الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 9th August,2004 العدد : 71

الأثنين 23 ,جمادى الثانية 1425

مع شاعر النيل وحَسَّانه..!!
* عبدالله إبراهيم الجلهم رحمه الله
وشاعرنا في هذا الحديث عَلَم من أعلام الأدب والشعر، له في ميدان الطرافة باع، وفي مجال الفكاهة والسخرية ذراع، شاعر المراثي والمدح الحزين، وشاعر العربية الناطق بلسانها، وشاعر المجتمع والعمل الإنساني، إنه (حافظ إبراهيم فهمي)، رحمه الله. وُلد بمصر وعاش فيها، ولكن مؤرخي الأدب الحديث جهلوا تاريخ ولادته رغم حرصهم عليه، بل إن (حافظاً) نفسه يجهلها ولا يحفل بها.. غير أن بعض المؤرخين الذين أهمهم هذا التاريخ يحسبونه من مواليد السبعينيات من القرن التاسع عشر الميلادي ولا يقطعون بذلك.
والذي يهمنا أن (حافظاً) غفر الله له عُني بالشعر التقليدي وبالشعر الحديث معاً، فأجاد فيهما وأفصح. كان محباً للقراءة مؤثراً لها، يحفظ الكثير من عيون الشعر وقلائده، حتى استبان هذا المنهج البحثي في مواهبه وإنتاجه، فمنحاه قولاً عذباً يشفي الذهن الظامئ ويبل صداه ودروبه.
عاش (حافظ) كما يؤرخ عنه يتيماً بائساً منذ صغره وصباه، تلفحه في مجتمعه ومنه رياح اليتم والعوز، وتلفه لواهج البؤس والعدم، حتى جاءه الحنان والاحتضان على حين حاجة إليهما من قِبَل خاله، فامتدت يده إليه بالإشفاق والعون فترة من الزمن، وأقام (حافظ) في كنف خاله ما شاء الله له أن يقيم فارغ الإهاب، معطل الحركة والخطو، لا يستخدم آلة العيش من صحة وشباب، ولكنه أسرف في البطالة والفراغ لا يلوي على شيء يدخره لنفسه ومستقبل عيشه وحياته، حتى سئم (خاله المشفق) ما هو عليه من فراغ مزمن ومن تسكُّع مميت.. وأدرك (حافظ) من خاله هذا الشعور، وآذاه ما أحسَّ من تغيُّر في طباع خاله ومسلكه معه، فأعنته ذلك وأشجاه، وهو بطبعه مخلوق شجي بائس. وطالت الأيام بينه وبين خاله ومؤويه، وتباينت الصور والمواقف، فما وجد (حافظ) بين يديه عذراً يعتذر به إلى خاله، أو وعداً مقبولاً يتقدم به إليه سوى بيتين من الشعر اليائس يقطران دمعاً ودماً وتشاؤماً من الحياة والأحياء..!!
ثقلت عليك مؤونتي
إني أراها واهيه
فافرح فإني ذاهب
متوجه في داهيه
لم يتلقَّ (حافظ) في زمنه تعليماً مبرمجاً، وإنما كان تعليماً أولياً محدود المنهج والمستوى، مماثلاً لمن هم على شاكلته ومستواه الاجتماعي، ولذلك لم يحصل على شهادة دراسية تحله محلاً لائقاً بموهبته وملكاته، غير أنه رغم ذلك وبعده سعى وراء الحظ والعيش بأنفاس لاهثة، فطرق على وجل ووحل باب المحاماة، وأوغل فيه وتقلب في ميدانه، ولكنه في نهاية المطاف باء بالفشل وسوء الإياب، ثم أتيح له أن يلج المدرسة الحربية وأن يتخرج منها بعد حين ليعمل في الميدان العسكري، ولكنه لم يفلح في ميدانه؛ لأنه تمرَّد على أنظمتها ومراسمها ولم يكترث بها.. وظل دهراً طويلاً بلا عمل وبفاقة من العيش ومن هموم الحياة.. ولكنه رغم هذه القسوة كان يَغْشَ مجالس العلم والأدب ومنتدياتها آنذاك، وكان يستوطن المقاهي ومواطن الاجتماع يرسل الطرائف والفكاهات مع غيره من المجيدين وعشاق هذا اللون من القول، أولئك القابعون على قارعة الطريق ومنعطفات السبيل.. ولكن (حافظاً) وبعد بحث طويل ويأس مديد وجد ضالته في خاتمة المطاف، هناك حيث يستقر بناء ضخم ومورد عظيم تضاء جوانبه بالمعرفة والثقافة والعلوم من مصادره القديمة والجديدة، وجد ضالته في (دار الكتب العربية) العريقة؛ حيث ورد حياضها، وعُيِّن بعد ذلك موظفاً فيها.
وهناك في ذلك الصرح العتيد بالأدب والعلم والمعارف تبسمت لحافظ مظاهر الحياة، وفرح بالدنيا وغنى لها قصائد خالدةً تتدفق بالرُّوح والرَّوح وبالشعور الوطني والاجتماعي..
وشخصية (حافظ) كما عُهدت تتلون بلونين متباينين وسلوكين مختلفين، فهي في مظهرها الخارجي وفي لقاءاتها مع الناس في المجالس والنوادي مرحةٌ فرحةٌ، تطلق الفكاهة و(النكتة)، فتضحك مَن حولها وتؤنسه، ولكنها في قرارتها ودخيلتها بائسةٌ يائسةٌ حزينةٌ، ولذلك جاء التعليل يفسر إكثاره في شعره من الرثاء والشعر الحزين.. وهو معروف لدى عارفيه بنفوره من ذكر الموت وكرهه له، ويقول (بأن ذكر الوفيات ورؤية الأموات يُحملون إلى مثواهم الأخير يذكِّره بدنو أجله وحينه، وينغص عليه حياته وعيشه). ولذلك أجزل في شعره من المراثي، وأحلها من ديوانه كما يقول نصف صفحاته:
إذا تصفَّحتَ ديواني لتقرأني
وجدت شعر المراثي نصف ديواني
وشعر (حافظ) عفا الله عنه يعتبر سجلاً حافلاً وحافظاً للأحداث الوطنية والاجتماعية والسياسية لأمته وقومه، فكان يسجل شعراً كل حادث يطرأ أو مناسبة تحدث، فيكتبها بقطرات من دمه ومشاعره، فتأخذ طريقها للمتلقفين والمتلهفين لها، فتكون حديث المجالس وصيد الأفهام برهة من الزمان.
سجل حادثة (دنشواي) الشهيرة والأليمة، تلك التي حدثت في شهر يونيو من عام 1906م، حينما قام خمسة من الضباط الإنجليز المحتلين من معسكرهم بالقرب من تلك البلدة لصيد الحمام فأصابوا برصاصهم بعض الأهالي.. وهناك فزع الأهالي واصطدموا بالضباط الإنجليز، وأصيب بعضهم إصابات بالغة، فلم يكن من أولئك المستعمرين الطغاة إلا أن يقدموا أربعةً من الأهالي إلى ساحة الإعدام والموت، وعدداً آخر إلى غيابات السجون والتعذيب، وذلك على مرأى ومشهد حزين من الأهالي.. وقبل أن تجف الدماء والدموع سجل شعر (حافظ) تلك المذبحة القاسية، وأعلنها بين الناس؛ لتستيقظ غيرتهم، وليذكِّر فيها الإنجليز الطغاة بالود والولاء وبالأرض والسماء التي يرتعون بها ويعيشون عليها:
أيها القائمون بالأمر فينا
هل نسيتم ولاءنا والودادا
خفضوا جيشكم وناموا هنيئاً
وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا
وإذا أعوزتكم ذات طوق
بين تلك الربا فصيدوا العبادا
جاء جهَّالنا بأمر وجئتم
ضعف ضعفيه قسوةً واشتدادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
أقصاصاً أردتم أم كيادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
أنفوساً أصبتم أم جمادا
ليت شعري أتلك (محكمة التفتيش)
عادت أم عهد (نيرون) عادا
كيف يحلو من القوي التشفي
من ضعيف ألقى إليه القيادا
أكرمونا بأرضنا حيث كنتم
إنما يُكرِم الجواد الجوادا
وفي مجال الدفاع عن اللغة العربية، لغةً يفتخر بها العرب والمسلمون ويعتزون، تحفظ كتابهم وتشريعهم وتعبر عن علومهم وآدابهم.. تعالى الهمس واللمز حولها في أوساط رسمية وأدبية، وعلى مسمع ومشهد من (حافظ)، واشتد الهمس وعلا، واستفحل الخلاف وطغى، فريق يؤهلها لاستيعاب الآداب والمعارف والعلوم الحديثة، وفريق جحود يتهمها بالقصور والبلى وبالضيق عن استيعاب العلوم الحديثة.. ولكن حافظاً الأمين على لغته الودود لها يصرخ بوجوه أولئك المتهامسين والداعين لوأدها في ربيع حياتها بأن يعودوا إلى عقولهم ويدركوا خزائن لغتهم؛ فإنها الودود الولود تتجدد في كل عصر وزمان.. وهي التي وسعت كتاب الله (لفظاً وغايةً)، فليس لها اليوم أن تضيق عما دونه.. ثم يناشد (حافظ) معاشر الكتاب والعالمين أن يؤمنوا بلغتهم العربية، وأن يلجوا أبوابها الواسعة المفتوحة؛ ليجدوا فيها السعة والرحابة بكل جديد وعتيد، فاسمعه وهو يخاطب بلسانها قومه ويستثير ولاءهم لها وإخلاصهم لعرائسها وأمجادها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت فلما لم أجد لعرائسي
رجالاً وأكفاءً وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية
وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماءٍ لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي..؟!
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
ومنكم وإن عز الدواء أساتي
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟!
أرى كل يوم في الجرائد مزلقاً
من القبر يدنيني بغير أناة!!
وأسمع للكتاب في مصر ضجةً
فأعلم أن الصائحين نعاتي!!
أيهجرني قومي عفا الله عنهم
إلى لغة لم تتصل برواة؟!
ويمضي شاعرنا البليغ بهذا الهتاف الصادق إلى آخر الشوط الطويل، عله يشعل الهمم ويحرك العزائم العربية؛ لتؤمن بلسانها وتمجد تراثها وتأريخها وإنسانيتها بين شعوب الأرض وأممها..!!
ونعود مع حافظ إبراهيم والعود أحمد إلى شعره وشعوره، فنجد أنه قد طرق ضروب الشعر وأغراضه، فحالفته الموهبة في بعضها، وشط به المزار عن بعضها الآخر، ولكنه أجاد وأسهب في مجال الشعر الرثائي، وهو ضرب من ضروب المدح الحزين، ولا شك بأن نشأة (حافظ) وتربيته كان لهما تأثير بالغ في هذا المنحى الشعري؛ فقد تعرضت حياته كما أسلفت لألوان قاتمة من البؤس والقلق والضياع، أهَّلته لأن يجد في الرثاء النغمة التي تحيل إليها نفسه وتتدفق بها مشاعره وخياله، وكان من عيون مراثيه وأبعدها أنفاساً وأنيناً رثاؤه بالمغفور له الشيخ (محمد عبده)، تلك التي استهلتها براعته بقوله:
سلام على الإسلام بعد محمد
سلام على أيامه النضرات..!
لقد كنت أخشى عادي الموت قبله
فأصبحت أخشى أن تطول حياتي!
فوالهفي والقبر بيني وبينه
على نظرة من تلك النظرات!!
مددنا إلى الأعلام بعدك راحنا
فرُدَّت إلى أعطافنا صفرات!
لقد كنتَ فينا كوكباً في غياهب
ومعرفةً في أنفسٍ نكرات!!
وهكذا تسيل شاعرية (حافظ) في هذا اللون من القول؛ حيث تقلبت فيه أخيلته وخواطره، فغرست في تربته خمائل مجنحة من اللوحات الشعرية الجميلة التي خلدتها لغته الحبيبة عرائس مضيئةً للأجيال والأحفاد..!
وعندما يودِّع (حافظ) في رحلته الشعرية مواطن الرثاء والمدامع والأنين، يمضي نحو وقفات أخرى ينشدها في كثير من المناسبات الاجتماعية أو في الترجمة والتعبير عن رغائب المجتمع وشجونه، فهناك تتدفق شاعريته بالغيرة والحماس، وها هي شاعريته تسيل بسخاء وحرقة تروي قصة فتاة أو شبح إنسان ضائع تتململ من الآلام والأوجاع، تنتصب على قارعة الطريق، ليس لها مأوى، ولا تحلم بسائل عنها، ولا مرتقب لأوبتها، حُرمت نعمة الأب والأم فهامت على وجهها تذرع الأرصفة والمنعطفات، تفترش الثرى في نومها، وتشقى في صحوتها بالوحدة والوحشة.. لكن (حافظاً) يرعاها ويأخذ بيدها إلى دار الرعاية؛ لتعيش فيها. وفي ذلك الملجأ الإنساني يستزيد القائمين عليه من البر والإحسان والعمل الخيري الكريم، ويصف الحالة فيقول:
شبحاً أرى أم ذاك طيف
لا، بل فتاةً بالعراء حيالي
أمست بمدرجة الخطوب فما لها
راعٍ هناك وما لها من والي؟
وسألتها: من أنت؟ وهي كأنها
رسم على طلل من الأطلال
قد مات والدها وماتت أمها
ومضى الحِمام بعمها والخال!
قلت: انهضي، قالت: أينهض ميت
من قبره ويسير شنٌّ بالي!
فحملتُ هيكل عظمها وكأنني
حُمِّلْتُ حين حَمَلْتُ عود خلال
وطفقت أنتهب الخطى متيمِّماً
بالليل (دار رعاية الأطفال)
فإذا بأيدٍ طاهرات عُوِّدت
صنع الجميل تطوَّعت في الحال!
فتناولت بالرفق ما أنا حامل
كالأم تكلأ طفلها وتوالي
لله در الساهرين على الأولي
سهروا من الأوجاع والأوجال
القائمين بخير ما جاءت به
مدينة الأديان والأجيال!!
وفي مناسبة اجتماعية أخرى انبرت شاعرية (حافظ) الوقادة لنداء الخيرين لإنشاء ملجأ للأيتام، فناشد القادرين والموسرين بأن يدعموا هذا المشروع وأن يقدموا الخير والبذل له، فأخذ يهتف بهم:
يا رجال الجد هذا وقته
آن أن يعمل كلٌّ ما يرى!!
أنا لا أعذر منكم مَن ونى
وهو ذو مقدرة أو قصَّرا
فابدؤوا بالملجأ الحر الذي
جئتُ للأيدي له مستمطرا
واكفلوا الأيتام فيه واعلموا
أن كل الصيد في جوف الفرا
أيها الثري ألا تكفل مَن
بات محروماً يتيماً معسرا؟!
أنت ما يدريك لو أنبتَّه
ربما أطلعت بدراً نيِّرا!؟!
كم طوى البؤس نفوساً لو رَعَت
منبتاً خصباً لكانت جوهرا
كم قضى العدم على موهبة
فتوارت تحت أطباق الثرى!!
وهكذا تمضي دفقات (حافظ) تعطر الأسماع المصغية في كل مجتمع وأمة، تضمد الجراحات النازفة، وتخفف الأوجاع والآلام.. ليزدهر العطاء في كل قوم، وتعلو المحبة والرحمة على جبين الزمن مدى الحياة..!!
ومَن ابتغى الزيادة من معطيات (حافظ) فليستزدْ منه؛ فإنه جدير بالمصاحبة والمنادمة، وهو بين الأيدي وحول الأكف والأبصار..هناك فوق الرفوف المكدسة التي تزخر بها بطون المكتبات وصالات المناضد، وقديماً نصح أبو الطيب قومه فقال: (وخير جليس في الزمان كتاب).
ودعوةً صادقةً ملحة لذوي اليسار والإحسان إلى مؤازرة الأعمال الخيرية في كل مكان؛ فإنها ميدان سبق للجميل والعمل الصالح والجزاء المرتجى.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved