الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th May,2005 العدد : 105

الأثنين 1 ,ربيع الآخر 1426

قصة قصيرة
الحافلة
خليل إبراهيم الفزيع
استقبل شارع الوزارات بعد أن لفظه مبنى وزارة المعارف مثقلاً بالحزن.. متسربلاً باليأس والقنوط.. ولليأس عاصفة تجتاح طمأنينة القلب، وللقنوط إعصار يقتلع جذور اليقين، كان قد وصل من محطة الحافلات في البطحاء مشياً على الأقدام، مع أن حافلات (خط البلدة) الصغيرة تمشط باستمرار المسافة بين البطحاء والمطار، لكنه أصر على أن يحفظ القرش الأبيض لليوم الأسود.. جر قدميه.. قطع الشارع مسرعاً ليتفادى سيل السيارات الذي انهمر فجأة.. رمى جسده فوق أحد الكراسي في مطعم الفول المقابل لمبنى الوزارة.. انغرس أمامه صبي المطعم مستفسراً عن طلبه، وهو متشاغل بمسح الطاولة:
فول.. فلافل.. بيض.. كبدة؟
لم يرد.. تركه صبي المطعم متعجباً دون أن يصر على كسر طوق صمته.
راقب شارع الوزارات.. على ضفتيه منشآت ضخمة.. يفصلهما نهر من المركبات، وموج من البشر تتقاذفه رياح الحياة، ينتهي الشارع بميناء جوي حيث مبنى المطار في نهايته شمالاً، والبطحاء في نهايته جنوباً، وقد شطرها خندق عميق.. انتشر الباعة على جانبيه في مظهر أثاره عندما شاهده هذا الصباح، حاول أن يستعرض تفاصيل رحلته.. كل شيء كان شاخصاً أمام بصره.. راسخاً في وجدانه.. واضحاً في ذاكرته.. فأصغى إلى بوح الخاطر.
الشمس لم تزل تتثاءب في بداية يقظتها لتطل على مدينته الساحلية.. تنزع أقدامها بتثاقل من أشباج مياه الخليج.. بدأت الرحلة بزعيق الحافلة الذي مزق أستار الصمت.. وكلاب المدينة وقططها لم تزل تجوب الشوارع كأنما تريد أن تعض على بقايا الليل، ولا تسلمه للرحيل.. الركاب يرددون:
يا فتاح يا عليم.. يا رزاق يا كريم.. أصبحنا وأصبح الملك لله.. توكلنا على الله.. يا فتاح يا عليم..
لاحت تباشير الصباح.. تسامَقَ الأمل الندي.. ارتشف القلب وعوداً تلوح في أفق الأمنيات.. التف حول نفسه ليتقي لسعة البرد المشبع بالرطوبة.. نظر حوله فرأى الركاب وقد تشرنق كل واحد منهم في ذاته دون أن يلتفت إلى جاره.. تساءل سعد:
ما الذي جمعهم في هذه الحافلة غير السعي وراء طلب الرزق؟ ومثلما اجتمعوا سيفترقون، وقد لا يلتقي أحدهم بالآخر مدى الحياة.. أي أسرار أو طموحات تنطوي عليها نفوسهم؟ أي عواطف أو مشاعر تضمها جوانحهم؟.
سائق الحافلة بدا آلي الحركة.. كأنه مبرمج لأداء مهماته بتلقائية مطلقة، صوته النحاسي.. وجهه العابس.. جسده الواهن.. نظره الضعيف، قفز إلى ذهنه سؤال:
كيف لهذا السائق أن يقود حافلته بأمان، وهو كالأعمى يتلمس طريقه إلى مقود الحافلة.. بينما يقوم مساعده بكل إجراءات الركاب؟ أي خير يرتجى من حافلة سائقها أعشى؟
عاد صبي المطعم يسأل عن طلباته بابتسامة تنم عن الحياد.. دون أن يتكلم جمع سعد أطراف أصابعه، وهز يده إلى الأعلى والأسفل، في إشارة تعني الانتظار..
كأنه أراد أن يقول: لا تستعجل سأذكر لك طلبي فيما بعد..
الناس لا زالوا يأتون ويذهبون، وهو قابع في مكانه، مثل من يبحث عن السكينة، لكن الحزن يقوده إلى منعرج القلق.. قلبه ينوء بصهد المعاناة.. عقله يرزح تحت مرارة الخيبة.
انطلقت الحافلة.. زفتها مجموعة من الكلاب التي أثارها ضجيجها، فانطلقت في إثرها في نباح متواصل، ثم بدأت تتراجع حتى اختفت وتلاشى صدى نباحها مع تلاشي عتمة الفجر.
مضى الزمن بطيئاً، ومضت معه الحافلة تئن في سيرها المتأني.. وعورة الطريق ترغم الحافلة على أن تخض ركابها كقطع صغيرة في علبة مقفلة يعبث بها طفل صغير.. حرارة الشمس بدأت تتسرب إلى أجساد الركاب لتطرد بقايا برودة الصباح.
صوت الحافلة كان أشبه بالسعال المتواصل وهي تتهادى في سيرها المتئد، تاركة خلفها دخاناً كثيفاً لا يتيح رؤية السيارات الفارهة التي كانت تمرق من الجانبين، وما تلبث أن تختفي مخلفة وراءها غباراً مزعجاً.. وحسرة في قلوب ركاب الحافلة.
مسح ما حوله في المطعم بنظرة شاملة.. رأى الجميع منهمكين في تناول ما في أطباقهم.. رائحة البصل تكاد تملأ المكان، وصبي المطعم يتنقل من طاولة إلى أخرى.. يمسح هذه الطاولة أو تلك بمنديل، ثم يلقيه على كتفه، وهو يردد طلبات الزبائن بصوت ممطوط، متمرس في طقوس المهنة:
شاي بالحليب.. شاي ساده.. فول.. فلافل.. بيض.. كبدة..
الوقت يمضي ببطء شديد.. الشمس تشتد حرارتها.. نذر الخطر تلوح.. زعيق الحافلة يزداد.. حتى توقف محركها.. اكتمل المأزق عندما انغرست عجلاتها في الرمال، وحينها تسابق الجميع في إبداء آرائهم، وتحول معظم الركاب إلى (ميكانيكيين)، كل واحد منهم يشخص العلة، ويصف العلاج، ما عدا السائق الذي تنحى جانباً، ثم تمدد في ظلال حافلة، تاركاً لمعاونه مهمة إصلاحها.
الشمس تقذف أشعتها الملتهبة.. الرمال تحولت إلى موقد كبير، العرق يتصبب غزيراً من الأجساد التي تزاحمت لتحتمي بظل صغير بجانب الحافلة، ومنتصف النهار لم يمض منه إلا أقله.
ازداد الشعور بالضيق.. راكب من أبناء الصحراء ألقى بجسده فوق كثيب غير عابئ بحرارة الرمال.. بدأ يسخر من قلقهم.. انضم إليه بعض رفاقه.. خاضوا في أحاديث شتى لا علاقة لها بالحالة التي يعاني منها بقية الركاب.. تحدثوا بصخب.. ضحكوا بصخب.. أكلوا بصخب.. ثم قام أحدهم ليؤذن لصلاة الظهر.
في هذا الجو المشحون بالضنى والمعاناة.. لم ينس سعد أن اليوم التالي هو موعد المسابقة الوظيفية التي يسافر إلى العاصمة من أجلها.
الكل يأكل بنهم، وكأنما شهوة الأكل قد انفتح بابها على مصراعيه في هذا الصباح، لدى هؤلاء القادمين من كل فج، وصبي المطعم كلما لبى طلباً لأحد الزبائن، عاد إليه مستفسراً عن طلبه، ولما لم يعره اهتماماً، انصرف عنه متذمراً.
صاح شيخ في أرذل العمر:
وحدوا الله..
أحدهم امتشق سيف الجرأة وقال:
من يتذكر منكم إحدى خطاياه.. فليستغفر الله.
سعد وحده الغارق في بحيرة أفكاره، بعد أن طفحت نفسه بالخوف من أن يفوته غداً موعد مسابقة التوظيف.
بعد جهد.. استطاع مساعد السائق أن يصلح الحافلة بمساعدة بعض المتطوعين من الركاب.. انتصب السائق في مكانه، وطلب من الجميع دفع الحافلة لإنقاذها من رمال الدهناء العنيدة، هذه الرمال صعبة المراس، لا تسهل السيطرة عليها.. كيف استطاع الآباء والأجداد قهر رعونتها، وامتلاك زمام أمرها؟.
عندما تحركت الحافلة انطلقوا وراءها ليأخذ كل واحد منهم مكانه، وقد مالت الشمس إلى المغيب، فانطلقت تبدد أنوارها كتل الظلام، في طريق رملية حيناً وصخرية حيناً آخر، وفي الحالتين تتمايل أجساد الركاب في كل اتجاه، وكأن سائق الحافلة قد أخذ على نفسه عهداً بأن يفرغ أجسادهم وعقولهم من الراحة والطمأنينة، قبل الوصول إلى العاصمة، التي ما إن لاحت أنوارها من بعيد، حتى استبشر الجميع خيراً.
وكأن صبي المطعم قد يئس منه عندما استنجد بصاحب المطعم، الذي وقف أمامه فجأة، وقال غاضباً:
إما أن تذكر طلبك أو تفارق المكان.
نظر إلى هيئته العملاقة.. خشي الدخول معه في جدال غير متكافئ، فطلب طبقاً من الفول.
كان قد أمضى ليلته ساهراً في محطة الحافلات، وفي الصباح توجه في الوقت المناسب للمشاركة في المسابقة الوظيفية، فوجد في انتظاره إعلاناً بإلغاء المسابقة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved