الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th May,2005 العدد : 105

الأثنين 1 ,ربيع الآخر 1426

العودة
حكيمة الحربي
المدخل إلى الحارة القديمة ضيق جداً بالكاد يتسع لاثنين إذا قدر لهما أن يحشرا جسديهما معاً في نفس الوقت ليعبرا تلك الأزقة المعتمة والمتعرجة التي تطفح منها الرطوبة المنفرة واللزوجة اللدنة التي تكاد تخنق من يسير بتلك الممرات ! !
تصطدم الأقدام بخشونة الأرض المتربة والموحلة وقت سقوط المطر كأن الشمس نسيت تلك البقعة، ولا تعرف لها منفذاً !
المكان يعبق بالروائح النتنة التي امتزجت مع روائح أبخرة المأكولات الشعبية التي انتشرت مطاعمها في أنحاء هذا الحي النافر!
وقف في ناصية الطريق يتأمل المكان الذي لم يتغير به شيء منذ أن تركه، بل منذ أن أجبر على تركه قبل خمسة عشر عاماً.
هي السنوات المرة التي قضاها في أتون السجن بعد أن أودع به لاعترافه بجرمه الذي خسّره الكثير.
وقف سالم بذهول الذي فقد كل شيء، يجوس بنظره الحي العتيق الذي يبدو وكأنه ليس على خارطة الزمن الحديث كأنما هو من بقايا عصور غابرة !
بواكير الصباح الأولى تعلن عن مقدمها، وأول صوت يصافح نهاره، ويعانق مسمعه، صياح أحد الديكة من فوق أسطح أحد المنازل القريبة منه، بحث عن وجه يعرفه أو قريب يحتفل معه بعودته إلى حيّه الذي نسيه، وأهله الذين تنكروا له، حتى أنه حاول أن يفتش في الذاكرة عن ملامحهم التي نسيها لم يجد إلا تلك الوجوه التي ألفها في السجن.
واصل سيره وهو يتجرع مرارة الخذول، ويتكوي بنار البعد، ولوعة الفقد، انعطف إلى الممر المؤدي إلى منزله الذي يقع في آخر الحارة الكئيبة ذلك المنزل الذي يوحي بالبؤس والشقاء، وكان شاهداً على مصيبته.
وقف أمام الباب متلهفاً لرؤية وجه ينسيه سنوات الحرمان، ليتعفر بطهره، ويغتسل بضوئه من خطاياه، لعل تلك الغمامة الباقية في الذاكرة التي تهطل كلما هبت ذكرى من تلك الأزمان الموجعة بتفاصيلها وأحداثها تزول إلى حيث لا رجعة.
مد يده الراعشة بتردد من تسكنه الرهبة والخوف من المفاجأة وعدم القبول وردة الفعل الغاضبة، ابتعد قليلاً عن الباب قبل أن يطرقه، وأسند ظهره على جداره ومرت أحداث ذلك اليوم الذي لم يرَ بعده الضوء والأهل والحرية والمكان عندما تفاجأ بدخول رجال الأمن منزله ليصفد ويودع الزنزانة بعد أن اهتدوا إلى طريقة ليجدوا بيته الذي يضيق به وبعائلته مستودعاً للسلاح يتاجر به لمن يريد إزهاق الأرواح، وتدمير الممتلكات !
استدلوا عليه بعد جريمة قتل اعترف مقترفوها بأنه هو مصدر السلاح الذي يحملونه، وكان المقتول فيها هو ابنه البكر (سلوم) فكانت مصيبته أكبر من أن يتحملها . . تجارته خنجراً ارتد إلى صدره فأصابه في مقتل !
فانفض من حوله، الأهل والأصحاب هجروه فلم يزره أحد منهم وهو في سجنه وانقطعت أخبارهم وأخبار عائلته عنه، رضي بقدره، وشعر بفداحة جرمه.
قضى ليلته منذ أن أطلق سراحه وهو يسير بشوارع المدينة تحمله أجنحة الحرية التي افتقدها زمناً ضائعاً من عمره. فوجد عالماً غير ما خبره، ودنيا غير تلك التي تركها، وملامح لم يألفها، فواصل سيره على الأقدام حتى وصل حارته المتوارية، حيث الظل والعتمة، ومكان يأوي المتشردين، ومخالفي الأنظمة والقانون، وجدوها أرضاً تضمهم، وسماء تسترهم.
هنا انتفض وغالب دمعه وأخذ يطرق طرقاً عنيفاً لم يفق إلا على صوت يعنفه بعد أن فتح الباب، وكان مصدر الصوت رجلاً ضخماً، جاحظ العينين: ما هذا الإزعاج ؟ كيف تطرق الباب بهذه الطريقة المفزعة؟
من أنت . . وماذا تريد ؟
أنا !
أين أهل هذا المنزل ؟
من تقصد ؟
أنا لا أعرف عماذا تتحدث ولكن الذي أعرفه إنني اشتريت هذا المنزل منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً.
طأطأ رأسه وقفل راجعاً وهو لا يعرف إلى أين تأخذه قافلة الحياة، وإلى أين توصله الريح !
رأى تلك الوجوه الغريبة التي ليس لها ملمحاً في ذاكرته ولا مكاناً في قلبه وهي تطل من النوافذ والأبواب المواربة خائفة ومرتعبة من خطوات القادم إليهم مع تباشير الفجر . . ماذا عساه أن يحمل لهم ؟ .
ردد بيأس: يبدو كل من أعرفهم غادروا إلى المجهول حيث عدت أنا إليه ! !


hakema_h@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved