الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th May,2005 العدد : 105

الأثنين 1 ,ربيع الآخر 1426

الأفق الروائي وجماليات التاريخ الشخصي «12»
عبدالله السمطي
ينتهك الخطاب الروائي السياق المألوف.. إنه لا يفصح بداءة عن قدر ما متراكم من الحكايا قدر ما يبين عن رؤى ومواقف، ووجهة نظر مبدعة.
إن الخطاب الروائي لا يسرد وهو يسرد حكاية، عمادها الشخوص والأحداث وقوامها الأزمنة والأمكنة، بل إن هاجسه الجوهري يتمثل في تلك الرؤية التي تعصف بأفكارنا وتخيلاتنا العادية ونحن نراقب أحداثاً تند عما ألفناه، ونرى شخصيات تتحرك، لا تمثلنا وهي تمثلنا بالضرورة، أو لا تكون صدى لنا، بل تجاوزنا، وتفكر أبعد منا.
إننا نمر بالأحداث نفسها، بالوقائع التي تختزنها ذاكرة الروائي وتلامسها حواسه، ونلاقي هذه الشخصيات الواقعية في مجتمعنا وهي تتحاور وتتحدث وتتحاور وتقص أيضاً، بيد أن الروائي عليه ألا يقع أسير هذا النقل المباشر المسطح لهذه الأصوات ولتلك الشخصيات. إننا لا ننشد من الروائي أن يحكي لنا ما نعرفه وما نألفه، ولا أن يسرد لنا وقائع وأحداثاً نعبرها وتعبرنا، بل إن عليه أن يقنعنا أن ما نراه ونحسه، نراه في عمله الروائي شكلاً آخر مختلفاً، أن يدهشنا بهذا العالم الجديد، بحيث يصبح ما نراه وما نحسه من قبل مجرد خلفية دلالية تترى في مساحاتها أوطاد هذا العالم الجديد وعناصره.
إن الرواية عالم تخييلي في الدرجة الأولى، وبوصفه فناً لن يتسنى له أن يقع خارج اللعبة الفنية التخيلية، ولا خارج آليات وقوانين هذه اللعبة المتحولة. إن هذا العالم التخييلي الفني، لن ينقطع بالضرورة عما هو موات ومألوف، إذ يصبح هذا المواتي المألوف المادة الخام التي تنسرب فيها شحنة الإبداع والفن، وتخلقها خلقاً طريفاً، هنا يتجلى مرام الرواية ووعدها، وبُعدها الإبداعي الأصيل.
2
في روايته: (الزيني بركات) لا يتخاصم جمال الغيطاني والتاريخ، إنه يتصالح معه، لكن هذا الصلح لا يتم على حساب الرؤية الفنية. لقد أراد الغيطاني أن يشحن هذا التاريخ عبر وقائعه المعروفة بطاقة أخرى هي طاقة الرمز والإسقاط السياسي، من هنا فإن شخصية (الزيني) جاءت لتقدم عالم البصاصين والدسائس التي تحاك هنا وهناك للإيقاع بشخصية ما، معادية أو معارضة. لقد توهج قبس التاريخ هنا لهذا الإسقاط على الواقع المعاصر. الغيطاني لم يروِ تاريخا، ولم يسرد وقائع، قدر ما حل في اللحظة الزمنية، مستعيرا إياها لتتضاد وتتلاقى في الآن نفسه في اللحظة الحاضرة، هكذا أخذ الغيطاني التيمة التاريخية بمعمارها وأوصافها، وأروقتها وبناياتها، وقدم مشهداً آخر لمقاربة بعض إشكاليات العصر. ليست المسألة هنا، كما يثار في دراسات عدة، أن هناك توظيفاً للتراث أو تناصا أو ما شابه ذلك، بل هناك استعارة إلليجورية لقران لحظة تاريخية بلحظة تاريخية أخرى، هذا القران الزمني هو الذي ولّد وأنتج الرؤية المبدعة في الرواية، والأمر نفسه يمكن أن نلحظه في رواية (إخطية) لإميل حبيبي و(رحلة ابن فطومة) لنجيب محفوظ، وفي روايته البديعة: (أولاد حارتنا) التي تمثل فيها بشكل ألليجوري باذخ التجربة الكونية والأرضية، بحيث استلهم كوميدياه البشرية من هذا الأفق التاريخي البشري الممتد على الأرض، فقدم أمثولة روائية حولت ما هو تاريخي مألوف إلى أفق فني تخييلي مبدع.
إنّ ما هو تاريخي هو الأفق الأبرز الباده الذي يحتضن الوقائع المعروفة، أو المقروء عنها، واستلهام هذا الأفق لا يتم بسرد ما تحتضنه كتب التاريخ، أو بتسجيل ما قاله المؤرخ، بل بإعادة ابتكار هذا التاريخ وكتابته برؤية تخيلية مبدعة، كما نجد في روايات أمين معلوف (سمرقند) و(ليون الأفريقي) مثلا، أو حتى في روايات رجاء عالم: (مسرى يا رقيب) و(خاتم) و(حبى) أو في رواية رضوى عاشور: (غرناطة).
لكن السؤال الباده هنا: لماذا يلجأ الروائي للتاريخ؟؟
هل يلجأ له لاستلهام ما؟ أو لتقديم إسقاط رمزي على مرحلة معاصرة؟ هل هو نوع من الحنين الشاعري المقدس إلى ماض مقدس كما يرى الناقد الفرنسي بيير جيرو؟ أم أن الروائي يعود للتاريخ لإعادة كتابة واقعة بشكل فني جمالي مؤسطر، أو بشكل قد تعلو فيه الفانتازيا وتتقلص اللحظة ليصبح الماضي حاضراً وبالعكس؟؟
هل العودة إلى التاريخ هنا هي نوع من العودة إلى الذات، إلى جوهر الأشياء، إلى بداياتها وأصولها، إلى تشكلات الإنسان العتيقة؟
يبدو أن اليقين يؤذن بالقول إن هذه العودة تنطوي على هذه المضامين كلها!
بيد أن التاريخ حين يجسد العمل الروائي بوصفه كلا، أو حين ينسرب في بعض أجزائه، إنما يأتي بوصفه لحظة كبرى مفارقة، لا تتغيا إعادة حكي الوقائع التاريخية كما هي بل ترمي إلى أسطرة اللحظة، واللعب بالتكنيك السردي الألأيجوري لبيان مدى إنتاجية المخيلة الروائية المبدعة، فالروائي ها هنا يستثمر قدرا من المعلومات المؤرخة أو الموثقة، وهذا الاستثمار بالطبع لا يتم بشكل آلي يعاد فيه نسج الحدث، لا نسخه، بل صياغة الشخصيات وتحميلها بشحنات رمزية خصبة.. إذن يتأدى ما هو تاريخي داخل النسق الروائي بوصفه واقعة كبرى يتم خلخلتها عبر الأسطرة والخيال السردي المبدع لتصاغ ضمن أفق جديد يحفز القارئ على إيلاج هذ المنتج، ويبدي له قسطا من أفق توقعاته الفنية كما يقدم له صورة مغايرة لما يألفه أو يتخيله.
3
هل يعد التاريخ الشخصي واقعة؟
إنه يصبح واقعة حين يتحول إلى نسق مسرود، حين يروي أو يحكي أو يقص، أو ينشد.
هكذا، فإن تاريخا شخصيا لذات ما، يبقى مطموراً حتى تنتهكه الكتابة أو الرواية، أي يكتب ويؤلف أو تتم روايته، فما هو شخصي، هو غامض بالضرورة، وكشفه في أفق الكتابة يتم عبر عدة أشكال تعبيرية:
أولاً: السيرة الذاتية.
ثانياً: المذكرات واليوميات.
ثالثاً: الاعترافات.
رابعاً: التضمين الكتابي عبر الأجناس الأدبية المختلفة.
وما يعنينا هنا نقطة الشكل الرابع، وعلى الأخص الشكل الروائي الذي نحن بصدده.
إن التاريخ الشخصي حال إبرازه سيقع ضمن فعلين:
التاريخ الشخصي أنا فعلتُ
التاريخ الشخصي السرد يفعل
وفي كلا الفعلين تصبح لعبة الضمائر هي القناع الأول للذات الساردة المضمرة، وتتحول وقائع التاريخ الشخصي من (أنا فعلت) إلى (السرد يفعل)، حيث لا يروى هذا التاريخ بحرفيته أو بأحداثه الحقيقية، بل يتم (سردنته) وتخييله وتحويره، تبعا للأفق الفني الذي ينبجس فيه الخطاب الروائي. هكذا يمكن أن نقرأ (تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، وأغلب روايات إدوار الخراط، ومنها: (رامة والتنين) و(يا بنات إسكندرية) و(حجارة بوبيللو). كما يمكن أن نقرأ ضمن هذا الأفق التاريخي الشخصي روايات محمد شكري (الخبز الحافي) و(وكالة عطية) لخيري شلبي و(وردية ليل) لإبراهيم أصلان و(أطياف الأزقة المهجورة) لتركي الحمد و(شقة الحرية) لغازي القصيبي، أيضا بعض العوالم الروائية لدى حنا مينة ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved