الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th October,2006 العدد : 174

الأثنين 17 ,رمضان 1427

محمد الشنطي.. بحث دؤوب ومسيرة جادة
أمل زاهد
يأخذ بعض المشتغلين بالشأن الثقافي في المملكة العربية السعودية على الدكتور محمد الشنطي ميله إلى المهادنة وبعده عن المشاكسة وإيثاره في طرحه النقدي على التناول الهادئ البعيد عن الرشق أو التصويب الحاد على النقاط المتأججة والقضايا الساخنة، ويبدو في نظرهم وكأنه يؤثر السلامة وينأى بنفسه عن مواضع الجدل ومكامن الخصومة.
وفي الحقيقة أن هذه التهمة لابد أن تقودنا إلى مساءلة ثقافتنا السعودية وإدارة أصابع الاتهام نحوها، فهل تنفي ثقافتنا السعودية الآخر وترفض من لا يحمل منتجه الثقافي والنقدي دمغة الجنسية السعودية ؟ وهل نتعامل مع الإخوة المقيمين بذات الطريقة التي نتعامل معها مع المثقف السعودي ؟ وهل يواجه العربي المقيم في المملكة بالجحود والإنكار رغم عطاءاته المتميزة وجهوده الحثيثة وولائه البين لبلد احتضنه وعاش بين جنباته ؟ وهل هذا الجدار العازل الذي يقيمه النسق الثقافي السعودي حول ذاته هو الذي يسهم في إحكام دائرة انغلاقه داخل جدران الخصوصية ويحول بين المثقف العربي المقيم وبين اختراق هذا النسق ومحاولة تغييره، فعاش كثير من المثقفين العرب في المملكة ولم يتمكنوا من زحزحة ذلك النسق قيد أنملة، بل ربما أسهم ذلك النسق في تغيير المثقف العربي ذاته أكثر مما مكنه من التغيير وفك دوائر الخصوصية الثقافية السعودية !! وهل يدفع هذا التعامل المثقف العربي المقيم على الانكفاء على ذاته والتقوقع حول نفسه، وإيثار السلامة وبالتالي المهادنة ومحاولة البعد عن المواطن والمداخل التي قد تثير الرموز الثقافية عليه فيتوخى الحذر والحيطة، فيأخذ طرحه طابع الهدوء وسمة السكون والتصويب الهادئ الحذر ؟
وهنا لابد أن نتساءل عن طرح الشنطي وهل كان سيأخذ منحى آخر لو وجد في بيئة ثقافية تعترف بالآخر وتمنحه ذات الحقوق التي تمنحها لمواطنها ؟ في الحقيقة المتأمل في المفرز الثقافي والإنتاج النقدي الغزير للدكتور الشنطي، والمتكئ على ثقافة واسعة والمرتكز على رؤية شمولية متعددة الجوانب لا بد أن يلاحظ ذلك الاتساق بين شخصية الرجل وطرحه، والانسجام والتناغم بين شخصيته الهادئة المتزنة وبين أسلوبه في التناول النقدي، فهو يحكم بتؤدة ويقيم بروية وينقد باعتدال مترفعا عن التملق والتزلف والابتذال، نائيا عن شطط المشاكسة والمشاغبة، ومحاولة إثارة الغبار دون وجود ما يستدعي ذلك.
فسيرة هذا الناقد الجاد والباحث الدؤوب تحكي عن دماثة خلق شهد له بها كل من عرفه واحتك به، وتتحدث عن هدوء وروية ورزانة تشكل سمات وملامح شخصيته. وقد يختلف منتج الكاتب عن شخصيته، بل قد يأتي أحيانا معاكسا ومناقضا لشخصيته ليحقق له توازنا مفقودا أو ليتصالح به مع متناقضات داخل ذاته، ولكن شخصية الشنطي تأتي متوافقة مع منتجه ومتسقة مع طرحه، ولذلك هي تعبر عن توزان وتناغم ذاتي يجعل المتلقي يركن إلى ثبات واستقرار رؤية الشنطي كناقد وراصد ومتتبع ومتذوق للظاهرة الأدبية، فلا يخشى من صعود جامح يقوده إلى حواف التأرجح والتذبذب أو هبوط جارف تهتز بها قشرة الأرض التي يقف عليها.
قدم الشاب محمد الشنطي إلى الجزيرة العربية عام 1388 هجرية وعمل في التدريس في تبوك لمدة أربعة عشر عاما، وراح الشاب المسكون بالأدب والهاجس بحب الكلمات وعشق الحروف يثبت جذوره في أرض الارتحال ويرمي ببذوره المثمرة في ارض لم ترسم بعد ملامحها الثقافية وسماتها المعرفية، بينما كانت عيناه ترمقان ارض الوطن المسلوب وهما مسكونتان بنظرة حبلى بحلم العودة إلى تلك الأرض.. تتشوق إلى نفحة هواء رطبة تحملها ريح محملة بأريج بيارات البرتقال ورائحة كروم العنب وعبق حقول الزيتون، وكان لا بد للشجرة المثمرة من أن تمد فروعها كي تظلل الأرض التي سكنتها فتمنحها حبا وولاءً، هو جزء من ذلك الولاء الممتد والمتسع ليضم الوطن العربي برمته، فلا يقتصر على محدودية ارض الوطن المجروح المنتهك أو خصوصية (مصر) البلد العربي الذي تلقى قيه تعليمه الجامعي ثم دراساته العليا ونهل فيه من بحور الأدب ومنابع الثقافة وتفاعل مع مناخه الثقافي والبيئة المعرفية الثرية التي كانت إحدى سماته في الفترة التي تلقى فيها الشنطي تعلميه الجامعي. فكان اهتمامه بالمشهد الثقافي السعودي متناسلا من اهتمامه بالمشهد الثقافي العربي، ومعبرا عن إحساس عميق بالمسؤولية نحو بلد عربي سكنه وعاش بين ربوعه، لم تتحدد بعد ملامح مشهده الثقافي ولم تواكب مسيرته الأدبية رؤية نقدية قادرة على تجميع الخيوط ولملمة المتبعثر ومراقبة المسيرة ورصد سماتها ومعالمها، واستيعاب مفرداتها ودراسة مقولاتها، فحاول جاهدا تتبع هذه المسيرة وتأطير صورتها ومواكبة إفرازها الثقافي. وتكثف نشاطه النقدي وتفاعله مع المشهد الثقافي السعودي خاصة والعربي عامة بعد نيله الدكتوراه في النقد الأدبي من مصر في الثمانينات فعاد إلى حائل ليدرس في كلية المعلمين حوالي عقدين من الزمان، وليواصل رصده للمشهد الثقافي السعودي والحركة الأدبية ومساراتها وليكمل معالم صورة بدأ في رسم ملامحها منذ أن وطأت قدماه أرض الجزيرة. فغزر إنتاجه وتنوع ليشمل الكثير من الجوانب المتفرعة من اهتمامه بالأدب وولعه بالنقد واتجاهاته، فراح يهتم بكل ما يصدر في الساحة السعودية، فيستنطق النصوص ويرصد الظواهر ويوضح المفاهيم ويجلي غموض المصطلحات ويعيدها إلى أنساقها الثقافية وسياقاتها التاريخية، فرأى أن الجدل الذي دار حول مصطلح الحداثة كان جدلا انصب مجمله على الصياغة الصرفية للمصطلح ذاته واستخداماته في الفكر الأوربي، وتداوله لدى طائفة من النقاد والشعراء المفكرين في الشرق والغرب أو العالم العربي، ولم يغص في جوهر علاقته بالواقع وجدله معه وذلك هو السر في الخلط والاضطراب اللذين أديا إلى تبادل الاتهامات وتأجيج الصراعات، فقد تحرك النقاش متخذا من المرجعيات الفكرية في أطرها الثابتة أساسا له ومحركا لفرضياته.
أتى تبني الدكتور الشنطي المنهج الواقعي الفني مبنيا على إيمان عميق أن الظاهرة الأدبية والفنية جزء من ظاهرة أعم واشمل، وترتبط ارتباطا وثيقا بالأنساق الثقافية والاجتماعية السائدة وقت كتابة النص الأدبي، وأنها نتاج لإدراك جوهري للوضعية الإنسانية بأبعادها المختلفة ولذلك هو يرى وجوب تحقيق علاقة جدلية غنية بين البنية العميقة للنصوص ومرجعيتها في السياق الاجتماعي، كما آمن أن لكل نص خصوصيته الذاتية التي تتفاعل مع الواقع وتستثمره وتباغته لتصطاد منه ما تسكبه فيها، فتنشئ واقعا جديدا أكثر زخما وثراء يعكس رؤية الأديب وأشواقه وتوقه وتطلعاته، فالأدب كما يرى الشنطي يعيد إنتاج الواقع على نحو جديد وبارع.
لم يغفل الشنطي أيضاً الجانب النفسي للمبدع ولا اللغة التي يستخدمها ليودعها سره ويبث فيها لواعج نفسه كما نادى بعدم تقييد حرية المبدع. ومن ابرز ما يميز نقد الشنطي هو رفضه التام للنقد القائم على تأطير مذهبي أو بناء فكري مسبق وإصراره على ربط التنظير بالتطبيق. ولم ينغلق الشنطي على الاتجاه الذي تخيره وانتخبه الذي يمثل دون شك نظرته هو الذاتية للواقع ، ولكنه انفتح على باقي المناهج الأخرى فقرأها واستوعبها وإن حاول عرض النقاط التي يرى فيها مجانبتها الصواب وبعدها عن الحق من وجهة نظره، وهذا الانفتاح المرن على باقي المناهج النقدية والرغبة المتأججة في المعرفة جعلته مولعا بالاتجاه المعرفي في النقد والقائم على التعريف بالتيارات الحديثة في النقد، فالشنطي يساير الواقع ويعمق معرفته به دون تنكر للتراث الثقافي بل هو يجمع بين الانتماء العميق لهذا التراث مع انفتاح على المنتج الثقافي والنقدي الذي تطرحه الحضارة الغربية وانتقاء وانتخاب ما يتوافق منها مع أنساقنا الثقافية، وهو بذلك يحقق المعادلة الصعبة التي تخرجنا من أسر الانكفاء على الماضي دون إعراض عن التراث أو جحود لأصالته وجوهره وقيمه الرفيعة.


Amal_zahid@hotmail. Com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
حوار
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved