أو بعض أبيات للمتنبي أنكرها عليه النقاد لما فيها من خوارم العقيدة وقال فيها الناقد الثعالبي: (قبيح بمن أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة.. أن يقول مثل هذا الكلام الذي لا تسعه معذرة..). |
وقال ابن وكيع: |
(هذه أبيات فيها قلة ورع، حقر ما خلق الله عزّ وجل..) |
أيصنف ذلك في إطار التصور الإسلامي ؟ وهل ثمة حاجة أن نحيل الكاتب إلى مئات النماذج الأدبية التي أبدعها بعض (أبناء المسلمين) في القديم والحديث، وخرجت أحيانا خروجا سافراً فاقعا على التصور الإسلامي ؟ |
ولم يقل أحد على الإطلاق كما يوحي بذلك كلام الكاتب أن التصور الإسلامي حكر على مذهب أو فئة، بل هو موجود عند جميع المسلمين، ولكنه قد يغيب أحيانا عند بعضهم كما تدل على ذلك بعض النماذج قديما وحديثا.. |
وفي هذه المناسبة نقول: إن الأدب الإسلامي لا يبدعه أدباء الرابطة، وحدهم، فهذا الأدب موجود عند كل أديب مسلم في القديم والحديث، وليس حكرا على أحد، ومن ثم فإن المنظر له، أو المتحدث عنه قبولا أو رفضا مطالب أن يضع في حسبانه جميع نماذجه في الأزمنة والأمكنة المختلفة وألا يكتفي بما أبدعه أدباء الرابطة وحدهم، فهؤلاء حلقة واحدة من حلقاته الكثيرة، وهذا الأدب هو أدب الأمة المسلمة، وهو قديم حديث، وهو أدب رباني، بدأ بنزول القرآن كما بينا في المقال السابق، ومازال مستمرا، وسيستمر مادام هنالك مسلمون يبدعون. |
إمبراطورية الأدب الإسلامي |
بصرف النظر عما في عبارة الكاتب من سخرية لا تليق تحملها هذه العبارة (إمبراطورية الأدب الإسلامي) وكثير من عباراته الأخرى، نقول: إذا كان الأدب الإسلامي يضم بعبارة الكاتب الساخرة (أكبر إمبراطورية أدبية في الشرق الإسلامي) أفليس هذا دليلا على حضور هذا الأدب، وتعبيره عن وجدان هذه الأمة وذوقها وهويتها ؟ |
ومع ذلك فإن (هذه الإمبراطورية) وما هي بإمبراطورية قطعا، فيها من الكتاب القوي والضعيف والمتوسط، وفيها المشهور والمغمور. وهذا كما لا يخفى على أحد شأن كل اتحادات ورابطات الكتاب في العالم العربي وغيره، وأحيل الكاتب إلى الأدلة التي أصدرتها بعض هذه الاتحادات في التعريف بأعضائها ليرى بتعريف الدليل نفسه أن بعض الأعضاء لا يكاد يكون شيئا مذكورا. |
وإذا كان كاتب المقال يعتد بالشهرة فإن كثيرين من أعضاء الرابطة ولا أسمي أسماء معروفون في الساحة الثقافية بآثارهم وإنتاجهم المؤثر الفعال، وإن كانت (الشهرة) التي يعتد بها الكاتب على ما يبدو لم تعد في هذا الزمن خاصة معيارا للجودة. إن (النجومية) اليوم قد أصبحت صناعة إعلامية ترتبط بانتماءات وشلليات لا تخفى على أحد. |
الاستعلاء ونفي الآخر |
ولأن تزييف الحقيقة والافتراء عليها أسهل بكثير من البحث عنها ونشدانها لما يحتاج إليه الثاني من جهد ودرس واستقصاء، مضى كاتب المقال بجرة قلم ينفي الآخرين ويقصيهم وينصب نفسه حكما على إبداعهم، وبجرة قلم لا أسهل منها على من لا يريد أن يكلف نفسه مشقة البحث، مضى كاتب المقال يجهل جميع أدباء الرابطة ونقادها، واستهان بإبداعاتهم، بل صنف هذه الإبداعات في خانة (أدب الوعظ) و(أدب الأطفال) وحكم على نماذج القصة الإسلامية بأنها (ركيكة، ولا ترقى لمستوى الفن القصصي والروائي) ولكنه تواضع فقال عن النموذج الشعري الإسلامي بأنه (النموذج المتوسط الذي لا يدنو من جمالية الصورة الراقية، ولا التخييل المتجاوز، بل مجرد أناشيد وعظات..) وغير ذلك من الكلام الذي يحمل من السطحية وعدم الاستقصاء ما يتبرأ منه البحث العلمي النزيه.. |
وإذا كانت اللجاجة والانتصار للرأي المطبوخ مسبقا تحملان الكاتب على أن يورد مستخفا هازئا شعرا للشيخ يوسف القرضاوي، وللدكتور نجيب الكيلاني رحمه الله، زاعما أن الرابطة تحتفي بكل من كتب شعرا وعظيا من هذا القبيل، فإننا نستطيع من قبيل اللجاجة كذلك أن نأتيه بعشرات الأمثلة لشعراء، يحتفي بهم أمثاله ويعدونهم رموز الشعر الحديث ورواده، وهي أشعار ركيكة خطابية من باب القول (الدعائي) أو (الشعاراتي) الذي لا يمكن أبدا أن يرقى إلى مستوى الشعر. |
من ذلك قول شاعر (رمز) من رموز القضية الفلسطينية في ديوانه (شيوعيون) من قصيدة عنوانها (إلى عمال موسكو): |
معكم أنا |
يا إخوتي العمال في موسكو، أنا معكم |
لدهر الداهرين |
معكم.. مع الحزب الذي نقل الرعاع |
إلى قباب الكرملين |
ومع اللواء الأحمر العالي.. لوائك يا لينين |
معكم.. مع الشعب الذي |
صان السلام أمام طيش المعتدين... إلخ |
وعلى هذه الشاكلة من (الفجاجة) والتعبير السطحي المباشر تمضي هذه القصيدة، بل كثير من قصائد هذا الشاعر (الرمز) |
ومن قبيل هذا الشعر الغث لشاعر (رمز) آخر قصيدة (إلى صاحب ملايين) التي تمضي على هذه الشاكلة التي أدع القارئ يحكم عليها: |
ومن هذا القبيل كذلك قول (رمز) كبير من رموز ما يدعى ضلالا (قصيدة النثر) التي يقدمها لنا بعضهم على أنها أرقى نموذج شعري عن العرب: |
(ما الفرق بين زهرة على المائدة وزهرة على القبر ؟ بين الخبز والتنك ؟ بين النهد والمطرقة ؟ بين أن يموت الإنسان على رأس حملة أو يموت) ثم يمضي في ذكر قذارات أكرم القارئ من أن تخدش سمعه وبصره. |
ترى هل أسوق لكاتب المقال من باب اللجاجة التي اختارها، لا من باب الموضوعية والعلم عشرات بل مئات من هذا الشعر التافه من أشعار هؤلاء الذين سمّوا (رموزا) و(روادا) و(كبارا) لأبين له وجها آخر من وجوه القضية التي تحجبها عادة العصبية للرأي ؟ |
إن أحدا من المشتغلين بالأدب الإسلامي لم يقدم القرضاوي ولا الكيلاني، ولا الشعراوي، على أنهم شعراء، أو على أنهم رموز، وما الاحتجاج بهم على الشعر الإسلامي إلا من باب اللّدَد والمماحكة. |
ومع ذلك فإن من الحق أن نقول إن قول الشيخ القرضاوي وقول الكيلاني اللذين أوردهما كاتب المقال هما والله أرقى في نظرنا من ذلك الشعر الذي أوردناه لأولئك الرموز. |
التعميم |
يقول علماؤنا رحمهم الله : إنه قلَّ أن نشد أحد عيبا عند أحد إلا وجده، وإن تتبع العورات أسهـل من البحث عن الحق، وإن التعميم أيسر من الاستقصاء والبحث. |
يورد كاتب المقال بعضا من مؤلفات أعضاء الرابطة، ثم يطلق عليها على طريقته في التعميم حكم أنها (تهاجم بضراوة بدل أن تحاور.. وفكرة إلغاء الآخر ونفيه بدلا من التحاور معه، وفكرة التكفير..) إلى غير ذلك من كلام غير واعٍ ولا مسؤول، وهو يذكر بالمثل العربي: (رمتني بدائها وانسلت). |
من الذي يقصي الآخر وينفيه كما اتضح من مقالين لهذا الكاتب قاما على الافتراء والتعميم وتصيد رأي من هنا وقول من هناك ثم سحبه على الأدب الإسلامي وعلى أدبائه ونقاده كافة ؟ |
من الذي يهاجم، ولا يحاور، ولا يراجع، ولا يستقصي ؟ أكاتب هذين المقالين أم الآخرون ؟ |
ومن عجب أن يسأل كاتب المقال الدكتور النحوي بسبب رأيه في قصيدة التفعيلة : (هل قرأ في كل دواوين شعر التفعيلة وقصيدة النثر حتى يصل إلى ما وصل إليه من أحكام ؟) ثم لا يسأل نفسه عن ذلك ! أقرأ صاحبنا كاتب المقال جميع ما كتبه مبدعو الأدب الإسلامي ونقاده قبل أن يطلق هذه الأحكام الظالمة التي لا تستثني أحدا ؟ |
أيقال عن شاعر متميز هو الدكتور عبد الرحمن العشماوي، له هذا الحضور الطاغي في الساحة الأدبية، ويستقطب الآلاف في العالم العربي والإسلامي للاستماع إلى شعره، أيقال: (إن شعره من النموذج المتوسط) ؟ أم أنها عادة درج عليها البعض في تسفيه رأي الجمهور إذا خالف رأيهم ؟ |
وهل يقال مثل ذلك عن شاعر عظيم كعمر بهاء الدين الأميري، شهد له العقاد بجلالة قدره وقال عن قصيدته الذائعة (أب) بما معناه: لو أن للبشرية ديوان شعر لوجب أن تكون هذه القصيدة في ذلك الديوان |
شعر التفعيلة |
لماذا يحتج كاتب المقال على الأدب الإسلامي برأي الدكتور عدنان النحوي في (قصيدة التفعيلة) ؟ إن هذا رأي لصاحبه انفرد به، ولا يشاركه فيه كثيرون من شعراء الرابطة وغيرهم من شعراء الأدب الإسلامي، وهم يكتبون في هذا النموذج، ولهم فيه إنتاج غزير تشهد به دواوينهم. |
لماذا يقيم كاتب المقال الدنيا على الدكتور النحوي الذي أبدى في الشعر الحر رأيا شخصيا هو حر فيه، ويتجاهل في مقابل ذلك ما قاله أصحاب الحداثة في تسفيه الشعر العمودي الأصيل، ونفيه من ساحة الشعر، بل ذهب بعضهم إلى حد القول إن الشعر الحقيقي هو ما يسمى (قصيدة النثر) وأن كل ما عداها حتى شعر التفعيلة باطل ؟ |
أي الفريقين أكثر غلوا لمن كان باحثا عن الإنصاف ؟ ومع ذلك فإن الشعر العمودي الشعر الموزون المقفى لا يشك أحد في أصالته وفي عراقته، فهو تراث هذه الأمة منذ آلاف السنين، ولكن (شعر التفعيلة) شعر حديث، نقبله، ولكننا كما يقول الدكتور عبد القدوس أبو صالح : (نرفض الفوضى فيه، التي تأتي نتيجة للخلط بين التفعيلات العروضية وإلقائها على عواهنها من دون أي نظام أو تنسيق). |
وأما ما يدعى (قصيدة النثر) فهو في رأي كاتب هذا المقال ليس قصيدة، ولا شعرا، بل هو نثر، قد يكون جميلا أو رديئا مثل أي نص آخر من نصوص الشعر والنثر، ولا يمنع أحد من كتابته. |
وهما معا قصيدة التفعيلة، والمسماة قصيدة النثر لا يرقيان إلى مستوى الشعر العمودي، وليست لهما أصالته وعراقته. |
وقُل مثل ذلك عن تعميم كاتب المقال في حكمه على قصص الأدب الإسلامي ورواياته. لقد قدم عدد كبير من كتاب الرابطة، وغيرهم نماذج فنية متميزة من القص الإسلامي. وقد يبدو من الصعب على كاتب لا يحتكم إلا إلى النموذج الفني الغربي في الرواية أو القصة أن يتذوق هذا اللون من القص الذي يحاول أن يتحرر من قبضة المنهج الغربي، وأن يشق له في فن الرواية طريقا جديدة تعبر عن هوية خاصة وذائقة ذات طعم متميز، وأن تقدم أدباً نظيفا بعيدا عما قدمته كثير من نماذج القصة العربية الحديثة من رؤى سقيمة وأفكار منحرفة. |