Culture Magazine Monday  09/07/2007 G Issue 206
فضاءات
الأثنين 24 ,جمادى الثانية 1428   العدد  206
 

التعددية والمواطنة
فاضل الربيعي

 

 

في وقتٍ ما من التاريخ؛ أحبط نظام العلاقات السائد في المجتمع، فرصة الفرد ورغبته وتطلعه لتحقيق ذاته، وأعاقه عن العمل من أجل رفعة وسمو مجتمعه وتطوره، ثم منعه بشكل مطرّد من أي إمكانية لبلوغ أهدافه، أو الوصول إلى إنجاز تحوّله النهائي بوصفه ذاتاً حرّة انخرطت في مهمة اجتماعية. وفي خاتمة المطاف سلب منه حريته، أو أرغمه على التنازل الكلي عنها. ولذا قام بنفسه باختراق نظام العلاقات السائدة. وآنئذٍ تفككت الروابط القديمة (الحقوقية) بين الأفراد، واضطرب نظام العلاقات برمته. كان التخلخل الناجم عن عدوان الجماعة على مبدأ المواطنة الأولى في المجتمع الطبيعي، هو الذي مكّن الفرد من التحوّل إلى متعدٍ ومتجاوز على حقوق أفراد آخرين، وربما على حقوق الجماعة نفسها. وأكثر من ذلك؛ هو الذي وفر له الفرصة والظروف لأن يكسب حصته من الحرية والثروة والسلطة والمعرفة على حساب أفراد آخرين وعلى حساب المجتمع. بكلام آخر؛ فإن الفرد الذي شعر آنذاك، بأن الجماعة التي تعاقد معها على تأسيس نظام رقابة وحماية للحريات الطبيعية، قد تخلّت عن التزاماتها معه وأنها خلخلت نظام المساواة، وحرمته من الحصول على نصيبه من الحرية؛ هو الذي قام بنفسه وبكل الوسائل المتاحة، بانتزاع الحق الفطري الذي تعرض لعدوان الجماعة.

إن الثورات والهيجانات الجماعية كما يعلمنا التاريخ، لا تنطلق من دون أسباب وُموجبات عميقة، وأن التأمل في الأسباب والبواعث الحقيقية لها، يمكن أن يقودنا إلى النقطة المنسَّية من السجل التاريخي، فالجماعة الأولى حرمت الفرد من حقه الذي تعاقد معها على صيانته واحترامه. ولذا وجد نفسه مضطراً إلى استخدام وسائل مختلفة من بينها العنف، أي ممارسة العدوان نفسه الذي مارسته الجماعة بحقه. لقد تبدى هذا الخرق المتبادل كخرق أخلاقي (وفي نظام الأعراف والتقاليد القديمة في مجتمعات القبائل مثلاً هو خرق أخلاقي بمعنى حقوقي) سوف يتسببّ لا في خلخلة البنى المجتمعية، وإنما كذلك في اضطراب المفاهيم الأساسية التي توافق عليها المجتمع. إن الحق في التعددية الثقافية والعرقية والدينية والسياسية في المجتمع أي مجتمع، سواء أكان بدائياً أم متحضّراّ أو مدنياً متقدّماً، ليس اختراعاً من أفراد طالبوا دون وجه حق بإقراره والاعتراف به، وهو- إلى هذا كله وبكل يقين- ليس نتاج مخيلتهم أو رغباتهم أو أفكارهم وعقائدهم، بل هو طبيعي مثله مثل الحرية والمساواة في المجتمع الطبيعي؛ فما من مجتمع إلا ويدرك أنه يعيش في ظل تعددّية ما فتئت تتخذ أشكالاً لا حصر لها. ومن النادر إن لم نقل من المحال في التاريخ، رؤية مجتمعات صافية عرقياً وثقافياً ودينياً وسياسياً. والتاريخ البشري يكاد لا يعرف مثل هذا المجتمع قط.

إن تعدي الجماعة على مبدأ المساواة داخلها، من خلال حرمان أفراد من حقوقهم وعدم الاعتراف بها، أو عبر اختلاق ذرائع لمصادرة هذا الحق بسبب اللون والعقيدة والدين والمذهب والإيديولوجية؛ هو الذي أدّى في حقب وفترات مختلفة من التاريخ إلى تفاقم الإحساس عند الأفراد، بأنهم (مواطنين) من درجة أدنى أو أنهم ينزلقون إلى مرتبة العبيد. وبسبب ذلك كله، فقد بدا الاعتراف بالتعددّية السياسية والثقافية في المجتمع الطبيعي، كما في المجتمع المعاصر، متلازماً مع الاعتراف بمواطنة المواطن (الفرد) وبكونه عضواً في جماعة تعاقدت على المساواة.وهذا هو مصدر الإشكالية الكبرى التي سعى فلاسفة وثوار ودعاة إصلاح- على مر التاريخ-إلى معالجتها عبر تقديم مقاربات فكرية وأخلاقية وسياسية.

يمكن تحديد أبرز مظهر من مظاهر الأزمة التي نشبت في مختلف المجتمعات على امتداد حقب التاريخ، بين المجتمع والدولة من جهة، وبين الأفراد ومجتمعهم من جهة أخرى، في تخلي الدولة عن تقديم أي التزام واضح وصريح وأخلاقي بمبدأ المواطنة، وفي تخلي المجتمع عن واجبه حيال أعضائه، وعجزه في الحفاظ على حقوقهم وصيانتها بوصفها الأساس الوحيد الضامن لوحدة الدولة والمجتمع. ليس الولاء الشكلي للدولة بدوافع الخوف أو الاحتراس من الخطر، هو ما يعزز التوافق بين الأفراد على هوية وطنية جامعة لهم، أو يضمن انسجامهم وترابطهم الاجتماعي؛ بل إن الولاء للقاعدة الحقوقية العريضة التي يستند إليها المجتمع (القوانين، الدين، الدساتير، الأخلاق، القيم الوطنية) هو الذي يوطد الانتماء إلى هوية وطنية واحدة. وكلما عزّزت الدولة من متانة وقوة هذه القاعدة، وعملت على تنمية وتطوير حضورها في حياة مواطنيها كمواد عضوية (حيّة) كلما أصبحت إمكانية تحقيق مبدأ المواطنة في الحياة اليومية وفي ميدان السياسة كذلك أكثر واقعية.

إن إشكالية المواطنة والتعددية في المجتمع العربي المعاصر، إشكالية موّلدة لسلسلة من المشكلات المتناهية الصغر، وقد أفضت في بعض الحالات إلى سيادة أنواع بدائية من المحاصصة بين ممثلي أقليات دينية وسياسية وعرقية، كان بعضها قد تمكن نتيجة ظروف مختلفة، وحروب أو نزاعات وصراعات عنيفة من فرض هيمنته على الدولة.ثم سرعان ما ُأرغم المجتمع برمته على القبول بها كأساس بديل للمواطنة.إن النموذج اللبناني قد يبدو في هذا الإطار أكثر (نموذجية) لجهة وضوحه المفرط، ذلك أن الحرب الأهلية 1975 انتهت إلى تكريس مفهوم التعددية السياسية بوصفه نمطاً من التقاسم والتحاصص بين ممثلي الطوائف.

وفي حالات أخرى غير نادرة في التاريخ الحديث، أدّى هذا الاختلال الخطير في البنى المجتمعية إلى ارتداد المجتمع نفسه إلى طور ما قبل مجتمعي (إلى قبائل متناحرة) وحتى إلى ارتداد الدولة نفسها إلى طور ما قبل دولة، سابق على وظيفتها التاريخية، والنموذج الصومالي في هذا السياق أكثر قدرة على اختزان دلالات صريحة عن نمط من تناهب للسلطة، توّزع بدائي لمصادر قوتها، جرى بين الجماعات السياسية التي ارتدّت بدورها إلى طور ما قبل السياسة، حيث تحوّلت بعض الأحزاب السياسية الصومالية حتى العلمانية منها، وبفعل انغماسها المتواصل في الحرب إلى قبائل.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244

Fadhilarubaiee@Hotmail.com دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة