الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th May,2005 العدد : 105

الأثنين 1 ,ربيع الآخر 1426

إنقاذ الأدب الإسلامي من.. منظريه!
عبدالله الوشمي*
يتوتر الوسط الثقافي ويمتلئ بالحراك النقدي كلما تماست الآلية النقدية مع الرؤية الدينية بأي صورة تمثلت، حتى لقد تحول التابو من حصره في إطار الإبداع، إلى أن يمتد ليشمل بثوبه النقد ونقد النقد، وأصبح لدينا مناطق نقدية أشبه ما تكون بالمحميات الطبيعية، فلا يطؤها بشر، ولا تخطر على عقل ناقد.
وإذ إن الممارسة النقدية بحاجة إلى كثير من المغامرة لتحرير الأدب ممن أسره واستلبه، فإن هذه المقالة تجيء لتقول شيئاً من المسكوت عنه، ولتعالج جانباً ولو كان يسيراً في حجمه ولكنه يضرب في عمق القضية، حيث إن التكوين النظري يعد الخارطة الجينية الكبرى التي يستتر خلفها الإبداع إنْ قوة وإنْ ضعفاً.
لقد تعامل المتحمسون لفكرة (الأدب الإسلامي) والرافضون لها من خلال اعتبارها حزمة فكرية واحدة، فلم يعد بمقدور أحد من الطرفين الفصل ما بين النص والقائل والمتلقي، وأُخذ الجميع بجريرة الآخرين، وغاب إبان ذلك حس الفحص الذي يتكئ عليه النقد في جذوره اللغوية، حتى لقد صنّف بعض المتحمسين لهذا التيار كل من رفضه رافضاً للدين ومحققاً للأهداف الاستعمارية الكبرى!!، وروّج بعض الرافضين أن كل المتحمسين رافضون للجديد ولو كان في إطاره البسيط، كشعر التفعيلة وقصيدة النثر.
إن الاستعراض العلمي للمنجز النقدي الذي أصّل المتحمسون من خلاله لفكرتهم يعطي أطيافاً شتى لا تستطيع أن تسمها بسمة واحدة، ولعل في الاقتراب من بعضها ما يُعطي نوعاً من الدرس الفاحص والمباشر مع معطياتها، والذي أحسبه أن مؤلفات عدة تنخرط في هذا المجال ظلت بعيدة عن الفحص والتنقيب، ولا شك أن إسقاط الإضاءة على هذه المساحة من الآراء التي يثيرها بعض المنظّرين يعد أسلوباً فاعلاً في نقد النقد مهما بلغت درجة حساسيته ومهما رأى فيه (البعض!) من مشاكسة وهجوم على المحافظة والأصالة.
لنتفق على مسلمة رئيسة ونشعل الجدل بعدها، ألا وهي: إن (الأدب الإسلامي لا يرفضه مسلم ولا يعترض عليه) (د. مرزوق بن تنباك، مجلة الدارة، ع3) وهي رؤية سكّها أحد من يصنّفون ضمن المخالفين لهذا المنهج بتفاصيله، وتعني أن الجدل لا يمس اصلاً فكرياً أو ثابتاً قطعياً وإنما يتقاطع مع تطبيقاته، ومعالجة قضاياه، وتداخل الديني بالفني دون إدراك لطبيعة كل منهما، ودون امتلاك الرؤية الفاحصة بين اهتزازات الأدب وقطعيات الدين، وهي رؤية تفتح المجال لا حباً أمام مشروعية الاختلاف وتقطع الطريق على كثيرين مصابين بعقدة القداسة للسائد من أفكار الرجال.
ولعل من الخيوط الأولى في شبكة النقد الإسلامي الجهد الذي قدمه محمد قطب ليكون بمثابة التدشين الفعلي لهذا المنهج ولتسري روحه فيمن جاء بعده، وذلك من خلال كتابه الأشهر (منهج الفن الإسلامي) الذي امتاز بالترابط الفكري والاتصال المنهجي، وإن غلب عليه الأسلوب الإنشائي المباشر الذي يلمسه المتصفح ناهيك عن الفاحص، ولكن المشكل هو ما يعلنه الأستاذ بعد شوط كبير من التأصيل والبحث حين يقول: (الأدب الإسلامي في صورته المتكاملة التي استعرضنا أسسها من قبل شيء لم يوجد بعد في الإنتاج البشري) (منهج الفن الإسلامي:181) وهو رأي مهما حاول أن يعطي الادب المنشود شيئاً من الأسطرة التي تغري شداته بجزرة الريادة والسبق، فإننا لا يمكن أن نفصله عن دلالاته الأخرى، وأبرزها: أن الأدب بالصورة التي يؤصلون لها بحث عن اللاشئ، وتأصيل للمجهول، وحفلة لتحضير روح من لم يولد بعد! وهي مغالطة منهجية، إذ كيف تدعو وتمثل وتستشهد بنصوص، ثم تمتد لتنفي وجود ما تدعو إليه في نتاج سابق يتكئ منذ أبجدياته الأولى على الإسلام، وأي تكيف وأي أدب مثالي ذلك الذي يحتاج إليه المبدع لينتج هذا الأدب الملغز على الرغم من مرور أكثر 1400سنة؟ بالإضافة إلى أن هذا الرأي يستشهد بالتراث العربي والإسلامي ثم يستدير عليه ليسلبه إحدى أبرز مقوماته، ألا وهي أنه جاء ممثلاً للروح السارية في أتباعه! ويبقى السؤال الأكبر الذي يدهش المتابع لهذا التأصيل.. تحديداً: إذا كان هذا هو الموقف من حجم الحضور للأدب الإسلامي في التراث، فكيف سيكون الموقف من التراث الصحيح والصريح حين يحمل شيئاً من المضامين التي توصف بالمنحرفة؟! وهو ما يستحق الدرس والتفصيل.
وأما الموقف من الآخر الذي نجده ذا حضور طاغ في خارطة الفكر الإسلامي، وتباينت ردود الأفراد والجماعات حياله، فلم يكن الادب الإسلامي بمعزل عن ذلك، إذ ظهر في الحركة النقدية التي تؤصل له مواقف متباينة من الآخر لا تبتدئ بإهماله ولا تنتهي عند رفضه كلياً! واعتباره آخراً يقع في قبالة الذات عقدياً ومنهجاً وسلوكاً، وحين نحاول الاقتراب من نماذج ذلك فسوف نجد تبايناً أحسب أنه يقع في دائرة الاهتمام، إذ يعقد أحدهم صلة مذهب كالرمزية بالاساليب الخبيثة التي يلجأ إليها (أعداء الإسلام من الصليبيين واليهود والماركسيين يعملون جاهدين لنقل معتقداتهم وسلوكهم وطبائعهم إلى ديار المسلمين)!! هكذا في سياق أحسب انه يتخد الأسلوب التهويلي في التحذير من الآخر والتحذير من حضارته إجمالاً، وهو تحذير لم يتصل بالجذر التراثي الإسلامي الذي يؤكد على الثراء الفكري والدلالي في مجازات اللغة واستعاراتها، وما يسميه الاستطراد وإن لم يسمّه الرمز، وهو مثلاً أن يُري الأديب غيره أنه يصف فرساً، وهو يريد هجاء رجل (انظر إعجاز القرآن للباقلاني)، بالإضافة إلى التفاوت الكبير الذي نجده لدى رأس ضخم من رؤوس الأدب الإسلامي وهو الندوي رحمه الله، حين يرى أن الموقف السليم هو موقف الحر صاحب التفكير، الذي يأخذ من حوله بإرادة واختيار ما يطابقه ويلائمه، وما لا يرزؤه في شخصيته (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية: 199) ومثل ذلك ما قد ينشغل به البعض من الاهتمام برصد المآخذ على المناهج النقدية الحديثة دون أن يعطي نفسه فرصة لالتقاط النافع والمثمر، ولا تعدو مآخذهم على بعضها كلاماً إنشائياً تحذيرياً يتوسل بالمحافظة على الثوابت بغية قبول آرائه، ويغيب عندهبقصد ربما أن الحكم فرع عن التصور، وأن الوعي الحقيقي بالمنهج وتفاصيله شرط رئيس للحكم عليه.
وصحيح أننا قد نعد الحركة النقدية الدائرة بين نقاد هذا المنهج مما يتصل بالثراء النقدي، حيث نجد محمد بن حسين ينتقد عماد الدين خليل، والمناصرة ينتقد كثيرين غيره.. وهكذا، ولكننا حين نجد الاختلاف متصلاً بقضايا فكرية كبرى وأصول مهمة في هذا المنهج لا تستطيع إلا أن تستصحب الرؤية التي تقول بالارتباك في تحديد المرجعية، أو أن الاختلاف الكائن بينهم عائد إلى ثقافتهم المكونة لهم، فأنت تجد واحداً لا يجد غضاضة في إيراد نصوص إبداعية لكافة الاتجاهات الفكرية ما دامت في ذاتها متزنة فكرياً، وآخر لا يورد شيئا لهؤلاء، ويرى أن فساد منهجهم مانع من الاستشهاد بأقوالهم أياً كانت، وأن شعراء يستشهد بهم رجل كالندوي مشمولون بالطرد عند غيره من دائرة الأدب الإسلامي بحجة التصوف أو التشيّع أو الكفر، وهي إشكالية تطرح السؤال الثقيل منهجياً على أولئك: إلى أي حد نستطيع الالتزام بالمنهجية الواضحة في معايير النقد وفي معايير الشريعة التي تقضي بأن ننظر عند الحكم على الفنية والأدبية في القول ذاته دون استصحابات أخرى مهما كانت.
ووجه آخر من العملية النقدية المتشابكة في تأصيل هذا المنهج، وهو الوجه المعني بتأصيل القوة، فعلى حين تتفق الآراء أننا هنا لا نبحث في شؤون النصيحة أو الحديث العابر، وإنما نتعامل مع الأدب ذي القيمة الشكلية الغنية، فإن دهشة كبيرة تصطدم بها وأنت تقرأ لواحد من سدنة هذا المنهج ومن منظّريه والمشتغلين فيه إبداعاً حين يقول: (لا وقت للتحسين الجمالي) (محاولات جديدة في النقد الإسلامي:18) ولا أحسب أن تأصيل المضامين النبيلة يمر من هذه البوابة، فإن الهدف السامي لا يسوّغ بأية حجة هشاشة الفنية في النص وهو معضلة النص الأدبي الإسلامي، فضلاً على أن يُستدعى الظرف التاريخي، أو الحساسية المضمونية، أو شرف المضامين لكي يُفسح المجال أمام الأدب الضعيف لينمو. وقد ارتقت هذه الفكرة سلم اليقين لدى بعض المشتغلين بالإبداع من هذا التيار، وآزرهم نقدة غاب عنهم الحس الأدبي واللغوي وحضر الحس الديني وحده، فرأى بعضهم أن الوضوح يتناسب مع بساطة الإسلام ووضوحه، وأنه لا غموض في العقيدة يستدعي استخدام الرمز والخيال لإقناع الناس! (المسلمون والقصة الغربية: 15 أنور الجندي) أو أن يقال: إن الوضوح من لوازم الفكرة البينة والرؤية الواضحة! (مقدمة في دراسة الأدب الإسلامي: 123، مصطفى عليان) وهي اشتراطات نقدية إن صحت في مبدئها ولا تصح، فإنها لا تصح في تطبيقاتها وامتداداتها، وهي رؤى وجدناها تمكّن لأحد كبار مبدعي هذا التيار أن يقول: إنه لا يُعنى بالشكل ولا يهمه وإنما ينصرف إلى المضامين فحسب!، وهي إشكالية تتناقض حتى مع الرؤية الدينية التراثية التي تتردد في كتب ابن قتيبة والقرطاجي وابن تيمية وغيرهم ممن يتضح لهم الوعي بالادبية والوعي بالمضمونية ولا يمكن أن يحدث انتقاص لأحدهما على حساب الآخر، ولو حدث لانتقص من المضمون على حساب نقاء الأدب والفن، ومن هنا فقد أساء هذا الطرح النقدي إلى أهدافه من حيث أراد خدمتها، وامتد الضرر ليشمل هز الإيمان لدى المتلقي بإمكانية التمثّل الصحيح للمضامين السليمة من خلال أدب رائع.
إن هذه الرؤى تأتي لتقول شيئاً من الواجب النقدي الذي نتقاسمه جميعاً، ولئن اتجهت بهذا العنوان المشاكس والمثير، فإنها تستبطن جيداً أنه لا تعميم على كل الذين يلقون أقلامهم في هذا المجال، بل إن الموقف من القيمة الفنية جاء ساطعاً على يد أحد نقدة هذا المنهج باسلوب يأرز إلى وعي نقدي كبير حتى إنك في خضم هذه الرؤى لتشك بانتمائه إلى ذلك السياق، حيث يقول: إن للتجربة الأدبية قيمة منفصلة عن الآثار النفعية التي قد تنجم عنها، أي: عما قد يتصل بها من معنى خلقي، أو ديني، أو فلسفي، ولا يجوز للتجربة الأدبية، ولا للنظرية النقدية أن تهمل هذه القيمة المستقلة، أو أن تقصّر في البحث عنها، وعن كشف أسرارها، (وليد قصاب، مجلة آفاق الثقافة والتراث ع 2728) ولا شك انه وعي نقدي لا يتقاطع بتاتاً مع الرؤى التي تدعو إلى أهمال الفنية أو التنقص منها، ولذلك فإن هذا الرأي حين يُحتفى به ليدعو إلى المبادرة في تمحيص إهاب هذا النقد الذي يؤصل لهذا التيار، وأن نتجاوز إشكال المصطلح وقبول الإبداع إلى البحث في الأسّ الفكري والنقدي لهذا المنهج وخلل التطبيق له، وأنه مازال بحاجة إلى كثير من الفحص والتمييز الذي يتميز من خلاله المعدن النفيس وغيره. وإلى بقية من المقالات المشاكسة لهذا التيار.


* awashmi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved