الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 9th August,2004 العدد : 71

الأثنين 23 ,جمادى الثانية 1425

قراءة في محنة الثقافة عند الشباب العربي
* وليد بن سليم السليم
في تقديمه لكتاب (خطاب إلى العقل العربي) يصف الدكتور محمد الرميحي المؤلف الدكتور فؤاد زكريا بأنه مثقف مستقل لكنه في نفس الوقت مثقف ملتزم مهتم بشؤون أمته وقضاياها منفتح ما أمكن على الجديد مرن في تعديل بعض الأفكار التي قد لا تكون نهائية فهو أي الدكتور فؤاد على حد وصفه للمثقف يقول: (إن المثقف الحقيقي لا يعرف الشبع ولا يتوقف عند لحظة معينة، لكي يقول لقد أخذت كفايتي) فالثقافة عند فؤاد زكريا هي الاستمرار في الفهم فليست أمانا واطمئنانا ويست دعة وهدوءا وإنما هي قلق وتوثب دائم ويقول في هذا السياق: (إن الكتاب العظيم والفن العظيم يكدران صفو حياتك ويقضيان على استقرارك ويجلبان لك القلق والانشغال، أما المثقف في نظر فؤاد زكريا فهو ليس (الأيدولوجي) الذي يقيس مظاهر الثقافة وتوجهاتها بمسطرة باردة من المعايير (الأيدولوجية) التي لا تعرف إلا منطلقا أحاديا يقسر الناس على السير فيه كأنهم جداول ماء متدفق في أنابيب من (الكونكريت) لا حول لها في توجهها ولا قوة!! المثقف هو رجل الاختيار ورسم البدائل لشعبه وأمته.
وفي كتابنا الآنف الذكر يناقش المؤلف في الفصل الأول قضية جد مهمة عنونها ب(محنة الثقافة عند الشباب العربي) حيث بدأ بالمقارنة بين جيلي الكبار والشباب فيذكر أن العالم كله يتحدث عن الفجوة بين الأجيال وعن إحساس الأجيال الجديدة بأن جيل الكبار عاجز عن فهمها والتجاوب معها فكل شيء أصبح من عصرنا هذا أسرع حتى الزمن أصبحت سرعته مخيفة، وصار يقطع في عشر سنوات ما كان يقطعه من قبل في قرن كامل، فإذا قدرنا الحد الفاصل بني جيلين بثلاثين عاما فإن هذه الأعوام الثلاثين تساوي بمقاييس السابقين علينا أكثر من قرنين من الزمان فيتساءل أفلا تكون الأجيال الجديدة إذن على حق حين تؤكد أنها تعيش في عصر يصعب على الكبار أن يستوعبوا أبعاده، فيقفوا عاجزين تماما أمام الإمكانات الهائلة التي يحملها في طياته؟
ويرى المؤلف أن الكبار الذين يمسكون بمقاليد الأمور لا يتيحون للأجيال الجديدة فرص المشاركة في توجيه المجتمع لا لأن هؤلاء الكبار سيئو النية أو حاسدون بل لأنهم بحكم موقعهم الزمني نفسه عاجزون عن التكيف بنجاح أما عالم المتغيرات المذهلة الذي ولد فيه شباب تشبعوا منذ حداثتهم بروحه وهكذا ينظر الشباب إلى الكبار نظرة يمتزج فيها التحدي بالإشفاق وتجمع بين الاعتزاز بالنفس ومحاولة التماس العذر للغير هذا هو الوضع في بلاد العالم السائرة في طريق التقدم أما في وطننا العربي فإن الأجيال الجديدة بدورها تمر بأزمة ولكنها (أزمة معكوسة) في هذه الأزمة يشعر الكبار بالرثاء لجيل الشباب وينعون عليهم هبوط مستواهم الفكري والثقافي وينظرون إليهم باستعلاء مغلف بإطار من العطف والتظاهر بالفهم والتفاهم وهذا كما يرى المؤلف الذي جعل ثقافة الأجيال الجديدة في الوطن العربي يشوبها الاضطراب والخلط وضيق الأفق وأنا هنا أؤيد الدكتور زكريا في تأكيده على أن هذه ظاهرة من أخطر الظواهر التي تهدد مستقبل العقل العربي بل ربما كانت أخطر من كثير من الأزمات الاجتماعية والفكرية والسياسية.
ويتساءل المؤلف عن طبيعة المصادر التي يستمد منها الشباب العربي المعاصر ثقافته فيجد أنها تندرج تحت ثلاثة محاور هي:
الثقافة العالمية، والثقافة المحلية العصرية، والثقافة القديمة ويبحث من خلال ذلك عن مدى استيعاب الشباب العربي لها وقدرته على الإفادة منها.
وفيما يتعلق بالثقافة العالمية يجد أنها تكتسب الآن أهمية متزايدة لأنها صنعت إنتاجاً فكرياً قادرا على أن يخاطب الإنسان أينما كان ويقول: صحيح أن قدراً كبيرا من هذه الثقافة غربي ولكن صحيح أيضاً أن التفوق الغربي الحالي إنما هو المرحلة الأخيرة في رحلة طويلة قطعها العقل البشري عبر التاريخ وأسهم فيها الشرق بدور أساسي مرتين على الأقل في العصور القديمة والوسطى.
ويجد المؤلف أن أبواب الاتصال المباشر بهذه الثقافة العالمية تكاد تكون مغلقة في وجه شبابنا العربي فالأجيال الجديدة حتى تلك التي نالت درجات جامعية لا تعرف من اللغات الأجنبية في معظم الأحوال إلا قدراً لا يتجاوز (محو الأمية) هذا الانعزال الثقافي جعل الشباب العربي يحاول كسر طوق العزلة عن طريق الإقبال بنهم على كل ما يقع تحت يديه من أعمال مترجمة وهذه الترجمات أصبحت الآن الزاد الثقافي الكبير لنسبة هائلة من الشباب الطموح إلى تثقيف نفسه ومع ذلك كما يقول المؤلف فإن هذا مصدر غير مضمون ولا مأمون إذ إن الترجمات أولا انتقائية لا تستطيع مهما اتسع نطاقها أن تستوعب من الإنتاج الثقافي العالمي إلا قدراً ضئيلاً وقد يكون هدف الاختيار الإثارة لا الجودة وهي فضلا عن ذلك ترجمات غير دقيقة في أحيان كثيرة بل إن بعضها يصل في ركاكته وابتعاده عن الأصل إلى حد يستحق معه أصحابه أن يقدموا للمحاكمة لو كانت هناك محاكم للجرائم الثقافية ويرى أن الاستغلال التجاري يلعب في هذا الصدد دوراً مهما إذ إن من الطبيعي في سوق متعطشة إلى الثقافة لا تجد أمامها نافذة للاتصال بالعالم إلا عن طريق الترجمة أن يعمد تجار الثقافة إلى التسرع في ترجمة أعمال المؤلفين المشهورين بطريقة تستهدف تلبية حاجة السوق على أي نحو بغض النظر عن مستوى الترجمة أو مدى مطابقتها لأبسط الشروط العلمية ورغم ذلك فإن الثقافة العالمية تحيط بنا من كل جانب وليس بالإمكان أن نعزل شبابنا عنها عزلا تاما حتى لو تعمدنا ذلك فهي على الأقل تفرض نفسها على شبابنا في أشكال فنية لا تحتاج إلى معرفة باللغات كالسينما والتلفاز وغيرها وهذه مؤثرات يستوعبها شبابنا بسهولة ولكن من المؤسف أنها لا تنقل إلينا دائما أفضل ما في الثقافة العالمية بل في كثير من الأحيان وسيلة لتقديم أكثر جوانب هذه الثقافة سطحية، ونتيجة لذلك يخرج المؤلف بنتيجة مؤلمة وهي أن شبابنا يحاكي فقط المظاهر الخارجية للثقافة العالمية دون تعمق في جوهرها الباطن ودون معرفة بالأصول التي أوصلت هذه الثقافة إلى وضعها الراهن وحتى القلة التي تسعى بجد إلى معايشة هذه الثقافة والتغلغل في أعماقها لا تنفذ إلى ما بعد السطح الخارجي بكثير لأنها لا تعرفها إلا من خلال مرآة مشوهة هي مرآة الترجمات المحرفة المتسرعة.
أما الثقافة المحلية كمصدر يمكن للشباب العربي أن يجد فيه زادا ثقافيا فينظر المؤلف إليها نظرة حادة إذ يقول إنها تسير نحو الانحدار المستمر حيث يرى أن الأزمة هنا ليست في الكتاب والمفكرين أنفسهم بقدر ما هي أزمة في المناخ الذي يكتبون فيه مما جعل بعضهم يؤثر التزام الصمت وبعضهم يكتب في موضوعات (محايدة) لا لون لها ولا طعم وآخرون ركبوا موجة التملق والسخرية ويشعر المؤلف بالأسى حين يقارن بين أوضاع الثقافة المحلية في الوطن العربي اليوم بما كانت عليه قبل جيل أو جيلين حيث كانت المساجلات والمناقشات والمعارك الفكرية والأدبية مفتوحة للجميع مهما اختلفت اتجاهاتهم في التفكير ويقول: لم نكن نسمع عن اتهامات يلقيها الكتاب بلا حساب على رؤوس بعضهم بعضا فلم نصادف كاتباً يصف الآخر بأنه عميل أو دخيل أو فاسق أو مارق أو مدسوس أو جاسوس رغم أن الجدال كان يحتدم وحرارة المناقشات كانت ترتفع في أحيان كثيرة إلى درجات عالية ولكن كان هناك اتفاق ضمني بين الجميع على أن من حق كل طرف أن يعبر عن رأيه كما يشاء وأن النقاش يدور بين أنداد، وهكذا أيضاً يجد المؤلف أن الشباب العربي لا يجد في مصادر الثقافة المحلية ما يشبع نهمه إلى المعرفة بل يرى أن الانطباع الوحيد الذي تتركه في نفسه هذه المصادر هي تلك الأمثلة السيئة للخصومة البغيضة التي يغيب عنها التنافس الشريف.
ويتحدث المؤلف عن المصدر الأخير الذي يمكن أن يستمد منه الشباب العربي زادهم العقلي هو الثقافة التقليدية أو التراثية ويقول: لقد تعمدت استخدام تعبير (الثقافة التراثية) بدلا من لفظ التراث لأن ما أقصده هنا أوسع نطاقا من التراث نفسه إذ يشتمل أيضا على الكتابات الحديثة التي تعرض التراث أو تدافع عنه أو تستلهم روحه، ويجد أن هذه الثقافة التقليدية لم تنجح حتى الآن في تقديم التراث بصورة فيها حيوية أو تجديد أو قدرة على التحدث بلغة العصر، ويعقد الدكتور زكريا مقارنة بين أنصار التراث في الربع الأخير من القرن العشرين ونظرائهم في قرن مضى فيجد نتيجة فريدة من نوعها لها كما يقول دلالات مفزعة ففي أواخر القرن التاسع عشر كان التراث يعرض ويناقش وينتقد بروح من الاستنارة وسعة الأفق ما يتجاوز روح العصر الحاضر بكثير ويبدو كما يرى المؤلف أن مضي الزمن لا يزيد أصحاب الثقافة التقليدية إلا إصرارا على الرجوع بها إلى الوراء ومن ثم تزداد الهوة بينهم وبين العصر اتساعا لكونهم يفتقرون إلى القدرة على مسايرة العصر أو مخاطبة العقول بلغة قريبة من فهمها وحسها وذوقها وهذه الثقافة التقليدية تدفع الشباب إلى اتخاذ موقفين: إما التأثر بهذه الثقافة في صورتها الجامدة غير المتطورة فيكون منقادا وخاضعا ومعطلا لملكات العقل والنقد والمنطق وهؤلاء قلة أما الأكثرية الغالبة من الشباب العربي فتجد نفسها عاجزة عن الاقناع بما يدعوهم إليه أنصار التراث المنعزلون عن واقع العصر الذين لا يجدون منهم إشباعاً لحاجاتهم الثقافية وليس هذا منهم عداء للتراث على الإطلاق وإنما عداء لطريقة معينة في تقديم التراث واختيار نماذجه الجديرة بالإحياء ذلك أن التراث كان حياة كاملة لشعوب سبقتنا، حياة كانت تموج بشتى التيارات المتصارعة والمتعارضة فالكتابات التي خلفها لنا أسلافنا تعبر عن خصوبة تلك الحياة الكاملة وتراثها ولكن هناك من ينتقون من تراث الحياة الكاملة ما يناسب أفكارهم الجامدة ويحجبون كل ما يتعارض معها ويقدمونه على أنه هو التراث بل إنهم ليعرضونه بطريقة أشد جمودا من تلك التي كتبه بها أصحابه أنفسهم لأنهم يلونون الماضي ويشكلونه وفق هواهم.
وهكذا أيضاً كما يقول المؤلف يغلق بابا آخر في وجه الشباب ما عدا قلة منهم لا لأن الشباب يرفضون هذه الثقافة ولا لأن هذا التراث غير قادر بطبيعته على أن يقدم إلى الشباب شيئا مفيدا بل لأن طريقة تقديمه إليهم في عصر التغيير السريع والتأثير المتبادل بين أجهزة الإعلام العالمية تعجز عن أن تجد لنفسها منفذا إلى عقولهم.
ويوجه أخيرا المؤلف اللوم الأكبر إلى المجتمعات العربية التي حرمت الشباب من مصادر الثقافة العميقة الجادة وقصرت في تزويد الشباب بوسائل الاتصال بالعالم الواسع وقصرت في تقييدها لحرية الفكر وقصرت في تقديم التراث بالصورة التي تسمح لهذه الأجيال بأن تتخذ منه منبعا من منابع ثقافتها.
ويتساءل المؤلف بقوله: فهل من المستغرب بعد هذا كله أن تجد الشباب الطموحين إلى الثقافة في الوطن العربي فرديين إلى أقصى حد؟ وأن تسود الريبة والتشكك والتهامات المتبادلة في علاقات بعضهم ببعض وبأجيال المثقفين الآخرين؟ وهل من المستغرب أن ينقسموا حتى على القضايا التي يتخذونها موضوعا لاهتماماتهم وأن يستحيل جمعهم تحت راية قضية واحدة؟ وهنا لا يقصد المؤلف صب عقول الشباب في قالب واحد حيث يقول إن النمطية شيء بغيض في ذاته ولكن التشتت الفكري والعجز عن الاهتداء إلى مصادر مقنعة وكافية للثقافة هو بدوره يدعو إلى الأسف البالغ ويدل على أن مجتمعاتنا العربية لا تولي التفكير في مستقبلها الذي سيسلم رايته هؤلاء الشباب ما يستحقه من اهتمام، ويبدو للمؤلف أخيراً أن جيل الكبار يستمتع بتفوقه الثقافي دون أن يشعر بأنه أو على الأقل أصحاب المسؤولية من أفراده يحبس الثقافة عن الأجيال الجديدة عمدا وقد يعطي هذا الاستمتاع لجيل الكبار إحساسا بالامتياز ولكن حين يكون الأمر متعلقا بمستقبل أمة فإن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر شاملة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved