Culture Magazine Monday  09/07/2007 G Issue 206
سرد
الأثنين 24 ,جمادى الثانية 1428   العدد  206
 
أم الذيل
فوزية الشدادي الحربي

 

 

بدأ نور الصباح يداعب بهدوء أرجاء الدار الطينية، يتسلل بانسياب خلف الحصيرة المطوية في زاوية الفناء الترابي الذي تنتشر فيه سلال الخوص بعد ليلة نشيطة في إعدادها استعداداً (لخرف) التمر. نسمات الصباح الباردة الصامتة لا يخترق هيبتها سوى زقزقة العصافير المتطايرة في حديث ود مع رؤوس النخيل الشاهقة.

حصة تفتح الباب الخشبي بسرعتها المعتادة لتخدش بصريره آخر بقايا الليل، تسرع وصوت رجليها الملتصقتين في ثوبها (السموكة) الواسع تجعل كل من في الدار يشعر بالحيوية.

وبحركة سريعة تعدل من لف طرحتها على وجهها القمحي وتستعجل لحمل كومة الحطب بين كفيها الخشنتين، تخترق سكون الفناء ذاهبة للعنزة المختبئة بين أكوام الصوف المتراصة في حظيرة الغنم. وعلى (صاجها) المتأهبة دوما تنثر المقشوش تختلط رائحة القهوة برائحة الخبز الحار فيجتمع أهل الدار حولها يطعمون لذيذ صنعها. أبو سالم يسعل وهو يحتسي القهوة وأبناؤه يكملون خمولهم مستندين على فخذيه إلا ناصر الذي يلتوي بحضن والدته فهو الصغير المدلل. يتواصل السعال والاستغفار والتهليل، وصوت الفناجيل وفحيح الخشب المشتعل.

أما حصة فهي مشغولة بإطعام صغارها وعيناها لا تبرحان فنجال أبي سالم حتى تسكب له بعجل القهوة الحارة. تبادره بسؤالها: (وش فيك يا أبو سالم غطست عن المنبه؟ ما صحاك؟)

يسعل وبدا صوته أكثر بحة من قبل (اليوم أكيد أن عايض ولد المقري هو اللي أذن صوته واطي ما ينسمع).

تبتسم حصة وهي تمد له فنجانه الساخن، أما هو فقد عاود الانشغال بتفحص عيني ناصر اللتين بدتا أكثر سوءاً؛ فعيناه يملؤهما الصديد والاحمرار، الذي يجعل الصغير يستمر في دعكهما. استشاط أبو سالم غضبا وبصوت مرتفع ومازالت عيناه على صغيره (ليش ما وديتيه لأم سند؟).

تمد يداها لتحضن صغيرها وتقربه منها أكثر لكن أم سند تقول:

فيه مرض (أم ذيل) ولازم نكويه، تحضن ناصر بشدة وتؤكد أنها لن تكرر غلطة أم غازي عندما فقدت أكبر أبنائها بسبب (مكواة) أم سند. التفتت إليه منبهةً أنه تأخر على جيرانه، فالشمس شارفت على الطلوع، يمسح يديه ببقايا السمن البري ونكهته الزفرة، ويحمل معه (الفاروع والمسحاة) فبئر أبي منيف تحتاج لعمل طويل، يغادر المشب ومن بعيد وهو يسعل:

(أم سالم الله الله برياسة الأحواض ما هو بس حوض الرشاد والحلبة)

تضحك...... (أبشر، أبشر)

تلملم بقايا أشيائها وتحمل صغارها حيث الطين والماء يتقافزون تحت أقدامها كالأرانب، وهي تعدل الماء على أحواض الزرع، مرة تنثني ومرة بأطراف أقدامها وهي تتأوه من ألم المخاض، تسحب أنفاسها وتتكئ على النخلة السكرية تراقب (جوزاء) من بعيد، تحمل التراب بثوبها الواسع وترمي به، ثوبها السمل لم يحتمل فانقطع، بكت بحرقة، تقترب منها أختها الكبرى (لولوه) مهونةً عليها. تربت على كتفها النحيل، وبلسانها الملتوي وصوتها الطفولي قالت: (لا تبكين يا دوذا يقول أبوي ابن ثعود خلاث ثادق المريكان). (ويبى يديب لنا الثوب المقثب) ضحكت حصة على صغيرتيها ودعتهما جميعا لدخول البيت وبصوتها الحاد قالت:

يلله..يلله.. جاكم حمار القايله. أسرع الصغار يتراكضون ويتزاحمون للالتصاق بحصه التي علا ضحكها وهي تلف شيلتها على أسنانها المتفرقة المصفرة. يتسلل الظلام خلسة للقرية وأقدام أبي سالم تشق هيبة البرد والجوع، يعود من البئر بيدين محمرتين ووجه شاحب وملابس عُفرت بتراب الأرض ورائحة انتظار، يرتمي على الحصيرة الملقاة على الأرض، ليُحدث أم سالم عن آخر أخبار حروب ابن سعود.. لكن حصة منذ الصباح وهي تشعر بمغص في أسفل بطنها - يكمل أبو سالم - بصوته المبحوح والله يقولون: (ابن سعود بعد موقعه الفيضه انفتحت له أبواب السماء وصار ما يدخل موقعة إلا ينتصر فيها). تهز رأسها بفتور وتغمض عينيها، فقد بدأت خطوط النار أسفل بطنها وظهرها تزداد، هزت حصة رأسها تُجاريه وتدعو بمزيد من التوفيق لابن سعود، شعر بفتور حديثها ولم يشعر بالتوائها ونزف الوجع في ملامحها.

صباح اليونم التالي لم يكن عادياً، فهدوء الصباح بلونه البرتقالي الفاتر يحمل معه أخباراً مؤسفة، حصة تبدأ يومها كما هي دوما لكي صغيرها ناصر فقد القدرة على مشاهدة عيني والدته وإخوته، بكت الأم وتوسلت إلى أبي سالم ليوصي على سيارة متجهة للرياض لأن فيها طبيباً مصرياً (شاطر) كما يقول عنه النسوة. أطرق أبو سالم عاجزا عن فعل شيء فلا مال ولا سيارات متوافرة، وهو يعلم جيدا من أبي منيف أن السيارة الوحيدة المتوافرة هي سيارة المطوع (حمود) المتعطلة في منتصف الطريق الجبلي قبل ثمانية أشهر.

حصة شعرت بحزنها الذي خالطته آلام المخاض، ازداد الألم واعتصر خاصرتها، تجمع رجليها بشدة، تضع رأسها على ركبتيها، صرخاتها اخترقت حدود البيت والمزرعة لتصل لجاراتها اللاتي اجتمعن يشددن لها الحبال ويجمعن لها أعواد الدارسين والكمون. يزداد الألم ويزداد الشد على يديها، تعض شفتيها حتى فر الدم منها. أم حصة بظهرها المنحني ملتحفة بعباءتها الملتفة على ساقيها النحيلتين تسرع لتوزيع الشعير والقمح وبصوت شجي خافت تمد يدها للسماء:

(ادعو لها يهون الله عليها). يطول ليل الانتظار وتزداد لحظات الخوف من الفراق تأكل قلب أبي سالم، تخرج عليه أم سند بملامحها الكئيبة وصوتها المرتجف (والله يا أبو سالم لازم تجيب لها الداية فضة من دخنة لعل الله يهون عليها)، يتوسل لأم سند أن تفعل كل ما تستطيع فالطريق لدخنة طويل ووعر، يهرول، وضع طرف ثوبه القديم بين أطراف أسنانه، قطع الطريق الزراعي، وصل بئر أبي منيف ولم يلتفت لذلك الصوت المنادي من بعيد، لكن الصوت يقترب، يعلو يقترب ويعلو، التفت أبو سالم وقلبه يسبقه وجِلاً وبصوت متقطع سمع من يقول: (أبو سالم أبشر بحكم ابن سعود)، توقف بلحظة فرحه حيث جاء صوت الزغاريد من بعيد مبشراً بمولد طفل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة