الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 09th October,2006 العدد : 174

الأثنين 17 ,رمضان 1427

مساقات
(مفهوم النصّ) لدى نصر حامد أبي زيد «3»
د. عبد الله الفَيْفي

المساق 245
ألمحنا في نهاية المساق السابق إلى أن طرح نصر حامد أبي زيد في كتابه (مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن)، (بيروت الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، يصوّر النصّ القرآني كما لو أنه مجرد أوامر بأعمال، لا يتزامن نزولها إلا مع فرض تلك الأعمال دائمًا.
وهذا يتنافى مع طبيعة القرآن بوصفه إلى جانب كونه نصًّا تبليغيًّا نصًّا تأثيريًّا، تنبؤيًّا، إيحائيًّا، وذا أسلوب لغويّ أدبيّ متعال، حمّال أوجه، كما قال الإمام علي لابن عباس حين بعثه إلى الخوارج حسب (المرزوقي، الأزمنة والأمكنة)، و(الزمخشري، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار): (لا تناظروهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، ولكن ناظروهم بالسنة، فإنهم لا يكذبون عليها، أو قال: لا يجدون عنها محيصًا).
فقوله: (حمّال)، أي: يحمل عليه كُلُّ تأويل.
ولقد رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً أنه قال:
(ما نزل من القرآن آية إِلاَّ لها ظَهْرٌ وبَطْنٌ، ولكل حَرْفٍ حَدٌّ، ولكل حَدّ مُطَّلَعٌ؛ قال أَبو عبيد: قال بعضهم الظهر لفظ القرآن والبطن تأْويله، وقيل: الظهر الحديث والخبر، والبطن ما فيه من الوعظ والتحذير والتنبيه، والمُطَّلَعُ مَأْتى الحد ومَصْعَدُه، أَي قد عمل بها قوم أَو سيعملون؛ وقيل في تفسير قوله:
(لها ظَهْرٌ وبَطْن)، قيل: ظهرها لفظها وبطنها معناها، وقيل: أَراد بالظهر ما ظهر تأْويله وعرف معناه، وبالبطن ما بَطَنَ تفسيره، وقيل: قِصَصُه في الظاهر أَخبار، وفي الباطن عِبْرَةٌ وتنبيه وتحذير، وقيل: أَراد بالظهر التلاوة وبالبطن التفهم والتعلّم).
(ابن منظور، لسان العرب، (ظهر)).
وبالجملة، لا يمكن النظر إلى النص القرآني على أنه بمثابة منشور حركيّ مجرّد! وهكذا، فإن واقعيّة أبي زيد تُغفل خصوصية النص وطبيعته العضويّة، من حيث إمكانية تعدّد الدلالات فيه، وتحليقها بعيدًا عن قيد حادثة سياقيّة بعينها!
ولئن سلّمنا مع أبي زيد بأن (تطوّر وعي الجماعة يجعل من النصوص إمكانية مفتوحة دائمًا للتعبير عن وقائع جديدة)، (ص95)، فلا بد من القول إنه يقف إلى هذا أيضًا قابليّة النصوص الطبيعيّة لذلك التطوّر أصلاً. ولذلك قد يبدو في المحصّلة النهائيّة أن الفصل بين مكيٍّ ومدنيٍّ في القرآن بلا معنى دلاليّ بالغ الأهمية؛ بما أن نص القرآن أكثر انفتاحًا من ارتهانه إلى وقائع مكيّة أو حوادث مدنيّة، إن الارتهان إلى السياق الخارجيّ للنص بهدف تأويله يُلغي طاقته، ويُفقر دلالته.
صحيح أن السياق الخارجي (المناسبة السبب) مهمّ في إلقاء الضوء على دلالة النصّ، إلا أن ربط النص ذي الطبيعة الأدبية بذلك السياق بشكلٍ حتمي ونهائي وحصريّ ينفي عنه تلك الطبيعة، ويحوّله إلى نصٍّ جامد ووثيقة علميّة بحتة.
وما هكذا النصّ القرآني! وإذا استأنسنا هنا بنظرية (رومان ياكوبسون)، (Jakobson, R. , Closing statements: Linguistics and Poetics) في صدد النصّ ذي الطبيعة الأدبيّة، فإنه يشير إلى أن ذلك النوع من النصوص يركّز على نفسه، ومن ثَمّ فلسياقه الداخليّ (النصوصيّ) الأهمية القصوى، لا سياقه الخارجيّ.
ومع أن أبا زيد يكرّر في كتابه القول إن سيطرة قوى التخلّف كانت وراء ما يسميه (الفصل بين النص والواقع)، (ص99100 مثلاً)، فإنه لا يمكن الربط بين قوى التخلّف تلك وسيطرتها على الواقع من جهة وحقيقة النصّ القرآني وطبيعته من جهة أخرى، تلك الحقيقة والطبيعة التي تتجاوز الواقع التاريخيّ الجزئيّ.
غير أنه يمكن القول، بالمقابل: إن التخلّف ماثل لدى أبي زيد نفسه في عدم تمييزه هذا بين طبيعة النصّ القرآني والنصّ التاريخي، بل ربما عدم فهم معنى الواقعية، أو علاقة النصّ بالواقع، حتى لدى أكثر المدارس واقعيّة (1).
فها هنا تخلّف نقديّ نصوصيّ ينغمس فيه أبو زيد؛ من حيث إنه وإن لم ينف بشكل مطلق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب يظل يضيّق بمنهجه التأطيريّ الواقعيّ طاقة النصّ الدلاليّة.
على أن القول بأن الأصل هو (عموم اللفظ) لا يتنافى مع الحالات الخاصّة التي يلزم الأخذ فيها ب(خصوص السبب)؛ بما أن النصّ القرآنيّ هو نصّ إعجاز وتشريع. غير أن الحالات التي استشهد بها (أبو زيد) لإثبات ضرورة الأخذ بخصوص السبب، كمراحل تحريم الخمر، أو حصر المحرمات،
(ص104 106)، لا شاهد له فيها أصلاً على إهدار عمومية اللفظ لخصوصية السبب، وإلا لانتفت دلالة بعض تلك الآيات في القرآن. وإنما تأتي أهمية السياق الخارجي في تلك الآيات ليفيد في تفصيل الدلالة على الحكم الشرعي، لا لإلغاء عموم دلالتها إلغاءً.
ولمزيد من الإيضاح، لننظر إلى الآية:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (219) سورة البقرة.
فهي لا تتنافى مع حرمة الخمر، ليقال إنها قد قُيّدت دل التها من بعد، بل هي لا تحمل تحليلاً ولا تحريمًا مطلقًا، وإنما تُوازن بين المنافع في مادة الخمر والإثم. وحكم تحريم الخمر لم يقتض نفي تلك المنافع المشار إليها في الآية، صحيةً كانت أو تجارية، للعرب أو لغير العرب، مما فصّل القول فيه على سبيل المثال (ابن قتيبة) في كتابه (الأشربة).
كما أن الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} (43) سورة النساء.
تظلّ عمومية دلالتها قائمة، وإن جاء تحريم الخمر في آية أخرى عامًّا، في صلاة أو في غير صلاة؛ لأن منطوق الآية هنا لم يَقُل بتحليل الخمر في غير الصلاة، ولم يستلزمه.
من حيث إن الصلاة فرض على كل مسلم، وإن كان شاربَ خمر، فشُربه الخمرَ لا يخرجه من الملّة، ولا يُسقط عنه فرض الصلاة والتزام شروطها! ومن هذا المنطلق لا يمكن القول إن تلكما الآيتين قد قُيّدتا بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) سورة المائدة.
إذ إن لكل آية من تلك الآيات سياقها النصي ودلالتها الخاصة.
وعليه، لا معنى لتساؤل أبي زيد، بعد تحليله تلك الآيات ذلك التحليل الموروث المتناقل الذي يعرفه الجميع: (هل من المنطقي بعد ذلك أن يتمسّك العلماء بعموم اللفظ دون مراعاة لخصوص السبب؟).
فلئن سلّمنا ببعض الحالات التي يلزم الأخذ فيها ب(خصوص السبب) لإثبات حكمٍ شرعيٍّ محدّد، فإن استدلال أبي زيد بما استدلّ به قابلٌ للنظر، كما رأينا، وقابل للتخريج من داخل النص نفسه لا من خارجه، كما أراد ومن ثَمَّ فهو استدلال لم يُثبت لنا قَطّ بطلان (منطقية ما تمسّك به العلماء).
أما استدلاله الآخر بالآية:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}
(173) سورة آل عمران، وقوله: (يمكن أن يكون مثالاً لعموم اللفظ وخصوص الدلالة، فليس من المُتَصَوَّر أن يكون لفظ (الناس) في هذا النص دالاًّ على (جميع الناس)، وإلا كان جميع الناس قائلين لجميع الناس إن (جميع الناس) قد جمعوا لكم)، (ص107)
فمن الغرائب حقًّا، سواء من قِبَل أبي زيد أو من قِبل القدماء الذين خاضوا في هذه الآية، هكذا بلا مسوّغ، سوى افتعال شيء من لا شيء؛ وذلك كالزركشي، في (البرهان في علوم القرآن)، الذي يتقوّى أبو زيد بالاستدلال به غالبًا.
إذ التوقّف عند مثل هذه البدهيات، الموجودة في شتى اللغات، وفي مختلف مستويات التعبير، لا يُثبت شيئًا في قضية عموم اللفظ وخصوص السبب، وليس المتلقّي العاقل، فضلاً عن العارف بنواميس اللغة، في حاجة أبدًا إلى معرفة سبب النزول ها هنا، وأن لفظ (الناس) الأول إشارة إلى (نعيم بن سعيد الثقفي)، ولفظ (الناس) الثاني إشارة إلى (أبي سفيان) وأصحابه! ولا في حاجة إلى القول له: إن لفظ (الناس) لا يقتضي التوهّم بأن المقصود (الناس كافة) بل ناس من الناس، ولا سيما لما يعرف في العربية من أن (أل) التعريف تأتي للعهد، كما تأتي للجنس!
فأي مماحكة استدلالية إذن من خلال نصٍّ فهمه العربي الأميّ، ولم يشكّل لديه أي إشكال؟! ثم ما علاقة مثل هذا بموضوع عموم اللفظ وخصوص السبب وأسباب النزول؟!
وللحديث اتصال في المساق الآتي، بمشيئة الله.
1 ينظر في هذا مثلاً: هلال، محمد غنيمي، (1987)، النقد الأدبي الحديث، (بيروت: دار العودة)، 292


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
حوار
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved