الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th October,2006 العدد : 174

الأثنين 17 ,رمضان 1427

ليو ستروس والكتابة المضطهدة (2)
سعد البازعي

كما ألمحت في المقالة الماضية، كانت الفترة التي عاشها المفكر الألماني اليهودي ليو ستروس وشهدت تشكل أطروحاته الأساسية واحدة من أكثر الفترات حرجاً في تاريخ أوروبا الحديث (18991973)، فقد كانت تلك فترة صعود النازية ثم اشتعال الحرب العالمية الثانية وما رافق ذلك كله من اضطهاد لليهود.
ولم يكن غريباً والحال كذلك أن يتحول ستروس إلى فيلسوف سياسي ربما أشهر فلاسفة السياسة في القرن العشرين وأن يتجه تفكيره في إحدى أطروحاته المركزية إلى الاضطهاد وأثره على الفكر والتعبير الكتابي. فأثر الاضطهاد هو موضوع كتابه (الاضطهاد وفن الكتابة) الذي أعرض لبعض ما جاء فيه هنا.
يتحدث ستروس عن الموضوع مباشرة في مقدمة كتابه وفي الفصل التالي، لكنه يواصل التفصيل فيه وتطبيقه في الفصول التالية التي يتناول فيها مفكرين يهود مثل: ابن ميمون وكوزاري (الخزري؟) وسبينوزا.
في المقدمة والفصل الذي يليها (الثاني) يتناول ستروس عدداً من المفكرين المسلمين واليهود تمهيداً لما سيتلو وذلك في إطار العلاقة المطروحة بين الاضطهاد والكتابة التي يقصد بها الكتابة الفلسفية والأدبية.
تقول الأطروحة إن الفلاسفة أو المفكرين (وقد لا يكون المفكر فيلسوفاً بالضرورة) اضطروا في فترات مختلفة من التاريخ إلى التعامل مع الضغوط المحيطة، سواء كانت سياسية أم دينية أم اجتماعية، إلى الكتابة بين السطور، كما يقال.
وإذا كانت هذه الأطروحة ليست مدهشة بحد ذاتها مع أن الفلسفة قليلاً ما تطرح في هذا الإطار، فإن المهم، أو المدهش، هو في التحليل المفصل الذي يقدمه ستروس لتلك الأطروحة، في الأمثلة وفي ربط الأطروحة بوقائع معينة.
ومن تلك الوقائع ما يتصل بحياته هو، إذ إن تناوله للموضوع يأتي، كما هو واضح، في سياق معاناة شخصية مع الاضطهاد بوصفه يهودياً.
غير أن ستروس يتجاوز هذا الجانب الشخصي إلى الفكر أو الثقافة الغربية عموماً ليتحدث عن فروقات حضارية انعكست على الفكر الفلسفي وكان من أجلى مظاهرها كيفية التعامل مع الاضطهاد.
بالإضافة إلى التفاصيل والوقائع هناك أيضاً الإطار النظري التأسيسي لما يقوله ستروس، فهو معني بوضع معالم علم جديد يسميه (علم اجتماع الفلسفة) الذي يؤكد اختلافه عما يعرف بعلم اجتماع المعرفة. والمعروف أن علم اجتماع المعرفة تأسس وتطور على يد عالمي الاجتماع ماكس فيبر وكارل مانهايم في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، وكان للأخير دور بارز في ذلك.
فستروس يأخذ على علم اجتماع المعرفة انشغاله بالربط بين الفكر والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المختلفة ناسياً العلاقة بين المفكرين أنفسهم، أو علاقة الفكر بالفكر بوصف ذلك مهم أيضاً لفهم تطور الفكر الفلسفي بشكل خاص.
وهو من هذا المنظور، أي منظور علم اجتماع الفلسفة، يطرح مسألة الاضطهاد وتأثيره على الكتابة. لكنه يضيف إلى علم اجتماع الفلسفة، بوصفه إطاراً بحثياً، إطاراً ثقافياً مهماً آخر يتمثل في الاختلاف بين الثقافة المسيحية وتلقيها للفلسفة اليونانية من ناحية، والثقافتين اليهودية والإسلامية بوصفهما مختلفتين في ذلك التلقي من ناحية أخرى.
ولأن الدخول في تفاصيل ذلك الاختلاف مما سيأخذنا بعيداً عن الموضوع الأساسي فسأكتفي بالإشارة إلى أن ستروس يرى أنه بينما استطاع المسيحيون أن يستقبلوا الفلسفة اليونانية دون عناء لأسباب تعود إلى طبيعة اللاهوت المسيحي، لم يستطع لا اليهود ولا المسلمون أن يمكنوا الفلسفة من الاستمرار نتيجة لوقوع الفكر تحت هيمنة التفسير والتشريع التلمودي لدى اليهود والفقهي لدى المسلمين. ومن هنا جاءت العلاقة بالاضطهاد.
في مقدمته للكتاب يطرح ستروس الاضطهاد بوصفه نتيجة التسلط السياسي ومن ظواهر الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية)، لكنه في الفصل الثاني يتوقف عند وجه آخر يبدو في كون الاضطهاد ناتجاً عن العقلية الشعبية التي تصدق ما هو سائد وما يردد، على أساس مقولات مثل (حبل الكذب قصير)، وأنه لا يصح إلا الصحيح. فهذه العقلية العامية البسيطة، مثل الأنظمة الشمولية، تفرض منطقها وشروطها التي لا يستطيع الخروج عليها أحد إلا بطرق ملتوية منها الكتابة بين الأسطر والإيماء أو التلميح دون تصريح. ذلك ما عرفه بقوة مفكرو المسلمين واليهود، حسب ستروس.
فالفارابي، مثلاً يطرح آراءً مختلفة، بل متناقضة، في كتب مثل (إحصاء العلوم) و(أفلاطون). فهو يتحدث عن السعادة الأخروية بوصفها مستقلة عن السعادة الدنيوية ومتفوقة عليها.
لكن هذه النظرة الدينية تتغير حين يتحدث الفارابي من خلال أفلاطون فيجعل الفيلسوف اليوناني يقول أشياء يصعب على الفارابي أن يقولها بشخصه هو.
من تلك أن المعرفة الدينية أدنى مراتب المعرفة، بينما تقف المعرفة الفلسفية في أعلى المراتب. ويرى ستروس أن قدرة الفارابي على قول ذلك لا تأتي لكون المتحدث هو أفلاطون فحسب وإنما أيضاً لكون كتاب الفارابي عن الفيلسوف اليوناني أكثر توارياً عن أنظار العامة من القراء، فهو الجزء الأخير من ثلاثية بعنوان (تحصيل السعادة).
من ناحية أخرى طرح الفارابي، كما يخبرنا ستروس، مشكلة التعبير عن الرأي في عرضه للخيارات التي تبناها الفلاسفة اليونانيون. فحسب الفارابي، رفض سقراط المساومة في تعبيره عن رأيه فواجه نهاية محتومة تمثلت بإرغامه على الموت، في حين رأى أفلاطون أن من الأجدى أن يسلك مسلكاً مهادناً بأن يحل محل الآراء المقبولة على نطاق شعبي آراء أو أفكاراً مغايرة وصائبة أو أقرب إلى الصواب لكن على مراحل. فالفارابي مقتنع بأن من الضروري للفيلسوف أن يجاري العامة في آرائهم حتى يتمكن من إحلال ما يراه هو محل تلك الآراء.
المأزق الذي يصفه ستروس في حديثه عن الفارابي يتكرر لدى الفلاسفة اليهود ابتداءً بابن ميمون وحتى سبينوزا. ويبدو أنه يتكرر أيضاً لدى ستروس نفسه، فاهتمامه بقضية الاضطهاد نابعة دون شك، أو في المقام الأول، من مأزق شخصي أدى به إلى التفكر في وضع الفلسفة تاريخياً ليتبين من ذلك حجم الضغوط التي تواجه بها الآراء من قبل العامة وضرورة تغيير الكيفية التي تقرأ بها الفلسفة، فلا يؤخذ الظاهر بوصفه هو الرأي المعبر عن الفيلسوف أو المفكر حقيقة.
ومما يعنيه هذا هو نخبوية الفكر الفلسفي أو الفكر عموماً وتوجهه قبل أي أحد إلى فئة محدودة من القراء النابهين. ويبدو أن ما يتوصل إليه ستروس ينطبق فعلاً ليس على الفكر الفلسفي وحده وإنما على قطاع واسع من النتاج الثقافي بما فيه التأليف في المجالات الدينية والعلمية والأدبية، ففي كل تلك ثمة ما يخشى من أن يفهم على حقيقته أو أن (يساء فهمه).
لكن السؤال يبقى حول أهمية أو فاعلية تلك المقولات طالما احتكرتها القلة، أو ظُن بها على غير أهلها.


albazei53@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
حوار
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved