Culture Magazine Monday  09/07/2007 G Issue 206
مداخلات
الأثنين 24 ,جمادى الثانية 1428   العدد  206
 
النقد الجمالي..والأحاديث..ورسالة الغفران
مراجعات لمآخذ اللهيب على كتاب: النقد العربي القديم..

 

 

تكملة لما نشر في المجلة الثقافية لجريدة الجزيرة في العدد (202 - تاريخ 25-5-1428هـ) حول مآخذ الكاتب أحمد اللهيب على كتاب (النقد العربي القديم.. نصوص في الاتجاه الإسلامي والخلقي) للدكتور وليد قصاب، أقف عند ثلاث قضايا أساسية للمراجعة، وهي:

1- النقد بين الاتجاه الجمالي.. والإسلامي والخلقي

يقول الكاتب في الفقرة الثانية من مراجعاته النقدية لآراء المؤلف في مقدمة الكتاب: (عبّر المؤلف عن آراء الاتجاه الفني بأنها الأحكام الخطيرة المغلوطة.. وأنها خرجت من عباءة استقراء ناقص لنصوص النقد العربي القديم. ص12 وما بعدها) وعقب الكاتب على ذلك قائلاً: (وأي أحكام خطيرة مغلوطة يعني المؤلف؟ أئن قالوا: إن النقد العربي القديم هو نقد جمالي كانوا بهذه الدرجة من القسوة والإقصاء؟...).

فما هي الأحكام التي وصفها المؤلف بالخطيرة؟ هل هي حقاً لأنهم قالوا: إن النقد العربي القديم هو نقد جمالي؟! ومن الذين قالوا ووصف الدكتور وليد قصاب أحكامهم بأنها خطيرة ومغلوطة؟

بالرجوع إلى الكتاب موضوع الحوار نجد المؤلف يقول قبل هذا في ص10: (وقد ضل قوم من الدارسين العرب ضلالاً بعيداً عندما صوروا النقد العربي القديم نقداً جمالياً، لا يهتم بغير الشكل الفني للأدب، ولا يعنى إلا بوجوه الجمال التي فيه، غير محتف ولا محتفل برسالته الاجتماعية أو الدينية أو آخذ ذلك في حسبانه وهو يقارب النص الأدبي أو يحكم عليه وعلى صاحبه). واستشهد المؤلف لكلامه هذا بأقوال كل من محمود الربيعي وعزالدين إسماعيل.

وقال في ص12: (وردد دارسون محدثون آخرون هذا الرأي)، وأحاله في الهامش إلى ماهر حسني وأحمد الشايب.

وقال المؤلف أيضاً: (وكان موقف بعض الدارسين - على خطئه - أكثر اعتدالاً؛ إذ لم ينكر وجود الاتجاه الديني والخلقي في النقد العربي القديم، ولكنه ربطه بطائفة من رجال الدين والأخلاق والحكام، ونفى أن يكون هذا الاتجاه موجوداً عند نقدة الأدب الخالص الذين يزنون الشعر بميزان الذهب الخالص)، وأحال هذا الرأي في الهامش إلى كتاب أسس النقد الأدبي عند العرب.

ومن هذا يتضح لنا أن القضية في (الأحكام النقدية الخطيرة المغلوطة) هي نفي وجود اتجاه إسلامي وخلقي عند نقاد الأدب العربي قديماً، واقتصارهم على النقد الجمالي الذي لا يهتم بغير الشكل الفني للأدب في رأي بعض النقاد المحدثين، أو أن الاتجاه الإسلامي والخلقي موجود عند طائفة من رجال الدين والأخلاق والحكام فحسب، في رأي بعض الدارسين. وليس كما أورد الكاتب أحمد اللهيب (الجزء الأول) من عبارة المؤلف، وهو لأنهم يقولون: إن النقد العربي القديم هو نقد جمالي.

فالخلاف على نفي وجود الاتجاه الإسلامي والخلقي كلياً أو جزئياً وإثباته، ولذلك جاء عنوان الكتاب ومضمونه لإثبات وجوده عند المتخصصين بالأدب والنقد وعند غيرهم، بما في ذلك تأصيله شرعياً من القرآن والسنة.

أما أن تكون النصوص المنقولة محل نظر في الدلالة على مراد المؤلف أو عدمها، فذلك لا يؤثر على الهدف الأساسي من تأليف الكتاب، وهنا تتكون ثلاثة اتجاهات في النقد:

1- اتجاه يعنى بالنقد الجمالي أو بالشكل فحسب.

2- اتجاه يعنى بالنقد الإسلامي والخلقي أو بالمضمون فحسب.

3- اتجاه يعنى بالجمع بين الاتجاه الجمالي وبين الاتجاه الإسلامي والخلقي أو بالشكل والمضمون.

فأين تكمن الخطورة على الناشئة وتضليلهم، إذا علمنا أن الدكتور وليد قصاب ممن يدعون إلى الاتجاه الثالث في النقد وهو الجمع بين الشكل والمضمون وإقامة توازن تام بينهما. يقول في ص17-18 من كتابه موضوع الحوار: (لا يشفع للأدب أن يكون باهر الصنعة متألق الأسلوب إذا ما روج لأفكار سقيمة أو قيم هابطة، أو معان سخيفة لا قيمة لها، أو أفكار لا تغذي روح الإنسان وعقله بالخير والنبل والصلاح. كما لا يشفع للأدب نبل أفكاره، وعظمة معانيه إذا لم يعرض ذلك في ثوب الفن الرفيع الذي لا يسمى الكلام أدباً إلا به).

2- النصوص الحديثية في الكتاب

ذكر الكاتب أحمد اللهيب أن المؤلف لم يسعَ في كتابه إلى التأكد من ضعف الأحاديث التي نقلها، وقال: (أوليس في هذا تضليل للناشئة ممن يقرؤون الكتاب؟) وغمز من قناة المؤلف قائلاً: (أم كان مصدرك في ذلك كتب الأدب والتراث غير المختصة في تخريج الأحاديث؟). واستشهد على ذلك بضعف حديث (من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة لم تقبل منه صلاة تلك الليلة) وهو مروي في مسند الشاميين 328، ومجمع الزوائد 7-122، ضعفه شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لمسند الإمام أحمد ج28 - ص357.

ومثله ثلاثة أحاديث أوردها المؤلف في أن (امرأ القيس حامل لواء الشعر في جهنم يوم القيامة) وذكر الكاتب اللهيب أن شعيب الأرنؤوط ضعفها في تحقيقه لمسند الإمام أحمد ج12-ص27

وهنا وقفات:

1- يشكر للكاتب حرصه على أن تكون الأحاديث معلومة الدرجة من حيث الصحة وعدمها، ولا شك في أن ذلك مما يقوي الكتاب ويجعل القارئ أكثر اطمئناناً.

2- أسلوب الكاتب في طرح مأخذه لم يسعفه؛ إذ عد ذلك تضليلاً من المؤلف للناشئة، وكأن الأمر مقصود في عدم تبيين درجة الأحاديث.

3- تجاهل الكاتب الإحالات الكثيرة في الأحاديث إلى مصادرها الحديثية من الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، عندما قال: (أم كان مصدرك في ذلك كتب الأدب والتراث...؟) مع أن المؤلف أحال حديث قرض الشعر بعد العشاء الآخرة إلى مسند الشاميين ومجمع الزوائد، وأحد الأحاديث الثلاثة في امرئ القيس أحاله إلى مسند الإمام أحمد، بينما أحال الحديثين الآخرين إلى شرح شواهد المغني مما يتطلب إحالتهما إلى مصدر حديثي متخصص، أما التحقيق في درجة الحديث فلا يطلب من كل مؤلف، وإن كان يحسن ويرغب إليه.

وبالرجوع إلى الأحاديث الخمسين تقريباً التي أثبتها المؤلف في كتابه نجدها محالة إلى ثلاثة أنواع من المصادر:

1- كتب الحديث المعروفة من الصحاح والسنن والمسانيد، وهذه تبرأ ذمة المؤلف بشأنها لأنه ليس متخصصاً في الحديث.

2- بعض كتب العلم المعروفة مثل زاد المعاد لابن قيم الجوزية، وطبقات الشافعية، وإحياء علوم الدين للغزالي وغيرها. وهذه الكتب تختلف في الوثوق بها من حيث رواية الأحاديث، فزاد المعاد في السيرة النبوية وابن القيم محقق يوثق به، لكن طبقات الشافعية كتاب تراجم لأعلام الفقهاء، وكتاب إحياء علوم الدين معروف بإيراد أحاديث ضعيفة، وموضوعة أحياناً، لأن مؤلفه غير متخصص بالحديث، وقد خرج المحدث زين الدين العراقي أحاديثه. فمثل هذه الكتب ليست مصادر حديثية موثوقة.

3- كتب اللغة والأدب مثل شرح شواهد المغني، والأغاني، وخزانة الأدب، والعقد الفريد وغيرها، وهذه مصادر غير مقبولة لإحالة الأحاديث إليها، ولا بد من تخريجها.

ولعل المؤلف يستدرك ذلك في الطبعة الثانية من الكتاب، ويعمل على تخريج الأحاديث كلها من حيث درجتها.

3- رسالة الغفران بين الإبداع والنقد

ذكر الكاتب أحمد اللهيب أن المؤلف اعتمد (في مواضع كثيرة على النقل من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وهي عمل إبداعي لا نقدي، انطلق مؤلفه من عالم تخييلي، وإلا كيف لنا أن نأخذ بأقواله في الأعشى وغيره من الشعراء الذين وضعهم في الجنة وهم ممن سبق العلم بهم: بأنهم من أهل النار؟).

وهنا وقفات مع رسالة الغفران:

1- رسالة الغفران أدب أم نقد، أم يجمع بين الأدب والنقد؟ فالكاتب أحمد اللهيب يقول عنها: (وهي عمل إبداعي لا نقدي).

وللفصل في ذلك لا بد من الرجوع إلى بعض من كتبوا عن رسالة الغفران.

فالدكتور محمد مندور يصف رسالة الغفران في كتابه (الميزان الجديد، ط1، 1988، تونس) تحت عنوان (رسالة الغفران العظيمة الخطر في أدبنا العربي) ص166-167 بأنها (حيلة أدبية تجمع بين حقائق الدار الآخرة وبين أدباء وكتاب كما يحدثنا عنهم التاريخ).

ونستنتج من كلام مندور أن رسالة الغفران ليست إبداعاً محضاً، ولم ينطلق مؤلفه من عالم تخييلي محض، وقوله (حيلة) فيه دلالة على توصل المعري إلى النقد بطريقة غير مباشرة، وإلا ما علاقة الأدباء والكتاب العرب كما يحدثنا عنهم التاريخ برسالة الغفران والمعري الشاعر؟

وينقل الدكتور محمد رجب البيومي في مقال له بعنوان (تأثير التوابع والزوابع في رسالة الغفران) نشر بمجلة الأزهر جمادى الأولى 1385هـ، ص170 - ينقل آراء عدد من النقاد مثل شوقي ضيف، وزكي مبارك، وأحمد أمين في العلاقة بين التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي الذي ألفها في النقد مستخدماً أسلوب الخيال، وبين رسالة الغفران للمعري، ثم يقول: (كما نعلم أن أبا العلاء ألف رسالته رداً على رسالة ابن الكارح) (في أكثر المصادر ابن القارح)، فهل الرد على رسالة معلومة في مسائل محددة يكون عالماً تخييلياً، أم أن أبا العلاء لجأ إلى هذا الأسلوب طلباً للتجديد في أسلوب النقد وهرباً من النقد المباشر (حيلة على رأي مندور).

ويقول الدكتور جابر قميحة في مقال له بعنوان (العناصر الفكرية والفنية في رسالة الغفران) نشر بمجلة دراسات عربية وإسلامية ج3، ص75، يقول: (ولكن الرسالة وإن كانت روح الشكوى والتبرم واضحة فيها، كانت معرضاً واسعاً لموضوعات شتى من أهمها:

1- أخبار كثير من الأدباء والشعراء.

2- أخبار شخصية وأحاديث عن النفس.

3- نقد بعض الشعراء وتسجيل مآخذه عليهم...) ص76-77.

ويقول جابر قميحة في ص97: (والخيال في رسالة الغفران خيال واقعي إن صح التعبير، أو هو بتعبير آخر: خيال تفسيري مقصوص الجناحين يأتي خادماً للمفاهيم اللغوية، والآراء الأدبية والنقدية والفلسفية التي كان أبو العلاء أحرص عليها من البناء القصصي والدرامي).

وتحدث أيضاً إحسان الملائكة عن رسالة الغفران في مقال له بعنوان (قديماً مزحوا.. لكنهم كانوا ينقدون) نشر في مجلة البيان الكويتية، في العدد 246، ص65، وقال: (لقد استفاد من هذه الطريقة فيلسوف شعرائنا الرجل الإنساني العظيم أبو العلاء المعري في رسالة الغفران، فاستطاع بالمزح اللاذع أن يحقق جميع ما سعى إليه من استثارة الهمم الخامدة..) ص66.

بهذا يتأكد أن رسالة الغفران كتاب نقدي بأسلوب أدبي اتخذ الخيال أداة، وأن ما أخذه الكاتب أحمد اللهيب على المؤلف وليد قصاب - في أنه استشهد بنصوص من كتاب أدبي لا نقدي لقضية نقدية - غير صحيح.

إشكاليات نصوص رسالة الغفران من حيث المضمون

إذا كانت النصوص التي نقلها المؤلف من رسالة الغفران تخدم قضية الكتاب في إثبات وجود اتجاه إسلامي وخلقي في النقد القديم عند العرب، فهل نستطيع أن نسلم بصلاحية تلك النصوص كلها للتداول على علاتها التي وقف عندها عدد من الدارسين (د. جابر قميحة في مقاله المذكور سابقاً: العناصر الفكرية والفنية في رسالة الغفران) مثلاً؟

فالنص الذي أشار إليه الكاتب أحمد اللهيب في دخول الأعشى إلى الجنة وما دار بينه وبين علي رضي الله عنه من حوار وما دار بين علي رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من حوار أيضاً، يجعلنا وجهاً لوجه مع الحديث النبوي (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهو حديث معروف. وهنا تأتي قضية أشد خطراً من إثبات اتجاه نقدي أو نفيه، وهي الوقوع في مخالفة شرعية معلومة من الدين بالضرورة وهي: الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا يجوز رواية مثل هذا النص إلا لبيان كذبه، والغاية لا تبرر الوسيلة في هذا الموضع!!

لذلك يتأكد على المؤلف د. وليد قصاب أن يراجع النصوص المنقولة من رسالة الغفران ويحذف أمثال هذه النصوص.

وفي الختام: أرجو أن أكون أسهمت بعض الشيء في إيضاح عدد من الأمور التي عدها الكاتب الأخ أحمد اللهيب مآخذ في كتاب (النقد العربي القديم.. نصوص في الاتجاه الإسلامي والخلقي) للأخ الدكتور وليد قصاب، وأن يكون هذا التعقيب على ما كتبه الأخ اللهيب نقطة تواصل معه وتعارف لا تقاطع وتناكر، وأن يكون هدفنا جميعاً هو الوصول إلى الحق لا الانتصار للرأي فحسب، والله الموفق.

شمس الدين درمش- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة