الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th October,2006 العدد : 174

الأثنين 17 ,رمضان 1427

التفكير المستقيم.. والتفكير الأعوج
عبدالله بن أحمد الشباط

التفكير خاصية ميز الله بها الإنسان دون سائر المخلوقات على وجه الأرض، وهو الإرهاصات التي تسبق القول.. أو الفعل.. وتعريفه محادثة المرء مع نفسه، لأن المرء إذا لم يجد من يحدثه تحادث مع نفسه. والتحدث مع الآخرين هو ما نسميه بالمخاطبة العلنية.
ومحادثة المرء مع نفسه ليست شاملة التفكير بأجمعه فقد تكون نوعاً من الوسواس ولكنها تظل ذلك الجزء الذي يهمنا في هذا الطرح المختصر الذي يحتمل الإشكالات اللغوية؛ لأن التفكير هو وليد تحيز نحو أمر ما يظل يشغل العقل ليخرج بقرار إما صائباً وإما خاطئاً قبل أن ينتقل إلى مرحلة التنفيذ.
والتفكير لا يقتصر على الأمور المهمة، بل قد يتدنى إلى التوافه من الأمور.
ففي الحالة الأولى قد تتقرر مصائر أمم.. وقد تشعل حروباً، وقد تكون الحياة أفضل نتيجة لذلك التفكير المستقيم، وفي الحالة الثانية يشغل الإنسان عقله بأتفه الأمور كالتفكير في إنسان يركض وهو أعرج أو شخص يستحم في البركة بكامل ملابسه وغير ذلك من أمور قد لا تعني الإنسان نفسه.
ومن الملاحظ أن الذي تتوارد على خاطره كثير من الأفكار في وقت واحد يكون عرضه لنسيان كثير منها. وقد أورد لنا القرآن الكريم مثلين مهمين لكل من التفكير المستقيم والتفكير الأعوج. ففي المثل الأول يورد لنا قصة ملكة سبأ التي فوجئت بكتاب موضوع على سريرها رغم متانة الحصون وكثرة الحراس، فلا شك أن الذي اخترق كل ذلك لديه معجزة تفوق قدرة البشر، ومع ذلك لم تستبد بالرأي بل جمعت بطانتها ووزراءها وأولي الرأي لديها وقالت لهم: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) النمل، فرد عليها رجال حكومتها بمنطق من يثق في قدراته الحربية: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} (33) سورة النمل، وعندما اطمأنت لهذا المنطق أرادت أن تحذرهم من نتائج الحروب، فقالت لهم: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (34) سورة النمل، ومع ذلك فإنها تريد أن تسبر غور مرسل هذا الكتاب الذي اعتبرت مجرد وصوله إليها نوعاً من المعجزات. ثم خرجت عليهم بفكرة جديدة وهي أن تبعث إليه هدية ثمينة من الذهب والفضة والجواهر {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (35) سورة النمل، وعندما أعيدت الهدية علمت أن مطلب سليمان عليه السلام ليس مطلباً دنيوياً، وإنما هو مطلب ديني وهو عبادة الله وحده، فعزمت أمرها على ملاقاة النبي والخضوع لمشيئته، ولم يزايلها هذا التفكير المستقيم حتى بعد أن وصلت إلى بلاط سليمان وسألها عن عرشها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} (42) سورة النمل، فلم تجزم بأنه عرشها أو أنه غيره؛ لأن بعد المسافة بين اليمن والشام يجعل من المستحيل وصول العرش قبلها. وما أدخل على العرش من الإضافات لم تغير كثيراً من معالمه حتى لا يشك الرائي له بأنه هو. فحسمت الحيرة وقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} فتخلصت بذلك من الحرج، إلا أن المعجزات النبوية لم تترك لها مجالاً للاختيار حينما وصلت إلى الصرح المصنوع من الزجاج ما دعاها إلى الكشف عن ساقيها ظناً أنه لجة من لجج البحر، فانكشف عجزها عن الإحاطة بتلك المعجزات النبوية، وقد هالها ما رأته من جنود سليمان من حيث الكثرة والتنوع، وما اجتمع له من الإنس والجن والوحش والطير والسباع والهوام ما زادها يقيناً بأن دعوة النبي سليمان عليه السلام دعوة إلى الهدى والحق، فانقادت هي وقومها لدعوة التوحيد ودخلوا في دين الله أفواجاً.. إن هذا النموذج في كل مرحلة من مراحل الرؤية فيه تعبير عن معنى التفكير المستقيم بصورة عملية، وهذا ما يدعي كل البشر بأن حياتهم وتصرفاتهم تسير على هديه، حتى إذا حان الجد وتكشفت النهايات اتضح الرابح من الخاسر.
وأسوأ مثال للتفكير الأعوج هو تلك اللوثة التي أصابت أبرهة الأشرم (ملك اليمن من قبل إمبراطور الحبشة) حين لاحظ كثرة الوافدين إلى اليمن في موسم الحج في طريقهم إلى مكة، وقد حُملت عيرهم بكثير من الخيرات والأرزاق والثمرات وما يحتفظ به كل شخص من المجوهرات. فلما سأل عن السر في ذلك قيل له إن في مكة المكرمة بيتاً يحجه العرب اسمه الكعبة، فقال لمحدثه: أوفي كل عام ترد هذه الخيرات إلى مكة؟ قيل له نعم.. ففكر بينه وبين نفسه.. لماذا لا تصب هذه النعم والأموال في اليمن؟ إنه قادر على صرف العرب من حجهم إلى مكة ليكون حجهم إلى اليمن ببناء كعبة أجمل وأكبر من كعبة الحجاز المبنية بالحجارة، فسوف يبني كعبته بالرخام ويطلي جدرانها بالذهب ويضع فيها عدداً من الشمعدانات الذهبية ويبلط ما حولها بالحجارة. ثم يرسل دعاته إلى الأمصار بالتهديد والوعيد لمن لا يحج إلى القليس.
وإذ إنه ليس لدى العربي أعز من عقيدته وشرفه، فقد استاءت بعض القبائل، خصوصاً قريش ومن والاها، فسار أحدهم إلى اليمن حتى وصل إلى القليس، وفي غفلة من عيون السدنة والحراس دخل فيها وقعد وتبرّز ثم خرج عائداً إلى بلاده. بلغ هذا الخبر أبرهة فطار صوابه، وأقسم ليغزون مكة ويهدم الكعبة حجراً حجراً. فجيش الجيوش الجرارة وعبأها بالكثير من السلاح والذخيرة وجعل في مقدمتها فيلاً عظيماً مهولاً، وسار على رأس ذلك الجيش يريد أرض الحجاز، فكان يقضي على كل مقاومة، يقتل الرجال ويستحيي النساء والأبناء ويسلب الأموال حتى وصل إلى الطائف ظناً منه أنها مكة، فقيل له إن مكة منها على مراحل، فسار إليها حتى أناخ ركابه في أحد أوديتها وأرسل إلى عظيم قريش ليتفاوض معه بشأن مقصده، فلما حضر عبدالمطلب إلى مجلس أبرهة قال له: ليست لي رغبة في حربكم وإنما قصدي هدم هذه الكعبة، فإن كففتم عن مقاومتي ضمنت لكم عدم تعرض جيوش لكم صغيركم وكبيركم. فقال له عبد المطلب: ليس في مقدورنا أن نحاربك. أما قصدك هدم الكعبة فأت وذاك، لأن للبيت رباً يحميه، فسأله الترجمان: هل لك من حاجة؟ فقال: لقد أخذ غلمانك لي مئتي ناقة. فقل لهم يردوها علي.
فقال أبرهة: لقد أكبرتك حين رأيتك. لكنك الآن سقطت في نظري. أنا آتٍ لهدم كعبتكم وأنت تطالب بمئتي ناقة.
فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل. أما البيت، فإن له رباً يحميه، ثم انصرف. وفي صباح اليوم التالي حرك أبرهة جيوشه نحو الكعبة وفي مقدمتها الفيل الذي رفض التحرك نحو الكعبة في قصة مشهورة سجلتها بكل تفاصيلها كتب التاريخ الإسلامي، ووثقها القرآن الكريم في سورة الفيل: بسم الله الرحمن الرحيم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) سورة الفيل. هكذا كانت نهاية الضالين الظالمين الذين أرادوا الاعتداء على حرم الله، فكان ذلك ميلاد نصر للحنيفية، اقترن بخير ميلاد انبثق عنه نور الهدى للبشرية جمعاء، هو نور ميلاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فإن التفكير الأعوج قد ينشأ من مضرة تخشى حدوثها أو منفعة يخشى فواتها، ولا شك أن التسرع في اتخاذ القرار غالباً ما يكون منشؤه التفكير الأعوج، أما التفكير السليم الذي ينشأ عن سلامة العقل وحسن التروي وعدم التسرع في اتخاذ القرار، فإن نتائجه تكون صالحة بإذن الله، وقد رأينا في المثالين السابقين كيف آل كل منحى بصاحبه. وماذا كانت نتائجه.. أسأل الله لي ولكم أن نكون من ذوي الفكر السليم، والسائرين على هديه المستقيم.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
حوار
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved