الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

ممرات السكون

*قاسم حول:
المثقفون.. الكُتّاب.. المبدعون هم ضمير مجتمعاتهم؛ فهم يؤرخونها بقراءة مختلفة، ليست قراءة وثائقية فحسب، بل قراءة واعية صحيحة. لكن هذا الشرط يتطلب ضميرا واعيا حيا حتى يعكس الحقيقة الموضوعية بعين الوعي. هكذا كتبت إقبال القزويني روايتها (ممرات السكون) عن وطن تعرفه قبل آلاف السنين وسجلت بروائية عالية حقبة من الزمن تمتد بالضرورة إلى آلاف السنين، ربما سبعة آلاف عام أو أكثر.
تبدأ في روايتها من المصيبة، المصيبة التي بدأت فيها الطائرات تلقي بحممها الحارقة المدمرة على أرض العراق، وهي المؤلفة التي يبدو لي قد رسمت نفسها في شخصية البطلة زبيدة لترى المشهد على شاشة التلفاز، المشهد الوطن الذي يحترق ويركض فيه الناس في الشوارع وثمة امرأة تحاول أن تعبر الشارع وسط القصف وهي تريد أن تدخل من شاشة التلفاز نحو الوطن لتمسك بيد المرأة العجوز وتساعدها في عبور الشارع.
تفاعل العام بالخاص في عمل روائي ليس بالأمر الهين، وإسقاط تجربة الذات على تجربة الوطن يتطلب موضوعية متناهية ودقة في الرؤية ووعيا في قراءة الحدث. وفي زمن تعز فيه الرواية النبيلة في قراءة الحدث وتتمتع بجاذبية الشكل والتشويق تأتي ممرات السكون لتكسر هذا المألوف وتنتمي للنادر من الأعمال الأدبية في فن الرواية العربية.
روايات الحرب بشكل عام تكاد تكون متكررة ومتشابهة، لكن ممرات السكون لا تشبه روايات الحرب؛ لأنها من خلال الحرب التي تزيد من تدمير روحية البطلة زبيدة إنما ترحل بها نحو كل محطاتها الشخصية وتنقي ذاكرتها كي ترى الأحداث بوضوح أكثر.
فالحدث الذي يمر عموما بالإنسان، إنما يمر عليه ويشكل مفردة من مفردات الزمان أو القدر أو الصدفة أو الموضوعية فينطبع كما هو صافيا حينا وضبابيا حينا آخر، لكن النظر إليه وإعادة قراءته ومن ثم صياغته إنما يجعله في حجمه وفي حقيقته الموضوعية التي يعرف الإنسان نفسه من خلاله مثلما يعرف العالم.
وعادة يأتي ذلك في مرحلة لاحقة من الزمان، وهو شرط يكاد أن يكون عرفا سوى بعض الاستثناءات في عالم الرواية، وهنا تأتي ممرات السكون الرواية التي سجنت بطلتها أو الكاتبة التي سجنت نفسها بوعي أو دون وعي في دائرة السكون محملة ظروفا من الزمن الصعب والمر والقاسي على عينات من بني البشر.. كل تلك المصائب التي لحقت بها، وتأتي تلك الظروف الشخصية متفجرة مع سقوط المتفجرات على وطن الكاتبة ووطن زبيدة ووطن كل الشخوص التي تعرفنا عليها، البلبل الصداح وجدة زبيدة والعاشق الحالم الذي مر كما سحابة الصيف ولكننا عرفناه وكنا في حزن من غيابه، والرسام وصديقها الكاتب، والرسام الألماني الذي زارت قبره في يوم ممطر. كما تعرفنا على عينات من شخصيات هامشية في حياة البطلة زبيدة وشخصيات رديئة صنعتها أخطاء وأيديولوجيات مريضة وأبدعت في رسم شخوصهم في ممرات السكون.
ممرات السكون تتميز وتمتاز ببنية روائية محكمة تعتمد التشويق غير القسري وغير المفتعل، وهذا يجعل الرواية سلسة القراءة ممتعة التلقي، وهذه البنية الدرامية حتى وإن التزمت بالبناء الأكاديمي السليم الذي تفتقر إليه الرواية العربية بشكل عام بسبب عدم معرفة كتابها بأسس البناء الدرامي، لكن هذه الرواية جاءت متحررة من الشكل التقليدي التام تماما مثل الرسام الذي ينتمي إلى الحداثة وحتى ما بعد الحداثة فيبدو متألقا بسبب امتلاكه خلفية أكاديمية ناضجة في فن التشكيل، فتأتي لوحته الحداثوية الشكل قوية المضمون هارمونية اللون محكمة البناء. الاستعارات الواردة في صياغة فصول الرواية جاءت تلقائية وغير مقحمة (عند الفجر أفرغت الطائرات القادمة من قواعدها في الخليج العربي الدافئ الوجبة الأولى من حمولتها الثقيلة الساخنة على أرض العراق. زحفت الجيوش من كل صوت وركضت المجنزرات محملة خوذات حديدية وأعمدة بفوهات تقذف نيرانا. يحترق النخيل وتتهاوى البيوت وتفزع الطيور، تستيقظ بغداد على قيامة حلت عليها.
الطائرات تسبق المجنزات لتمشط الأجواء وتزيل الشكوك.
جنود يتحدثون بميكروفونات مثبتة على خوذاتهم، يعطون الإشارات ويتلقون التعليمات ويقصفون. أناس يموتون. لا تكترث أيها العسكري فليس ثمة قانون يحاسبك. هذه قوانين الحرب اقتل قبل أن تقتل.
لا صوت في السماء سوى صوت الطائرات والمجنزرات على الطرقات وصوت المذيعين في الراديو والتلفاز يزدحم في الأثير).
نلاحظ هنا قوة التعبير في وصف الأشياء دون وصفها إنما الإحساس بها يعطيها قوة الوصف الدقيق (ركضت المجنزرات محملة خوذات حديدية وأعمدة بفوهات تقذف نيرانا). بعد ذلك تأتي كثافة الإحساس بالأشياء فتنقلب الصور سوريالية في منتهى الواقعية، وهو تداخل أسلوبي جميل جدا، فالبطلة زبيدة وهي في شرفتها وهي تنظر إلى الدش صارت تتصوره مدخلا لعالم الخوف وعالمها، فصارت ترى الطائرات وقد صغرت ودخلت في الدش واقعيا لتتحول إلى صورة في التلفاز.
إنه الخوف المجسم الذي حول حتى آلات الحرب وطائرات الشبح السوداء إلى مايشبه الدمى الصغيرة التي تمتلك قدرة الولوج في أسلاك الدش لتخرج على الشاشة صوراً تلقي بحممها على أرض وطنها فتصاب بما يشبه الجنون الذي يخاف القارئ بسببه أن تلقي البطة بنفسها من الشرفة في الطابق الثامن مع أن القارئ يعرف بالضرورة أن البطلة لا يمكن أن تموت في بداية الرواية ولكنها كانت شبه ميتة في نهايتها.
هذا الموت المجازي يسكن في ذات البطلة زبيدة، فهي في جانب تريد إنقاذ نفسها وفي جانب آخر تود أن تموت لأنها ترفض أن تفتح الباب لسيارة الإسعاف التي طلبتها.
كل ذلك الخوف الساكن في ذاتها يتصارع مع نفسه هو الآخر، فتارة يضعف ويقويها وتارة يقوى فيضعفها. هو حالة غريبة في سكون المكان الذي طوقها وسجنها وأخافها فجعلها معطلة عن الفعل، وهي تريد أن ترفض وتتهم وتعاند وتصرخ وترجو وتبكي وتنهار وتحاول الوثوب، ولكن ذلك قد جاء بعد فوات الأوان؛ فلم يعد ثمة مخرج سوى الاسترخاء على السرير والبقاء في اللا فعل والبقاء في اللا حركة.
(لقد طرقت كل أبواب الدنيا، لكن الدنيا لم تطرق بابي حتى مرة واحدة. الأيام هنا باتت تقترب من الشمس، ولكني لا أجد ظلي لا على الأرض ولا على الجدران ولا حتى في شرفتي). لقد تمكنت الكاتبة من سبر أغوار شخصية البطلة زبيدة كشخصية محورية في روايتها ممرات السكون، وأيضا تمكنت ببراعة المبدع من تجسيد جميع شخصيات الرواية حتى أقل الشخصيات فعلا في الحدث.
يستطيع المتلقي أن يعرف الشخوص؛ لأنها شخصيات حقيقية كما يبدو لي في حياة البطلة وليست من صنع الخيال، ولذا جاء وصفها وحوارها تلقائيا أوضح معالمها الخارجية والداخلية.
لغة الرواية تعبر عن معاناة حقيقية للكاتبة إزاء وطنها وإزاء من عاصرتهم في حياتها العائلية والحياتية.. هكذا بدت لي أحداث وشخوص الرواية.
والأكثر أهمية تجسيد شكل الحرب ومضمونها: (من شرفتها تتخيل الطائرات الضخمة تأتي من الأفق البعيد وتدخل إلى الدش عبر الأسلاك، أسراب أخرى منها تحلق عبر باب الشرفة المفتوح داخل شقتها وتتحول إلى طائرات صغيرة مثل طائرات الدمى ولكن الأصوات المنطلقة من التلفاز تمنحها قوة الدمار.
تشاهد الناس الذين يصرخون والأطفال الذين يهربون يخرجون من عيون الدش الثلاثة المثبتة في باطنه المقعر ثم يذهبون نحو السماء يطيرون مثل الأحلام، بعضهم لا يقوى على الطيران وعندما يحاول التحليق يسقط على سطحه الأملس الصقيل، وما يلبث بعد محاولات يائسة للوقوف والانطلاق مرة أخرى أن يتهاوى من الطابق الثامن).
دائما لكل إنسان روايته سواء عرف كيف يكتبها أم أخفق في كتابتها أم كتبها وسقط في اللاموضوعية ودخل مدخل التبرير والدفاع بسيف من خشب أم أبعدها عن ذاته وخاف منها خشية أن يراه الناس عاريا أم كان شجاعا وقال ما له وما عليه.. من هذا المنطلق كانت ممرات السكون (الرواية الأولى للكاتبة) شعرت بأنها تريد أن تبدو شجاعة ولكنها كانت مترددة.. لكن الرواية حتى وإن حاولنا أن ننظر إليها من هذه الزاوية (مدخل الصدق ومخرج الصدق) تبقى عملا أدبيا معاصرا.. ومهما.


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
Sununu@wanadoo. Nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved