الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th May,2005 العدد : 105

الأثنين 1 ,ربيع الآخر 1426

حديث في العولمة
د. أحمد صبرة
حين تضع مصطلحين من أكثر المصطلحات شيوعاً الآن في الخطاب الثقافي المعاصر في سياق واحد، فلا بد أن تتصور شكلاً من أشكال العلاقة بينهما، وحين يكون هذان المصطلحان هما: العولمة والهوية، فلا بد أن تبذل مجهوداً كبيراً كي تحيد موقفك الأيديولوجي تجاههما، حتى تستطيع بعد ذلك أن تتصور شكلاً بريئاً لما يربط بينهما. والعولمة تنسب إلى العالم، وهي بهذا المعنى مفهوم مرتبط بالمكان، وإن كان هذا المكان يأخذ العالم بأسره، أما الهوية فإنه لا تتحقق لها هذه المكانية بذاتها، فقد ترتبط بشخص كما ترتبط بجماعة أو عرق، الإضافة هنا هي التي تحدد علاقتها بالمكان، فإذا ارتبطت بمكان أنتجت في مواجهة العولمة علاقة الكلي الجزئي، الكلي هنا طرف لا مركز له يدعي انتسابه للعالم بأسره، والجزئي طرف محصور في شخص أو جماعة أو عرق يعيش في مكان محدد، كيف يمكن أن يتعايش الطرفان؟ ألا يوجد خوف مبرر هنا من أن يغرق الجزئي في تفاصيل الكلي؟ هذا إذا تصورنا أن العولمة والهوية من قبيل واحد، أما إذا تصورنا أن كلاً منهما ينتمي إلى حقل مستقل عن الآخر، فلا مبرر هنا لجمعهما في علاقة مواجهة، ويصبح الخوف على الهوية بأي تحديد لها نوعاً من الوهم.
أما العولمة فلا يوجد تعريف منطقي لها حتى الآن برغم كثرة ما يكتب عنها، وأقرب ما يمكن اقتباسه هنا عن تعريف العولمة ما كتبه ماجد طهرانيان: العولمة عملية بدأت قبل خمسة آلاف سنة، لكن سرعتها زادت بعد زوال الاتحاد السوفييتي عام 1991، وعناصر العولمة تشمل رأس المال العابر للحدود، وقوة العمل، والإدارة، والأخبار، والصور المتخيلة، وتدفق البيانات، أما المحرك الأساسي للعولمة فهو التعاون العابر للقوميات والمنظمات الإعلامية الدولية والمنظمات الحكومية الدولية، والمنظمات غير الحكومية الدولية، ومن منظور إنساني فإن العولمة تؤدي إلى نتائج إيجابية وسلبية في الوقت نفسه، فهي تضيق وتزيد فجوة الدخل بين الدول وداخل الدولة نفسها، وتركز وتضعف السيطرة السياسية، وتجانس وتجمع الهويات الثقافية (1)، كل هذا يحدث في آن واحد. يشكل الاقتصاد قاطرة العولمة (2)، ويقود جملة من الأنشطة الاجتماعية التي تعمل من خلال المنظمات سابقة الذكر، كما تشكل حرية التنقل وتدفق المعلومات عصباً أساسياً فيها.
بهذا التعريف للعولمة يصبح أي إنسان في أي مكان من العالم جزءاً من الظاهرة نفسها، تبدو العولمة هنا لا مركز لها، كما تبدو كذلك أنها انبثقت نتيجة جملة من الإجراءات والقوانين التي اتخذتها الدول طوعاً لتخلق حالة من التعايش السلمي والرفاه الاجتماعي جراء العولمة.
لكن الواقع يخلخل هذه الصورة، ويفكك أجزاءها، ويتعامل مع كل جزء وفق منظور مختلف، فالعولمة لها مركز، وبالتالي لها هامش، أما المركز فهو أمريكا ومجموعة الدول الصناعية الكبرى التي تجتمع اجتماعات نصف سنوية منتظمة، وأما الهامش فهو بقية العالم الذي يتفاوت في مدى قربه من المركز، فهو قريب جداً منه في حالة دول غرب أوروبا، وبعيد جداً عنه في حالة دول افريقيا والمنطقة العربية، لا يخفي الأمريكيون من دعاة العولمة مثل توماس فريدمان (3) الذي وصفه إدوارد سعيد بالفيلسوف الأحمق (4) أو من منتقديها مثل ناعوم تشومسكي (5) أن أمريكا من خلال العولمة تريد أن تعيد صياغة العالم على صورتها، يؤكد الواقع كذلك أن الإجراءات التي انبثقت من خلالها ظاهرة العولمة لم يؤخذ فيها برأي الهامش، بل إن هذا الهامش لم يترك على حاله، لقد طلب منه تبني وصفات جاهزة سواء من خلال منظمة التجارة العالمية، أو من خلال مؤتمرات الأمم المتحدة النوعية، أو من خلال فرض رقابة عليه في مجال الأسلحة والاقتصاد والسياسة وما يسمى بحقوق المرأة، ما يلفت النظر هنا أن المركز لم يكتف بفرض وصفات إصلاح اقتصادية على الهامش فقط، بل تعدى ذلك إلى محاولة فرض نمط من الإصلاح الاجتماعي، إضافة إلى ذلك فإن النشاط الاجتماعي المصاحب للعولمة ارتبط بشبكة من المنظمات غير الحكومية وربما الحكومية والهيئات والجمعيات والمؤسسات والتجمعات التي ترتبط مباشرة أو بشكل غير مباشر بمثيلاتها في أمريكا وأوروبا، وتتلقى منها دعماً مادياً، أو تكتفي بدعم معنوي مما يشكل الآن مصطلحاً جديداً هو المجتمع المدني الذي يعد سمة من سمات العولمة.
فإذا أردت أن تكون عولمياً، فأنت في حاجة إلى أن تغير مرجعيات النظام السياسي لديك، وأن تغير من الفلسفة التي قام عليها الاقتصاد، وأن تتبنى وسائل الغرب العولمي في التعليم، وأن تتبنى كذلك الدعوة لحقوق المرأة بالمفهوم الذي يطرحه المركز، ثم تتبنى أخيراً مفاهيم الغرب حول الحرب والسلام والإرهاب، وتعيش مشاكله كأنها مشاكلك أنت، وكل هذا يصب في خانة التأثير على الهوية، وفي هذه الحالة يكون الاسم الحقيقي للعولمة هو الهوية الأخرى، لكنها حين تنتقل من المركز إلى الهامش ستكون هوية بلا جذور.


* كلية الآداب جامعة الملك سعود
(1) Globalization. Kcy conccpts. by Fred W. Riggs على موقع www.globalization.com
(2) الدليل على ذلك أن أول ظهور لمصطلح العولمة جاء في إعلان لشركة سوني في إحدى الجرائد البريطانية عام 1991م.
(3) انظر كتابه الدعائي (السيارة ليكسس وشجرة الزيتون).
(4) جريدة الحياة: الاثنين 8 3 2004 العدد 14955
(5) انظر كتاب (الإرهاب والعولمة) ترجمة: د. حمزة المزيني.

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved