Culture Magazine Monday  09/07/2007 G Issue 206
نصوص
الأثنين 24 ,جمادى الثانية 1428   العدد  206
 
إنها لعبة القدر
وسيلة محمود الحلبي

 

 

حركتُ يدي أود أن أمنعه، بقيت مرتبكة وحائرة، لم أحس بأي خوف تجاهه.. جلست على الكرسي الضخم في مكتبه، كانت يداه تعبثان (بالبايب) أحياناً وبنظارته أحياناً أخرى.

ومرات عديدة كان يرد على المكالمات الهاتفية التي كانت تأتي كتوارد الخواطر وقت الخلوة في منتصف الليل أو كان يتكلم مع أحدهم أو إحداهن.

شخصية قوية جداً كانت تجلس أمامي خلف المكتب.. كان جلداً صبوراً مبتسماً دائماً.. صوته هادئ، قسماته تتغلغل داخل النفس وترتكز في مراكز الإحساس وتدخل بسلاسة عجيبة إلى المشاعر، ذبذبات صوته كأنها أنغام أم كلثوم على شاطئ البحر الأحمر.

لا أنكر أبداً أنني مذ رأيته شعرت بإحساس غريب يدخل فؤادي.. يقرع على باب قلبي.. يدغدغ مشاعري ليستقر في كياني.. يتغلغل في ثنايا أوردتي يلئم جراحي.. ويفتح جراحاً أخرى بهدوء.

عانقت يداي يديه.. ذابتا معاً، انصهرتا، نسيت كل ما حولهما، ابتعدتا فجأة، بينما العينان لا تزالان تتعانقان في هدوء عجيب..

(هات عينيك تسرح في دنيتهم عنيّ

هات ايديك ترتاح بلمستهم ايديا)

شربنا القهوة سوياً.. بل شربت القهوة معه، وكنت ارشفها وكأنني أرشفه معها بكل اللذة وبكل الجوع وبكل العطش وشوق السنوات..

قابلته أكثر من مرة وفي كل مرة كانت مشاعري تزداد قوة باتجاهه.. كنت أشعر بأن قلبي سيخرج من صدري كلما سمعت صوته وعانقت عيناي عينيه.

اقتحمني بأسئلة: ماذا تعملين؟ وأين؟ ولماذا لا تقيمين هنا؟ وما رأيك بثلاثية نجيب محفوظ؟ وأغنية ألف ليلة وليلة؟ وشعر نزار قباني؟ وارجع إلي وعودت عيني على رؤياك؟

حدثني عن نفسه، وعن ابنته القريبة جداً إليه وعن أهله وابنته الصغرى.. وكلما استمعت إليه.. شددت إليه أكثر.. وتقربت منه أكثر..

كثيرون هم زواره.. كانوا بكل حب يكلمونه وبكل حب يستقبلهم.

نظرت إليه في زحمة عمله.. سرى خدر لذيذ أنعش فؤادي السقيم.. حمل البايب ولعب به بأصابعه.. ينكشه تارة ويفرغ بقايا التنباك تارة أخرى ويعبئه أخرى ويشعله.. ويشعل معه ناراً تؤجج قلبي مرة أخرى.

نظر إلي.. لماذا لا تبقين هنا؟ ابق من أجلي أرجوك.. تمتم بصمت: إنه القدر.

وبكل هدوء وسكينة واطمئنان تحدثنا في أكثر من موضوع ودخلنا في أكثر من حوار.

كان حواراً دافئاً ينبض بإحساس قوي وعنيف يهزني من الأعماق.. يخلع النظارة.. يفرك عينيه بيديه يضعها ثانية، يسرق النظر مرات عديدة وكأنه في كل مرة كان يقول: أحبك.. من أين جئت وأين كنت طوال هذه السنوات.

حدثني عن زوجته.. عن بناته.. عن أمه.. عن والده لم أنتبه كثيراً لحديثه.. كنت لا زلت مندهشة مأخوذة.. متسمرة.. كيف سلمت له قلبي وهذا الصوت والطلة الساحرة أين رأيت مثل هذا الوجه؟ وهذه الرجولة.. أين أجدها؟؟ لا أدري.. أسئلة كثيرة تراودني ولا أجد لها جواباً لا.. لا.. إنه غريب حقاً.. ليس له شبيه لم يساورني القلق ولا الشك في حديثه.. وكأنني منصاعة له، وكأن هناك مغناطيسا يجذبني إليه ولسماع المزيد من أحاديثه الشيقة.

كنت أستمتع بنيران صوته الجهوري.. كان شعورا لذيذا وخدرا لذيذا ينتابني ويدغدغ أوردتي.. وذاتي.. لدي شعور غريب تجاهه؟ إحساس لا يقاوم.. إنني التقيته قبل ذلك.. في زمن آخر.. غير هذا الزمن وفي عالم آخر.. غير هذا العالم.. ولكن أتساءل أين؟.. وكيف؟ ومتى؟ أجزم بأنني التقيته.. ربما.. هذا هو إحساسي.

عيناه في عيني.. تسرب إلى داخلي خوف من أن يخرج.. يترك مكتبه ولا أستطيع أن أبوح له بمكنون ذاتي.. أو أن أغادر ولا أراه ثانية.

كأنني كنت أنتظره كل هذا الوقت؟ وكل هذا العمر منذ رأت عيناي النور.. حتى اللحظة التي أجلس فيها أمامه احتسي قوته الساحرة.

كأنني كنت أحبه في زمن مضى.. وها هو الآن أمامي.. وأنا أمامه أتابع الوصل الذي انقطع.

أين رأيت هذا الوجه؟ والطلة الساحرة، والنور الذي أراه.. شد على يدي.. بل أخذ يدي بيديه بقوة غريبة، وجاذبية خارقة. كأنه انتشل قلبي من صدري، كأننا على موعد مع الحب الكبير الخارق، أخذني بلهفة كبيرة وغريبة على هذا الصدر الحنون، أنساني تعب الرحيل.. وآلام المرض.. وخفف عني كثيراً عبء التفكير والانتظار.

كان متلهفاً؟ كان كالسهم يطل.. وكالبرق يغيب؟ قال لي: غيرت حياتي.. كنت مشدوداً إليك منذ رأيت عينيك!!

لا أريدك أن تذهبي.. لا تغيبي.. اجلسي قليلاً قلبي عندك أمانة..

أسعدني هذا التصريح العلني وزغرد قلبي من الفرح، وبدأت أحلق مع دخان سيجارته.. وحلقت أكثر بأفكاري، وكانت عيناي تبرقان فرحاً وسعادة وخجلاً.. وتشكره بعنف وقوة.

قال: سأكلمك دائماً..

وستعيشين في مخيلتي..

وسأكون في أقرب فرصة عندك

شددت على يديه بقوة.. وشدد هو بقوة مماثلة

تعانقت الشفاه.. ارتجف القلبان المنصهران

تمايلت الأرواح مغردة.. مزغردة.. فرحة

تناسينا المكان والزمان.. ولم يبق سوى الحب

ودقات القلب..

لا أحد سوى نبض الإحساس المرهف

مشينا سوياً إلى البوابة.. كنت فخورة بأنه بجانبي

وكان منشرح الصدر سعيداً..

ركبنا معاً السيارة..

أمسكت بيده.. ارتجف فؤاده.. لا.. لا..

لا أريد أن أتوه أثناء القيادة..

(فالقيادة ذوق وأخلاق).

قبلت يده بحرارة ودفء غريب، امتلأ وجهي دماً، وبدأت قطرات الندى تتساقط من وجوهنا..

أين الطريق..

لا أعرف أنني غريبة عن الديار

تائهة..

لا أريد أن أصل

أريد أن أبقى معك؟ وأنا أيضاً أريدك لي وحدي وللأبد

والوقت كالسيف..

فدائماً لحظات السعادة مقيدة

ولكنني كنت ولا زلت على يقين أنني أحبه

ولا يمكن أن أنساه..

سألتمس له الأعذار..

ربما مشغول.. مسافر.. مهاجر

ولكنه حتماً سيعود

ربما أحبني فعلاً..

ربما كان صادقاً في عواطفه.. في إحساسه

ربما كان يحلم..

وكنت أحلم..

لا أدري..

ولكنها لعبة القدر!!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة