الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th May,2005 العدد : 105

الأثنين 1 ,ربيع الآخر 1426

الغرب في فكر هشام شرابي
أمل زاهد
في كتاب مأخوذ عن بحث نالت به الباحثة الزهرة بالحاج شهادة الماجستير في الحضارة العربية من الجامعة التونسية، تلقي الكاتبة الضوء على الغرب في فكر هشام شرابي المفكر الفلسطيني المعروف، وكيف تعامل مع المصطلح وعن أسباب اختيارها لهشام شرابي ومن أهمها أنه من مثقفي المهجر الذين لم ينقطعوا عن مشاغل مجتمعهم، ولم يتاونوا عن الاشتراك من خارج الحدود في إفادته والمساهمة في نهضته.
والكتاب مقسم إلى ثلاثة أبواب، تعرضت الكاتبة في الباب الأول المكون من ثلاثة فصول إلى: مقولة الغرب كما تجلت عند التيار التحديثي رفاعة الطهطاوي وخير الدين باشا نموذجاً في الفصل الأول، وفيه وضحت موقف التحديثيين المنبهر بالغرب والمأخوذ بإنجازاته الحضارية، وقد اجتمع الرجلان على وجوب الانفتاح على أوروبا واختراعاتها وقيم العدل والحرية دون خوف أو وجل من أن يؤثر ذلك الانفتاح على الدين أو الثقافة، مع التركيز على مواءمة هذا الانفتاح مع الأخلاق الإسلامية، وموقفهما كان انعكاساً للملابسات التاريخية التي زامنته والتي تبلورت في الصدمة الحضارية التي أحدثها احتكاك هذين الرائدين بالغرب، والرغبة في خروج الأمة من نار الاستبداد التي كانت تمارسه الأقلية الحاكمة في ذلك الوقت. في الفصل الثاني توضح الكاتبة مقولة الغرب كما تجلت في التيار السلفي: الأفغاني ومحمد عبده نموذجاً، وقد تغيرت هنا النظرة إلى الغرب بناء على انقشاع الصورة الإيجابية للغرب القائمة على قيم الحرية والعدل والعلم، فقد عايش كل من الأفغاني ومحمد عبده الاستعمار الأوروبي للبلاد العربية وشاهدا الظلم والاستبداد؛ ولذلك تعاملا مع الغرب باعتباره معتدياً مهدداً للهوية وجبت محاربته والتصدي لاعتداءاته، ولذلك استنهضا همم المسلمين كي يثوروا على أوضاعهم المتردية مركزين على فتح باب الاجتهاد مبرزين ما يتميز به الإسلام من مرونة ومعاصرة، موضحين أنه لا خلاص إلا بالعودة إليه والاحتكام بحكمه، وتمكين المسلمين من القوة والتقدم على أسس ذاتية تنبع من تراثهم الديني الحضاري.
ويأتي الباب الثالث ليلقي الضوء على مقولة الغرب كما تجلت في الخطاب العلماني: سلامة موسى أنموذجاً، وتتبلور تلك المقولة في الحماس الشديد للحضارة الغربية مع التأكيد أنه لا يمكن للمجتمعات العربية تحقيق النهضة من دون أن تسلك المسار الذي سلكه الغرب، وتمثل تجربته النهضوية بكل تفاصيلها، حتى ننتقل إلى طور الغلبة، ولم ينف موسى الجانب الإمبريالي الاستعماري للغرب، ولكنه كان يرى أن الوسيلة المثلى لامتصاصه هو الاشتراكية لأنها في نظره وسيلة للتحديث وتحقيق العدالة الاجتماعية.
والفصل الأول من الباب الثاني يتحدث عن الغرب الآخر، ويدل مصطلح الآخر على علاقة المسلم بغيره، وقد صنف شرابي مجمل المواقف العربية من الآخر إلى قسمين وهما: الدائرة التقليدية ودائرة التحديث العلمانية، وينضوي تحت الدائرة التقليدية العلماء المسلمون والمسلمون الإصلاحيون، بينما يشكل المسيحيون العلمانيون والمسلمون العلمانيون هيكل الدائرة الأخرى، وقد أسهب شرابي في وصف الانتماء الاجتماعي للمثقفين العرب بحثاً عن رابط بين الانتماء وانعكاساته في تحديد الموقف من الغرب. وموقف التقليديين يميل إلى الرجعية المتشددة الرافضة للواقع وللآخر والمتطلعة إلى بعث الماضي واستعادة التراث، ورؤيتهم للإصلاح تتركز في إعادة دولة الإسلام إلى النمط الذي عاشه المسلمون في زمن الرسول والخلفاء معتبرين أن كل دعوة للتحديث مرادفة للهيمنة الغربية دون التمييز بين السيطرة الاستعمارية والجديد الحضاري. أما التيار الإصلاحي فإنه يختلف عن التيار التقليدي لأن أصحابه نادوا بضرورة الجمع بين الفكر العربي الإسلامي والفكر الحديث متوخين سياسة الانتقاء التي كان ديدنها أخذ ما يتماشى من المقولات التحديثية الغربية الحديثة وذلك في إطار باب الاجتهاد بينما رفض التقليديون ذلك.
وانتقد شرابي هذا التيار لأنه ابتعد عن التحليل العلمي وارتمى في أحضان أيدلوجيات وهمية منفصلة عن الحقيقة؛ وذلك رغبة منه في تأكيد الذات الإسلامية وإمكانية الندية مع الآخر والتفوق عليه، وجنح إلى الموقف التمجيدي المبالغ في ذكر إنجازات العرب وفضلها على الغرب حتى يدرأ عن المجتمع العربي نقائصه، أما العلمانيون المسيحيون فقد كانوا فئة صغيرة تشعر بأن لا هوية لها في مجتمع جله إسلامي، فرأوا في قيم الحرية والمساواة ما يبحثون عنه كي يحققوا ذاتهم، وقد كانت بالنسبة لهم علمنة المجتمع والتمثل بالغرب واحتذاؤه هي الطريق كي يخرجوا من مأزقهم الذاتي. أما العلمانيون المسلمون فلم يكونوا موجهين دينياً، وقد جمعوا بين التعليم الشرقي والتعليم الحديث، كما أن جذورهم أشعرتهم بالأمان وجنبتهم التورط في خلافات عقائدية وصراعات دينية. وقد اتجهت هذه الفئة إلى إحداث تغييرات في الفكر الإسلامي جعلته يتواءم مع الحداثة وضبطت بعض الحدود التي لا يمكن أن تتجاوزها العلمانية، وقد تبلور تحركهم في إصلاح معتدل تدريجي متجنبين إحداث تحول جذري مفاجئ وسريع. وقد كان موقف العلمانيين المسلمين في رأي شرابي معتدلاً بعيداً عن الطوباية الدينية لدى الإصلاحيين أو الذرائعية العقلية لدى المسيحيين العرب، ولكنه انتقد انتهاجهم الاستعارة التي تعتمد على الانتقاء لأنه لا يمكن عملياً التوفيق بين التناقض الصارخ بين التشبث بالأصالة والمناداة بالعلمانية الغربية، كما أنهم لم يتخلصوا من رواسب الشعور بالنقص من جهة والعداء للغرب من جهة أخرى.
وقد اعتبر شرابي أن الحركة العلمانية والحركة الإسلامية فشلتا في إنشاء مقال يقدم حلاً واضحاً وفعلياً لمشكلات الهوية والتاريخ والغرب.
وعن طبيعية علاقة الآخر بالأنا يرى شرابي أن تاريخنا الحديث بكل سلبياته وإيجابياته هو من صنع الغرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأن الغرب جعل الأنا دائماً في موقع التبعية وخلق في المجتمعات العربية برجوازية صغيرة وهي نتاج للهيمنة التي فرضتها القوى الغربية التي سعت إلى عزل العرب عن مسار النهضة، وهو ما أوقعهم في عملية تحديث وعرقل عملية الحداثة. والبرجوازية الصغيرة لا تعكس نشوء طبقة برجوازية تامة النمو كما أنها لا تمثل طبقة عاملة حقيقة (البروليتاريا)، ولقد لعبت البرجوازية الصغيرة الدور الذي لعبته الإمبريالية زمن الاستعمار بتكريس النظام البطركي (وهي بنية تعتمد على العلاقات الأبوية العمودية السلطوية التي تبدأ من الأب في الأسرة بشكل هرمي حتى تنتهي بشيخ القبيلة الحاكم) .
ولقد انتقدت الكاتبة شرابي لأنه أغفل في دراسته علاقة الغرب بالشرق الحديث عن طريق الاستشراق، لأن الاستشراق يتحول عند بعض المستشرقين إلى إدارة لنفي هوية العرب وإنتاجاتهم الإبداعية ومساهماتهم الحضارية مع التأكيد على صورة الشرقي المبنية على العجز والخمول والاتكال، وهي صورة تعكس التحيز المقصود إلى درجة سوء النية الإرادية والأهداف غير المعلنة.
وقد عانى الأنا من مركزية الآخر المتجسدة في إحساسه بتفوقه الجنسي والإثني نتيجة لما توصل إليه من تقدم مادي خول له السيطرة على مختلف مجالات الحياة وتغيير مقوماتها، وأدى ذلك إلى افتتان الأنا بالحضارة الغربية. كما أن من أهداف المركزية تماهي الحضارات في الحضارة الغربية باعتبارها الأكثر سموا، وهذا يعني أنها تحمل أيدلوجية القضاء على الخصوصية والاختلاف.. وأدى شعور الأنا بالنقص إلى التطرف في ردود الأفعال، فهي إما انحياز كامل لحضارة الغرب وانصهار فيها، وإما عداء سافر ومغالاة في ذكر إنجازات الماضي وفضل الأنا على الآخر.
وينقلب موقف شرابي بالنسبة للآخر بين مفارقتي الإحساس بالغربة والشعور بأن الغرب هو الملجأ، فالغرب مثل لشرابي عام 1947 الغربة والإحساس بالحنين للوطن حين ذهب للدراسة في شيكاغو خاصة بعد أن أدرك ما يمر به وطنه فلسطين من محنة، وإحساسه بالذنب لتركه أرض الوطن في تلك المرحلة الحرجة من تاريخه. ثم تبدأ غربته الثانية التي جاءت إثر اعتقال أعضاء الحزب القومي الاجتماعي السوري وإعدام أنطون سعادة عام 1949 فيرحل مرة أخرى إلى شيكاغو ولكن هنا كان الغرب بالنسبة له يمثل الملجأ والطريق لنيل الحرية الفكرية.
الباب الثالث يتكون من فصلين، في الأول تتحدث الكاتبة عن المرجعية الاجتماعية والثقافية لهشام شرابي ومرجعيته دون شك أثرت في توجهه الفكري وانعكس ذلك في مواقفه الثورية الرافضة لواقعه وواقع الفلسطينيين والعرب بصفة عامة؛ ولذلك نجده يلح على معنى الحرية. فهو من أسرة فلسطينية أرستقراطية، وهو كثيراً ما ينتقد الأرضية الاجتماعية لأسرته وهو بذلك الانتقاد ينتقد المجتمع الذي يعتمد على البنية البطركية العمودية التي تقمع الفرد وتحاول تطويعه وتدجينه وصهره في المجموعة وخلق علاقات هرمية تكون الأولية فيها لمن بيده السلطة. وهو ينتقد المؤسسات التعليمية في العالم العربي القائمة على الإخضاع والاستلاب الفكري الذي تمارسه النظم السياسية وتمرره عبر قنوات التدريس سواء في المدرسة أو الجامعة، كما تقضي على الإبداع بقتلها روح التفرد والتميز والتمرد، وتعزز سلطة المعلم الذي يعتمد على أسلوب خطابي إنشائي بعيداً عن مناهج البحث العلمي، مقصياً التلاميذ مستكبراً عليهم مستهزئاً بآرائهم، حتى أن هذا الأسلوب رافقه في الجامعة الأمريكية ببيروت التي درس فيها.
من أهم الشخصيات التي أثرت على شرابي في تلك المرحلة هي شخصية (مخائيل نعيمة) ، فقد رأى فيه رفيقاً روحياً في رحلة القلق الوجودي وتبنى أفكاره الوجودية لفترة، ولكنه ما لبث أن شعر أن أفكاره تحتاج إلى الحركة الدينامية فالتحق بالحزب القومي الاجتماعي السوري الذي رأى فيه إطاراً من الممكن أن تتحقق أهدافه من خلاله. وكان شرابي يرى أن الإمبريالية الغربية عامل رئيسي في تطوير الروح القومية في مصر، أما في الهلال الخصيب فإن المفهوم القومي تكون في ظل ظروف مختلفة بلورها الاضطهاد العثماني. وقد كانت غاية الحزب القصوى تتمثل في دعوة العرب مسلمين ومسيحيين إلى التوحد أمام خطة الأجنبي التي ترمي بالعرب إلى التمزق والتفرقة بواسطة تشجيع الطائفية المذهبية والدينية، وبذلك كانت القومية كما يقول شرابي (دينا جديداً موحداً ليرفع هذه الأمة إليها، إلى الخلود فيها) . وكان من أكبر أسباب انجذاب شرابي للحزب هو اعتبار الحزب القضية الفلسطينية هي القضية القومية الأولى. ولقد عجز الحزب عن تحقيق أهدافه نظراً لظروف خارجية وداخلية أهمها اتهام أنطون سعادة بالولاء الفاشي، ودور الحركة الصهيونية الذي كان يهدف إلى القضاء على التكتلات العربية، وهذا ما حدا بها إلى مضايقة نشاط سعادة القومي وتحريض السلطة المحلية عليه، وانتهى بإعدامه وفشل الحزب. ولم يخف شرابي ندمه على المسلك الحزبي الذي سلكه واعتبره فعلاً لا واعياً أراد من خلاله كسر ما يكبله من قيود أبوية وسلطوية. وقد كان التقلب في المواقف الذي لازم شرابي يعكس رحلة بحث عما يرضي ميوله التحررية وقناعاته الفكرية.
يتحدث الفصل الأخير من الكتاب عن المرجعية الثقافية الغربية لشرابي وأثرها في تحديد مواقفه من الغرب. أعجب شرابي بالهياكل التعليمية في الغرب وبقدرتها على تكوين الذهنية النقدية عند الطالب وتقبل الآخر واحترام الرأي المخالف دون إقصاء أو تهميش والتركيز على نسبية الحقيقة، ولكنه أدرك أن نزاهتها وحياديتها تخفي بين أعطافها أيدلوجيات مخالفة لحرية الرأي، فقد كانت تهدف إلى تعزيز النظام الليبرالي والاقتصاد الرأسمالي وهو ما يعني ضرورة محاربة الشيوعية والاشتراكية، كما أنه انتقد الطريقة الغربية في تنشئة الطفل التي تعتمد على الرياء والتمويه، فهو يشحن بقيم مثالية عن الحرية والمحبة والتآخي سرعان ما يكتشف تلقائياً من خلال تعاملات المجتمع أنها مجرد قيم لا ارتباط مباشر لها بالحياة الواقعية والسلوك العام.
انبهر شرابي بالغرب حتى استفاق على هزيمة 1967م التي شكلت مرحلة مفصلية في حياته الفكرية، انطلق منها ناقداً الإمبريالية الأمريكية، وقد كان موقفه من الغرب مركباً متطوراً، ودراسته للغرب تهدف إلى الاستفادة من إنجازاته العلمية قصد المساهمة في محاولة إصلاح العالم العربي، فكانت دراسة الآخر بالنسبة له هي مرآة انعكست من خلالها الذات العربية، ولقد كان في معظم مواقفه وآرائه جريئاً على نقد الآخر، كما كان جريئاً على نقد الذات العربية معتمداً على ما وصل إليه من نضج فكري وزاد معرفي. وكان يدعو إلى المحافظة على الخصوصية العربية، حتى لا ننزلق في دائرة الخضوع لاستبداد الآخر، ولذلك يقترح إقامة علاقة مع الغرب في إطار الاختلاف، وهو اختلاف يكرس الندية ويحافظ على الخصوصية الحضارية لكل شعب. كما انطلق مشروعه من محاولة إصلاح المجتمع العربي ومحاولة التخلص من النظام البطركي الذي يهيمن عليه وإصلاح وضع المرأة التي كان يرى أن تحريرها شرط لتحرير المجتمع وليس العكس.
تأخذ الكاتبة على شرابي تناقضه المتمثل في تقديمه صورة سلبية في مجملها عن الغرب، في حين أنه انتهج أدواته في البحث العلمي لدراسة المجتمع العربي، ونحن لا نراه تناقضاً بقدر ما نرى أن شرابي قد تشرب الرؤية النقدية التحليلية التي مكنته من نقد الآليات الغربية وحررته من الإعجاب الأعمى بالآخر، كما خولته الشجاعة الأدبية التي مكنته من تغيير مواقفه إذا آمن بعدم صحتها وصلاحيتها للتنفيذ على أرض الواقع.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved