعدة إلزام المثنى الألف في كل حالة من حالات إعرابه - مهجورة في كتب النحو المتداولة، فهو خطأ محض واضح لمن يراجع المصادر، وقد يكون للأستاذ الحق في عدم وجود هذه القاعدة الجميلة وأضرابها فيما درسه من كتب النحو، وهذا يعطينا حجة جديدة على قصور كتب المعاصرين الدارسية).

وهذا الإنكار على النحويين، لا ينفصل لدى عبدالقدوس، عن مواضع كثيرة، لا يقف فيها أمام القدماء -بالمطلق- موقف تلق وتتلمذ وموافقة، بل يقف موقف المساءلة والانتقاد والإضافة، معلناً -مثلاً- أن (هذا رأي رأيته ولم ينتبه له علماء النحو الأوائل وكم ترك الأول للآخر)، أو منبهاً إلى ضيقه بالقيود، كما في امتداحه كتاب (الواضح) لأبي بكر الزبيدي الأشبيلي (316هـ/928م- 379هـ/989م) بقوله: (تجد فيه رائحة العلم الذكي والأسلوب العربي المتحرر من قيود النحاة المتأخرين، وتعليلات النحاة المتقدمين التي كثير منها غث بارد)، دون أن يمنعه ذلك من أن ينتقده ويخالفه في بعض المسائل، مثلما انتقد أبا منصور الثعالبي (350هـ-961م، 429هـ- 1038م) مع إعلانه قيمة كتابه (فقه اللغة وسر العربية) بما يدل على يقينه بالنسبية التي تمنع احتكار العلم؛ فقد رسم الثعالبي الطريق -يقول- (ولا يشترط في المبتكرين الشمول).

وإذا كان الانفلات من سلطان القديم -يدلنا على الباحث الحر والرؤية المستقلة عند عبدالقدوس، فإنه يدلنا -من منظور آخر- على نزوعه باللغة إلى الحركة بوصفها تقدماً باتجاه المستقبل. وهي حركة تجد نقيضها في براثن الخمول والجمود التي تغدو -عند عبدالقدوس- معلولاً لعلة (التقليد والتقييد). ومن ثم يجيء -لديه- الاهتمام باكتشاف الفوائد النطقية والدلالية للقواعد كما يأتي اكتشافه استقالة اللغة من الواقع لانفصالها عن تقدم العلوم في هذا العصر وأن اللغة ليست خالية من آليات النمو والتقدم المتمثلة في النحت والاشتقاق والتعريب والمجاز، وهي أمور -يقول عبدالقدوس- (مرغوب فيها).

ويضيف عبدالقدوس إلى دلائل وعيه بحيوية اللغة، ورغبته في أن تنمو ولا تجمد، وتتحرك وتزدهر ولا تقف أو تذوي، دراسته للهجات العامية بوصفها كيفية ما لحركة اللغة عملياً، محاولاً اكتشاف (أسباب حدوث هذه اللهجات) ومتخذاً علة هذه الدراسة من الرغبة في اكتشاف روابطها بالفصحى، بقوله: (والدافع إلى هذا هو الرغبة في إفادة اللغة من جانبيها: الفصيح والعامي، وتنوير أفكار أهلها والكشف لهم عن مناح بسيطة من هذا الارتباط المحكم العرى الساري بين الفرع والأصل، وأرى أن هذا يعد من قبيل (فتح الباب) لفرسان الأدب، لينيروا جوانب هذا الموضوع المهم الذي له أقوى الصلة بحياتنا الفكرية منذ أجيال، ولا يزال ستار الإهمال مسدولاً عليه كأنه من سقط المتاع).

5- لغة كاللغات

إن لغة المحبة وخطاب التمجيد للعربية، لدى عبدالقدوس الأنصاري، لم يحجزاه عن رؤية العربية من وجهة معرفيه، فرغم تكراره (أم اللغات) في إشارته إلى اللغة العربية، ونثره أوصاف (العظمة) و(الجمال) و(الثراء) و(المتانة).. الخ في امتداحها، كان - دوماً- دائم الإصرار على أنها مثل اللغات جميعاً من حيث انتفاء الفضل عنها في ذاتها، ومن ثم تساوي نحوها ومفرداتها مع البنية النحوية والصرفية والمعجمية في لغات الدنيا؛ إذ يرجع جانب منها إلى ما هو عقلي قياسي، وآخر إلى ما هو نقلي سماعي).

وما تؤكده صفة اللغة العربية وتتأكد به -في هذا السياق- هو الوحدة الكلية للإنسانية، وتساوي المكوّن الإنساني في كينونة اللغة، وينتج عن ذلك ألا يرى عبدالقدوس الأنصاري التخلف والضعف في اللغة وإنما في أهلها.

وهو -هكذا- يدلل على تضاؤل الفاعل الإنساني وراء العربية، في نوع من اتساع الرؤية لها وبها إلى خارطة اللغات الحديثة ذات التجدد والقوة والاتساع، ومن ثم يلتفت في تقريع مشوب بالأسى لأبناء العربية، ليقول: (أهملتموها فانكمشت أذهانكم عن التفتح لنورها الوضاء، ثم لما تمادى بكم القول استأنستم باليأس، ثم لما استيقظتم الآن من إغفاءة الزمان خلتم أن الانكماش في القواعد لا في البصائر والعزائم! وما بقواعد اللغة العربية لذاتها انكماش ولا عسر ولا تعقيد، وإنما تخلفها الذي تلاحظونه عن العلوم منشؤه تخليفكم لها في بؤر الإهمال فأنشئوا طرق دراستها تروا ما يبهر أبصاركم من الجمال الفني والحيوية العابقة).

ويتخذ عبدالقدوس الأنصاري من اتهام العربية بالقصور عن أداء الكثير من مستحدثات المدنية الحاضرة، موضوعاً لجلاء الفارق بين اللغة وأهلها، على نحو من شأنه أن يوجه الاتهام إلى دائرة الفاعل الإنساني للغة لا للغة ذاتها.

إنه تمايز الجهد والنظر الإنساني -إذن- لا تمايز اللغات، وهو تمايز يهدف عبدالقدوس من وراء تجليته إلى صيانة الكينونة الذاتية من أن تفقد ثقتها بذاتها وأن تمَّحي، فليس هناك لغة بلا ذات اجتماعية وقومية، ولا ذات اجتماعية وقومية بلا لغة، والذات، هنا، تعني دائرة الوعي التي تنتج المفاهيم والتصورات وتنتج الأشياء؛ فاللغة، دون هذا الفعل، في حكم الوجود بالقوة فحسب، إنها كنز يقف بنا العجز دون اكتشافه واستثماره وتطويره.

يقول: (وليس العيب فيها (اللغة العربية) مطلقاً، إذ نحن قصّرنا عن التوصل إلى كنوزها الزاخرة فما نراه اليوم من قصور أدائها للمعاني المستحدثة أو لبعضها مرجعه إلى قصور إدراكنا ومعرفتنا نحن لها، لا قصورها هي، والمسألة هذه كمسألة دين الإسلام والمسلمين: دين الإسلام كامل شامل صالح مصلح، والمسلمون مقصرون في امتثاله، ولذلك ظلوا في المؤخرة فالعيب عيبهم لا عيبه والذنب ذنبهم لا ذنبه).

إن قوة اللغة وضعفها متعلقان بالعوامل البشرية التي تنطق اللغة في مستويات الفكر والعلم والاتصال والفنون والإدارة والسياسة والعمل والاقتصاد والتجارة ومنظومات القيم والتنظيمات الاجتماعية.

وفكرة التساوي المجرد بين اللغات، وانطواؤها مبدئياً على الإمكانات المختلفة التي يعبر عنها عبدالقدوس ب(الكنوز الزاخرة (ليست منفصلة عن أدق الصفات اللغوية العامة التي رسختها اللسانيات الحديثة.

وهي لفتة حكيمة من عبدالقدوس تلتقي، ولا تتناقض، مع ما يسبغه على العربية من مدائح وامتيازات، تقصد التأكيد على الانتماء الحتمي إبداعياً إلى اللغة الأم، وإلى انطوائها - كما هو حال أي لغة في علاقة بنيها بها- على ممكنات التقدم والتنمية التي لا تتحقق بلغة الآخر المستعارة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة