الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 9th June,2003 العدد : 15

الأثنين 9 ,ربيع الثاني 1424

استقبال الغرب في النقد الأدبي "3-3"
د. سعد البازعي (*)

مسألة العالمية من المسائل التي تثار كثيراً في الثقافة العربية عموما وفي النقد العربي الحديث ضمن تلك الثقافة فيما يتصل بالنظريات والمناهج الغربية، وهي، مثل مسألة "العلم" أو"العلموية"، مسألة فقدت الكثير من مصداقيتها في الفكر النقدي المعاصر، سواء لدى الغربيين أو لدى بعض الباحثين غير الغربيين من عرب وغيرهم، نتيجة لعوامل عدة، منها ما وجه اليها من نقد على أساس أنها تقوم على تمركز أوروبي/ غربي لم يعد بالقوة التي كان يتمتع بها أثناء فترات السيطرة الاستعمارية الغربية، ومنها ظهور إسهامات من المناطق التي سبق استعمارها استطاعت ان تزيح ذلك التمركز بإثارة قضايا تمس العالم غير الغربي. وقد أشار جابر عصفور، ضمن آخرين من النقاد العرب، الى هذا التحول. فهو يؤكد محقاً في احدى مقالاته "اتساع دوائر المشاركة النقدية على امتداد العالم كله، ودخول المزيد من نقاد العالم الثالث في علاقات انتاج النقد الأدبي، ومن ثم عمليات توزيعه واستقباله في مداها العام. وذلك على النحو الذي أحال المشهد العالمي للنقد الأدبي الى مشهد مزاح المركز بأكثر من معنى"(1).
غير ان السؤال الذي ينهض هنا هو: هل كان ما وجه من نقد وما تطور من حركات نقدية عالمثالثية في توجهها، أو في مصدرها، مثل النقد ما بعد الكولونيالي أو ما بعد الاستعماري، كافياً بالفعل لزحزحة التمركز الغربي الى الحد الذي يجعل المشهد النقدي المعاصر عالمياً بحق.
إن المشكلات التي تواجه الناقد العربي، وغير العربي، في محاولاته الإفادة من النقد الغربي ليست محصورة بالطبع في المناهج، وإنما هي مواجهة متعددة الجبهات. وهي في كل مظاهرها، سواء اتخذت مظهر الحيرة المنهجية أو التوظيف غير الدقيق للمصطلحات أو سوء فهم ما يسعى الناقد الى توظيفه من منهج أو مصطلح أو غيره، لا تعني بالضرورة أو في كل الحالات ضعفا لدى الناقد، بل هي في بعض الأحيان جزء طبيعي من عملية النمو الفكري والوصول الى قدر أكبر من النضج. وإذا كان ذلك القدر الأكبر من النضج لا يصل الى الوضع المثالي من الكمال الذي يتصوره صلاح فضل في مقولته الأولى المشار اليها، فإنه في الوقت نفسه لا يلغي نقاط الضعف والمآزق التي مر بها الناقد أو المفكر في تاريخ تطوره مما يصير جزءاً من تاريخ الثقافة وسماتها في مرحلة معينة، على النحو الذي يشير اليه فضل مرة أخرى في مقولته الثانية. وإذا كان بعض النقاد والمفكرين العرب رأوا ان من الأهمية أن يقفوا بأنفسهم وقفة علنية عند ما اعتور عملهم من مشكلات أو ضعف، كما رأينا عند لويس عوض، فإن ذلك دليل آخر على تميز أولئك بالصدق والسعي الجاد الى مزيد من النضج والعطاء الأفضل، على عكس من غفلوا عنها أو كابروا فرفضوا وقوعهم فيها حين أشار اليها غيرهم. وفي تاريخنا الثقافي العربي المعاصر الكثير من الأمثلة من هذين الفريقين.
من الأمثلة الأخرى البارزة في هذا السياق زكي نجيب محمود الذي عرف في الشطر الأكبر من نشاطه الفكري والنقدي بوصفه مفكراً يعرِّف بالفلسفة الوضعية الغربية شارحا ومحللا ومترجماً، مثلما عرف بنشاطه النقدي الأدبي. في تقديمه لكتاب تجديد الفكر العربي (1971) وقف محمود وقفة مراجعة جذرية إزاء نشاطه الفكري والنقدي ورأى أنه قد ابتعد كثيرا عن الطريق التي كان يفترض ان يسير فيها. فدراسته وتدريسه للفكر الأوروبي أعواما طوالا كما يقول جعلته جاهلا بالتراث العربي: "الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ،والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ، وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح.." ثم كان بعد ذلك أن "أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فقد فوجئ في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد، إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذ إلا ان نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين.." المشكلة، كما اتضح لمحمود بعد تلك السنين هي "كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره، يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟"(2).
هنا بغض النظر عن الموقف الذي قد نتخذه إزاء ما يقوله الكاتب عن نفسه أو إزاء عطائه الفكري والنقدي بشكل عام أو حتى المشاكل والحلول التي يقدمها نحن أمام موقف يدعو الى الإعجاب لما فيه من صراحة والتقدير لما تعبر عنه تلك الصراحة من صدق وبحث عن الحقيقة على نحو يذكر بالمواقف الاعترافية المبثوثة سواء في تراثنا العربي الاسلامي، كما لدى أبي حامد الغزالي، أو في التراث الغربي، كما لدى ديكارت أو روسو في بحثهم عن الحقيقة. لكن المحصلة النهائية هي تواري الصورة الواثقة التي تلمع في أحاديث بعض النقاد العرب عن بلوغ الثقافة العربية مرحلة لا يأتيها القلق من بين يديها ولا من خلفها.
القلق والتردد والمراجعة التي يتسم بها موقف زكي نجيب محمود هي ما يغيب تماما عن الخطابية الواثقة في ما يؤكده كما أبوديب، مثلاً، إذ يتحدث عن المنهج النقدي الذي يقول إنه يطوره في كتابه، المنهج القائم على أسس علمية صارمة، والذي يلتقي، كما يقول، مع أطروحات عدد من النقاد والمفكرين الغربيين دون أن يكون عالة عليهم. غير ان ما يهمني التعليق عليه هنا في سياق هذه الملاحظات هو مفهوم العلمية، أي كون النقد قائما على أسس علمية، وهذا لو تحقق ففيه الوصول الى الحلم الذي يسعى اليه النقد منذ أرسطو،مروراً بآي أي رتشاردز ونورثروب فراي وتودوروف ورولان بارت بحظوظ متفاوتة لكن دون نجاح نهائي.ودون تقليل من جهود أبي ديب، فهو من المتميزين بالتأكيد في تحليل النصوص الأدبية، فإن ما يقوله على مستوى النظرية قاصر كثيرا سواء على مستوى التحقيق الفعلي، أو على مستوى التماسك النظري. فالبنيوية التي كانت آخر مساعي النقد للعلموية ما لبثت أن تخلت عن حلمها، بل بدأت بالتواري عن الساحة النقدية، بمجرد ظهور الأطروحات التقويضية ابتداء بأواخر الستينيات "ولنلاحظ أن أبا ديب يكتب في منتصف الثمانينات!".
أما التماسك النظري، فإن دعوى العلموية، أو العلمية، لا تلبث ان تتداعى بالنظر الى كون أبي ديب من أكثر النقاد المعروفين خطابية وتعلقاً بالشعارات والمبالغة الأيديولوجية في حديثه عن نفسه ومنهجه. ففي مقابلة أجريت معه في البحرين ونشرتها مجلة ثقافات البحرينية في عددها الثالث ذكر أبوديب بكثير من الثقة بالنفس أنه استوعب مختلف العلوم المعاصرة في الغرب "من اللسانيات الى علم النفس اللغوي الى علم الانسان (الانثروبولوجيا) الى الاقتصاد وعلم الاجتماع الى الفلسفة ثم الى النقد الثقافي والأدبي قديمه وحديثه.." ليشير بعد ذلك الى اعتقاده "أن ما كنت أسعى اليه بوله مشبوب قد تحقق الى حد لا بأس به، وفيما بعد أثبت أنه (دونما مبالغة في التواضع، وأنا لا أحب فضيلة التواضع في هذه الأمور ولا أدعي أنني أمتلكها اطلاقا) كان مفتاحاً على مستويات كثيرة، في الثقافة العربية، والدراسات الأخرى أيضا. وكان جزءاً منه السعي الى موضعة التراث النقدي العربي في سياق عالمي.."(3).
كلنا نتمنى لو أن أبا ديب قد وفق فعلاً في موضعة التراث النقدي العربي عالمياً، لكن الشواهد بكل أسف تقول غير ذلك، فالذي يعرف موروثنا النقدي في الغرب هم المستعربون أو المستشرقون، أما النتاج النقدي المعاصر فما زال بعيداً عن العالمية المنشودة، أو المتحققة حسب دعوى الناقد العربي. ما تحقق هو الاستهلاك الواسع وغير الناقد غالباً للمناهج والنظريات والمفاهيم، ومن ذلك مفهوم العلم الذي يوظفه أبو ديب كما يوظفه غيره لوصف النقد الأدبي دونما وعي كاف، أولاً، بما ينطوي عليه ذلك المفهوم من مضمون ابستيمولوجي متحيز لسياق ثقافي خاص، كما تبين قبل قليل في كلام المفكرين الغربيين أنفسهم، ودون ما يكفي من التروي، ثانياً، لإدراك أن علمنة، أو تحويل النقد الى علم، مسعى مضت القرون ولم يتحقق، كما يتضح من بعض أعمال كبار النقاد في القرن العشرين، وان الأفضل هو النظر الى هذا الجانب بوصفه نسبيا في نهاية المطاف.
في كتابه الشهير (تشريح النقد)، يدعو نروثروب فراي، وهو قامة كبيرة في النقد الأدبي في القرن العشرين، كما هو معروف، الى مواصلة السعي نحو علمنة النقد، السعي الذي يقول ان أرسطو كان أول المناضلين في سبيله. لكن فراي وهو يقول ذلك يقدم تحفظاته وحذره إذ يذكِّر بأن العلم الذي يشير اليه ليس ذلك الذي شاع فهمه في القرن التاسع عشر:"ماذا لو كان النقد علماً الى جانب كونه فناً؟ بالتأكيد ليس العلم، النقي، أو الدقيق، ولكن هذه عبارات تعود الى رؤية في علم الكون شاعت في القرن التاسع عشر ثم انتهت".
في ثقافتنا العربية لم تنته تلك الرؤية للعلم النقي الدقيق والموضوعي. بل ان من النقاد والباحثين من لا يتردد في الاعلان عن تحققه كما رأينا لدى جابر عصفور وكمال أبوديب، وكما نرى، في مثال آخر، لدى محمود الربيعي الذي يقول في كتاب له بعنوان في نقد الشعر (1968)، داعياً الى النقد الشكلاني الذي شاع لدى الروس ثم لدى الأمريكيين: إن ممارسة ذلك النقد أدى "إلى نتائج طيبة في التحليل الفني.. فملك الناقد زمام موقفه وطور أدواته الفنية الخالصة واقترب بالفرع الذي يهتم به خطوات من مسيرة العلم، في عصر العلم، حين عمل بأدوات موضوعية خالصة.."(4) وبالطبع فإنه ينبغي التذكير هنا بأن الشكلانية سعت الى العلمية المشار اليها، لاسيما في طورها الروسي والأوروبي الشرقي، لكنها ما لبثت ان توارى مسعاها تحت وطأة كشوفات فكرية جديدة ولم يبق من مثل ذلك السعي إلا ما تحتفظ به متاحف العالم الثالث.
غير ان النقاد العرب المحدثين ليسوا جميعاً من السائرين في هذا الركب المؤمن بالعلم والقائل بغياب الاختلاف الثقافي والخصوصيات الحضارية. نجد منهم من تبنى مواقف مخالفة وسعى الى الافادة من المنجز النقدي والفكري الغربي ثم توقف عند بعض الجوانب الإشكالية لذلك فانتقد المبالغة في تبني ذلك المنجز ودعا الى ثني العنان نحو مزيد من الأصالة الفكرية. فهذا احسان عباس، الذي تبنى في مرحلة من مراحل تطوره بعض أسس النقد الأمريكي الجديد والنقد النفسي لدى فرويد والأسطوري لدى كارل يونغ، يعود لينتقد ما يسميه "الاقتراض الشديد" من الغرب على النحو الذي "يجعل الدارس يقع في وهم فكري مزدوج: يتكشف الأول في إغفال التاريخ الثقافي العربي، ويتجلى الوهم الثاني في جهل التاريخ الكوني للآخر..." وعلى هذا الأساس يتضح ان "الاقتراض الشديد" يقع في وهم تماثل التاريخ الكوني الثقافي، وينتقل منه الى وهم آخر يعتقد بكونية المعايير النقدية الأدبية، وهو افتراض فاسد يؤدي الى التبعية الثقافية أو يفضي الى المحاكاة الصماء، في أحسن الأحوال(5). ومثل ذلك نجده لدى ناقد من الجيل نفسه هو شكري عياد في أعمال كثيرة منها المذاهب النقدية عند العرب والغربيين، وموقفه من مناهج شاعت عربيا كالبنيوية، حيث يتحدث في مقالة معروفة بعنوان "موقف من البنيوية" عن تناقضات ذلك المنهج رابطاً إياها بتناقضات الحضارة الغربية نفسها. وكان ذلك الموقف هو ما دفع بعياد طوال تاريخه الحافل الى العمل باتجاه ما أسماه "التأصيل" النقدي الذي يعني تبيئة النظريات والمفاهيم الغربية في الثقافة العربية بعد غربلتها.
ونجد بالاضافة الى عباس وعياد نقاداً من جيل أصغر سناً ينطلقون من منطلقات نقدية مشابهة مثل: نجيب العوفي ومحمد برادة وسيد البحراوي وفريال غزول ويمنى العيد، على تفاوت بين هولاء وغيرهم في درجة القرب أو البعد عن الأطروحة والتفصيل فيها والاهتمام بها.
أخيراً، ما أرجو أن يكون قد اتضح من هذه الملاحظات هو، أولاً، أن ثمة قضية كبيرة وحيوية مطروحة وتتباين الآراء حولها، هي المثاقفة النقدية مع الغرب، وثانياً، أن تلك القضية ليست بالسهولة التي يراها بها البعض بل إن جهداً نقدياً كبيراً بذل ويبذل في أنحاء كثيرة من العالم لوضع تصور حولها بوصفها اشكالية ثقافية كبرى تستحق البحث والتحليل.
ولو استطاع هذا العرض ان يثبت ان هناك قضية أصلا لكان ذلك بحد ذاته انجازاً يعتد به، لأن مشكلة المشاكل في التفكير النقدي العربي، في تقديري، هي تجاهل وجود تلك المشكلة أصلا، مما يثير سؤالا حول مشروعية وصف ذلك التفكير بأنه "نقدي" في ظل ما تبين من طروحات قادمة من مختلف أنحاء العالم. فما يزال هناك من يرى أنه ليس أمام النقد العربي الحديث من مشكلات سوى الانطلاق للإسهام في "إغناء الفكر العالمي"، حسب تعبير أحد النقاد المؤثرين على الساحة العربية، بتبني مناهج مثل البنيوية وغيرها(6).
هوامش
(*) رأيت من الأنسب ضغط حلقات هذه الدراسة لتكون ثلاثاً بدلاً من أربع كما سبق أن أشير إليه في الحلقات الماضية، وأريد أن أنبه القارئ الكريم إلى أن طريقة نشر الحلقات الماضية في الجريدة لم تراع مع الأسف طريقة الصف كما جاءت في النص المرسل للنشر، فلم تبرز الاقتباسات والعناوين، فجاءت مدمجة لا يستطيع القارئ تميز بعضها عن بعض.
(1) "خصوصية النقد المعاصر"، جريدة "الحياة" (الاثنين 6 يوليو 1998،ع 12907) ص13.
(2) تجديد الفكر العربي (بيروت: دار الشروق، ط2، 1973) ص56، أنظر تحليل أسامة الموسى لتجربة زكي نجيب محمود في كتابه المفارقات المنهجية في فكر زكي نجيب محمود (الكويت: جامعة الكويت، 1997).
(3) ثقافات ع3، 2003 (البحرين: كلية الآداب، جامعة البحرين).
(4) في نقد الشعر (القاهرة: دار المعارف بمصر، ط4، 1977) ص159.
(5) الكرمل ع 51 (ربيع 1997) ص101.
(6) كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوبة في الشعر (بيروت: دار العلم للملايين، 1981) ص7.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved