الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 9th August,2004 العدد : 71

الأثنين 23 ,جمادى الثانية 1425

التوظيف الشعري «10»

* د. سلطان سعد القحطاني
للمكان في حياة الشاعر العربي منزلة لم يبلغها عند غيره من شعراء العالم، وقد يتداخل المكان مع الأغراض الأخرى، من داخل عمود القصيدة الواحدة، كالمدح والغزل والهجاء، وغير ذلك من الأغراض. ويكثر الشعر في عبقرية المكان لارتباطه بالمناسبة والمدح المباشر وتحية المكان للقادم إليه، بل تحويل المكان نفسه إلى عبقرية ترحب بالقادم (نيابة عن أهل المكان) ولعل من اكثر الشعراء العرب ارتباطاً بالمكان اهل الجزيرة العربية حتى ظهرت بعض الدراسات الجغرافية معتمدة على الشعر الجاهلي في تحقيق المكان، وشاهداً عليه، كشعر النابغة الذبياني وامرىء القيس ولبيد وزهير بن ابي سلمى وعنترة، وغيرهم من الشعراء الجاهليين، وهذا دليل على ارتباط الانسان بالطبيعة التي خلق منها، والعربي، بصفة خاصة، وهي طبيعة خرساء، كما قال عنها (كروتشيه) (والطبيعة خرساء ما لم ينطقها الإنسان) وتبقى صورة المكان كلما اقترب الإنسان منه أكثر فأكثر، ويظهر ذلك جلياً في المناطق ذات الجذب الاقتصادي المعيشي وما يسببه من ذكريات ذات أثر في النفس، يعقبها اعتزاز الشاعر بموطنه الاصلي. ونجد أن شعر الجزيرة العربية كاد ينقرض بعد الفتوحات الإسلامية وانتقال الدولة إلى الشام، ثم العراق، لكن الشاعر في الجزيرة العربية لم ينس المكان، حتى وان كان مصدر رزقه يأتيه من البلاد التي ذكرناها، فلم يمثل الفرزدق في هجائه لجرير بجبل من جبال الشام، بل مثل بقوة وكبرياء جبل ثهلان، في قوله:
(فادفع بكفك إن أردت بناءنا
ثهلان ذو الهضبات هل يتحلحل؟)
وغيره الكثير من شعراء الجزيرة العربية، ولا نود ان نستطرد في هذا المجال، فقد يطول بنا الحديث ونخرج عن هدف هذه الدراسة. ونجد الشعراء في هذا الزمان ما يزالون مرتبطين بالمكان، من خلال قصائدهم، وحتى الشباب منهم، وعبدالله العويد، احد الشباب، من الاحساء لا تخلو قصيدة من قصائده من ذكر الاحساء (هجر) فيقول في قصيدة يحيي بها الشاعر والاديب، صاحب الجائزة المعروفة (عبدالعزيز سعود أبابطين) خلال تكريمه في اثنينية النعيم:
تزف الشهم للأحساء الكويت
يودعها وفي الأصداء صوت
تقول له وداعاً يا نديمي
ومثلك في التسامر ما رأيت
إلى هجر سعى ما بين نخل
يهش لوفده في الدوح نبت
وإن كانت القصيدة ترحيبية بمقدم الضيف ومثقلة بالتكلف والنظم، فان الشاعر قد ربطها بالمكان، وجعله المضيف، نيابة عن اهله، وكان بامكان الشاعر ان يصرح بسرور أهل الدار بمقدم الضيف. وفي أحيان كثيرة يعبر الشاعر عن نفسه ومجتمعه بلسان المكان، في صورته الكلية، وأحياناً بالصورة الجزئية، متنقلاً بين عناصر البيئة، ثم يقوم بربطها في جسد الوطن، أو في جزء من الوطن، كعناصر يكمل بعضها البعض. ويختلف التعبير عن المكان من قطر إلى قطر آخر، في الوطن الواحد، فهناك من الشعراء من ارتبط بالأرض ارتباطاً كلياً، ونقل هذه الارض معه في كل مكان يذهب إليه، كملهم له في حله وترحاله، وخاصة تلك المناطق الثرية بطبيعتها فقد ظهر ذلك جلياً عند شعراء جازان والاحساء، مثل البهكلي والحازمي والنعمي، وجاسم الصحيح، وعبدالله العويد، الذي ذكرنا له قصيدة قبل قليل، وليست هذه القصيدة كل شعره في حبه وارتباطه بالأرض. يقول علي احمد النعمي، الذي اغرق في تفصيلات المكان بأجزائه:
جازان ما زالت على عهدها
والشاطىء الحالم لا يبرح
وضمد تهديك من حبها
اضمامة.. مع نسمة تسبح
فيذكر جازان، كجسم كامل للمنطقة، ويسترسل في تفاصيل اجزائها، مثل (قماح، وضمد..) وغيرها، من الجزر والقرى والمدن وهناك من الشعراء من نظر إلى المكان على انه الوطن الكريم، وما يحتويه من ثقافة عامة، وان لهذا الوطن حق على ابنائه، يرفعون من شأنه ويدافعون عنه بالعلم ويظهرون امام الآخرين بمظهر لائق، يعبر عن مكانته. فهذا ظافر القرني ينظر للوطن من زوايا متعددة، وهو يتساءل هل يرحل الوطن مع الشاعر؟ أو يبقى الشاعر في الوطن وهو راحل؟ فيقول:
بلاد النور ما برحت بقلبي
وصورتها الجميلة في عيوني
وما عسرت عسير لما رأينا
بها من كل زاهية الغصون
مكثت بمكة عشرين عاماً
هي البيضاء في اليوم الدكون
فالشاعر يحمل الوطن معه في كل مكان، وخاصة في رحلته إلى أمريكا، ففي كل قصيدة يوجه نداءه إلى الوطن، مثل (بلاد النور، وعسير، ومكة) ولم تكن غربة الشاعر بالجديدة في الأدب العربي، فالشاعر مبدع حساس، رقيق المشاعر، يتأثر بما حوله من الحوادث والنائبات، سواء حصلت له او لغيره من البشر، لكن اولويات الوطن تحتل مكاناً بارزاً عن غيرها. وإذا كان الشاعر يتغنى بالوطن ويشكو إليه، فإنما يشكو إلى أهله في هذه البقعة الواسعة من العالم، مبتدئاً بالقرية او الحارة أو المدينة او الإقليم، ومنتهياً بالعالم العربي الإسلامي كله، يتحسر على الماضي الجميل ويرثي الحاضر المحزن، ويتطلع إلى مستقبل زاهر فيعبر عن حبه للوطن.
(احتواك الفؤاد يا نبض روحي
يا حروفاً وبلسماً للجروح
أنت يا موطني ضياء عيوني
ومكان إشراقه للطموح
وعليه الوقار من مهبط الوحي
ومن نجد في عاليات السفوح)
فهل نقول ان هذا الشاعر وغيره يتغنون بأمجاد الوطن، او أنهم يلوذون بحماه بحثاً عن الذكريات الجميلة؟ كل هذا وارد، وهو تعبير صريح عن مكنون الشاعر لأهله وقومه من أبناء الوطن الواحد، الصغير منه والكبير، ومنها ما جسده في قوله مصرحاً في أول قصيدة في الديوان المذكور:
(لا يزهر العشق إلا حين اذكره
وحين أذكره بالعطر ينفحني
جذوره في فؤادي ترتوي بدمي
وتشرئب إذا ناديت يا وطني
وفوق هدبي تسامى صرحه ونما
وكحل الجفن بالآلاء والمنن)
وإذا كان الشريف قد عنى الوطن بمعناه الكبير، فإن بعض الشعراء قد تغنى بجزئياته الصغيرة، مثل القرية، عندما أحس انها أخذت في الأفول، فهاجر أهلها إلى المدن، أو زحفت عليها المدن، لتفتري عذريتها الجميلة، وتحولها إلى خليط من البشر، تختلف ثقافاتهم وأذواقهم، ويفقدونها ثقافتها العريقة، وحب ابنائها لها وتعاونهم في سبيل مساعدة بعضهم لبعض، يقول جاسم الصحيح:
(تهاجر من جذرها قريتي باتجاه المسافات
آه من غربتي آه!
فالآن تنفرط الارض من عقد وحدتها بالسماء
وتسقط من طهرها في قرار الذنوب
ارى كل شيء تهالك في الجري نحو المدينة..)
إن هذا الحب المشوب بالخوف، حب القرية والخوف عليها مما حصل لها من تغير في السلوك، وهروب الناس إلى المدن قد غير من سلوكياتهم المعتادة، وقد عبر عنها بانفراط عقد القرية، فأصبح أهلها بلا رابط، كما كانوا في السابق كما يذكر تقاليد تلك القرى في قصيدة اخرى، فيقول:
(من قرية سورتها التقاليد كي لا يمر الزمان
تبعثرت في ألف اسم لكي التقيك)
وهنا يبين مدى تعقيد تقاليد القرية واصالتها، فلا تعرف البنت لقاءات خارج البيت، كما هي حال المدن، فالقرية بيت واحد يعرف اهله كل واحد منهم، فلا يجرؤ احد على ارتكاب شيء دون علم من الآخرين. ويعتبر جاسم الصحيح من الشعراء الذين التصقوا بالأرض قلباً وقالباً، فلا تخلو قصيدة من قصائده في دواوينه الثلاثة، من ذكر نخلة، او جسر، او جدول ماء، او خضرة حقل..، وكل هذه العناصر موجودة في ارضه الاحساء، بمياهها ونخيلها وفنون اهلها المتعددة. وقد تتنوع المفارقات في حب الوطن والهامه للشعراء من ذكريات جميلة واحزان وحسرة على ما اصابه من التغيرات، والى ما ذهب من اهله ولم يعد، ولكن هناك قاسم مشترك بين الشعراء، وهو حب الوطن بالمعنى الكلي، بل ان منهم من عبر عن حب الوطن بأي طريقة يراها، هو دون غيره ولا يريد احداً يلومه على ذلك، فهذا تعبيره، وهو حر في ذلك:
(مكة في دمي، وطيبة قلبي
فالحقوا بي أو فاغرقوا في غباري
صنفوني، فالصقر وجه فريد
لن يكون الشاهين مثل الحباري
كل شيء في الحب يغدو جميلاً
اي فرق ما بين ماء ونار؟؟
والشاعر صالح سعيد الزهراني يكشف عن توجهه نحو الحب، فيقول هذا مذهبي في الحب، ومن شاء غير ذلك فليقل ما شاء. وفي قصيدة له اخرى يقول:
(وتسكنني دفئا.. وتهمي قصيدة
وتنثال في عيني أحلى من الوسن
إذا لم اغن الدار أغلى قصائدي
فقل لي اغني يا مدار العلا لمن؟
اسائل نفسي والهوى فيك لوعة
فقل لي: أنا أم أنت يا ملهمي الوطن)
والزهراني في شعره مسكون بالوطن، الكبير والصغير، فمن جبال السروات، الى صنعاء الى العراق، وكل القضايا العربية، حاله في ذلك حال كل شعراء الوطن العربي. لكن الشعراء في الجزيرة العربية يختلفون عن غيرهم من الشعراء، لسبب قد يكون الوحيد من نوعه، ذلك ان مواطن الصحراء يرتبط بها اكثر من غيره من الناس، في كل بقاع العالم، فهي متسعة موحشة في اجزاء وهادئة في اخرى، ويجذبه الحنين إليها كلما ابتعد عنها. فنجد قصائد مباشرة باسم الوطن، واخرى يذكر فيها الوطن، من خلال سياق القصيدة يقول عبدالله الوشمي:
(وحدها تعرف الجنة الخالدة
وإن الذي يعشق الارض لابد ان يكسر القاعدة
وإني إذا عدت يا وطني
اعود كما قطرة عائدة
ثم يقول في مكان آخر من الديوان:
(اعانق في أحرفي وطناً
فتزهر في شفتي السنبلة)
ثم يقول:
(غريب انا فاقد وجهه
إذا أنت يا وطني)
لم تكن داخله!!
ومن الشعراء من خاطب الوطن، من خلال مناسبة معينة او في سياق قصيدة، او تبريح عن خاطر في يوم من ايام الوطن الثكيرة، على ان هذه الوظيفة الشعرية مقصودة لذاتها، مثل الكثير من الشعر الموجه إلى الوطن او غير الوطن، فهي على أي حال موجهة للمكان. يقول عبدالله الحميد:
(وطني الحبيب...
بشراك بالعيد الخصيب..
بشراك بالامن المدثر بالندى
بشراك يا وطن الفدا...)
وهذه ليست من وجدانيات المكان، التي تبعث العبقرية من مكامنها في الأرض، وتعبر عما يعانيه الانسان في حبه الابدي للمكان، كملاذ وامن وطمأنينة في الوقت الذي يحتاج إليه، كغيره من الكائنات، فالطير يعود إلى عشه بعد عناء النهار، وكذلك الإنسان، في كبده الابدي. ومهما يكن من امر، فإن هذا تعبير عن الخواطر التي تجيش في نفس الشاعر، والاختلاف وارد في المواهب الشعرية، كقدرة الشاعر على التعبير. وإذا كانت الفكرة واحدة، والاختلاف في تناولها، بين فنان وفنان، فان القدرة على صياغتها تختلف باختلاف القدرة والثقافة، وقياس المعايير النقدية هو المسؤول عن تقييمها.
وبعد: هذه دراسة مكثفة لموضوع مهم من مواضيع الشعر، الذي تذبذب بين التيارات الادبية، ما بين الجديد والقديم، سواء في الشكل او في المضمون، وقد ركزت الدراسة على خمسة اغراض من اغراض الشعر، لم اتخذ فيها التقليد المتبع في الدراسات السابقة، بل حاولت ان اتتبع ما وظفه الشعراء في هذه الاغراض، من توظيف الشعر في اقتفاء السابقين والمجددين، وقد احتوت على ما وظفه الشعراء من احياء للمفردة التراثية، ولم يكن فيه من جديد، بل كان تقليداً للشعراء القدامى، وآخر لتوظيف الشعر في عملية الاصلاح الذي يطالب الشعراء به الدولة الحديثة في التعيلم والصحة وشؤون المرأة، من تعليم وعمل وحرية شخصية وللشكوى مكان في شعر السعوديين، منها الشكوى الفردية والجماعية، وما يخص الشاعر شخصياً وما يخص الانسان العربي، من ظلم واحتلال واهدار حقوق، وغيرها. وقد ركز بعض الشعراء على الفرص للحصول على المطالب (الشخصية والجماعية) لكن اغلبها كان جماعياً. وللمكان في الشعر السعودي اهمية كبيرة، وذلك ان المملكة بلد مترامي الاطراف والرحلة بين اجزائه مستمرة، لطلب العيش، لذلك ظهر الشوق الى المكان في وجدان القصيدة، ويكون اشد عندما يكون الشاعر في غربة خارج حدود الوطن، واحتوت الدراسة على اكثر من اربعين ديوان شعر، معظمهم من الشباب، تظهر قصائدهم من دواوينها لاول مرة في هذه الدراسة ولن تكون هذه الدراسة نهاية المطاف بالنسبة للشعر السعودي، فهناك دراسة نقدية مكملة لها في وقت لاحق.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved