الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

صورة حقوق الإنسان في الفكر العربي الحديث

*د. عبدالرزاق عيد:
إن أفكار الكواكبي التي استعرضناها في (طبائع الاستبداد)، سنجدها منبثة في كتابه (أم القرى) الذي لم نتوقف عنده كما توقفنا مع طبائع الاستبداد، لأن إشكالية الكتاب إشكالية عملية، تصب في معمعات المعترك السياسي الذي كان يدفع إلى السطح إشكالية عروبة الخلافة التي لا تمثل في نص الكواكبي فكرة إبداعية، اقتحامية، عصيانية كما كانت عليه مسألة الحرية وحقوق الإنسان والشرعية الدستورية التي تشخصت في كتاب (طبائع الاستبداد)، بل كانت متداولة ومطروحة في أوساط النخب ليست العربية فحسب، بل والتركية التي كانت تهدد بها النخب التركية سلطة السلطان عبد الحميد.
حقاً إن مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان بوصفها المدخل الضروري لمناهضة الاستبداد، لم تشغل فسحة نظرية كبيرة في كتاب (أم القرى)، لكنها كانت حاضرة كشرط لازم لقيام الخلافة، ولهذا فعندما يقوم بتشخيص داء فتور المسلمين في الاجتماع السابع، يتحدث عن أسباب دينية، أسباب سياسية - أسباب أخلاقية - ثم أسباب تتعلق بالدولة العثمانية - أما النوع الخامس فيعود لأسباب شتى.
وعلى هذا فعندما يشخص داء السياسة، تتردد الأفكار ذاتها التي تستدعيها مفاهيم الثورة القومية الديموقراطية التي يؤسس لها إعلان حقوق الإنسان، فمن أسباب أدواء السياسة:
- السياسة المطلقة من السيطرة والمسؤولية.
- حرمان الأمة من حرية القول والعمل، وفقدانها الأمن والأمل.
- فقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة.
- تكليف الأمراء القضاة والمفتين أموراً تهدم دينهم.
- فقد قوة الرأي العام بالحجر والتفريق.... إلخ
هذه البنود لا تغاير بنود حقوق الإنسان إلا في الصياغة اللغوية والسياقية، سياقية هيكلية الإشكالية التي تؤطر أسئلة زمنه.
بل هو في صياغات أخرى في (أم القرى) يصوغ آراء صريحة، جريئة، ومباشرة دون مراعاة لحساسيات الاعتبارات الدبلوماسية تجاه الحاكم الذي كان وراء طلب التكليف بكتابة الكتاب - أي بغض النظر إن كان بتكليف من الخديوي عباس، أو من شريف مكة فيما يقول الدارسون - فهو يصر على التلازم بين مفهوم (القومية - الوطنية) الحديث وشروط تحققه التاريخية المتمثلة بالحريات الفكرية والتعبيرية، غير آبه أن مثل هذه الأفكار لن تلقى قبولاً لدى الحكام الذين يرغبون في التعاون معه في تكليفه بوضع هذا الكتاب.
وعلى هذا فهو يعيد صياغة البند الحادي عشر القائل: (إن حرية نشر الأفكار والآراء حق من أثمن حقوق الإنسان، لكل وطني إذن أن يتكل ويكتب ويطبع بملء الحرية إلا أنه مسؤول عن خرق هذه الحرية في الأحوال المعينة في القانون).
هذا البند يصوغه كتاب (أم القرى) بلا تردد، بل ويدرج معه عناصر أخرى من الإعلان، يقول الكواكبي: وقد عرف الحرية من عرفها بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم.... ومن فروع الحرية تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل التضحية... ومنها حرية التعليم وحرية الخطابة والمطبوعات وحرية المباحث العلمية، ومنها العدالة بأسرها حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاضب أو غدار مقتال.... ومنها الأمن على الدين والأرواح والأمن على الشرف والأعراض والأمن على العلم واستثماره.
والمعنى نفسه سيتردد في فصل (الاستبداد والأخلاق)، إذ يعلن الكواكبي: (أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنية القذف فقط)، ورغم أن إطلاق فعل هذه الحريات قد تقود إلى الفوضى، لكن تحمل مضرة الفوضى خير من التحديد والتقييد على حد رأيه، لأن الحكام قادرون على جعل الشعرة من التقييد سلسلة من الحديد (يخنقون بها عدوتهم الطبيعية الحرية).. هكذا يسكن هاجس الحرية مفاصل الكتابة عند الكواكبي، إذ يعود في كل نصوصه إلى التنديد بالاستبداد حتى ولو كان الموضوع لا يتصل به مباشرة، وذلك لتفنيده تفنيداً نظرياً ومعرفياً بوصفه أصل بلاء الأمم وانحطاطها، وذلك انطلاقاً من مبدأ الحق الطبيعي باعتبار الحرية هي الأصل، هي الطبيعة، الفطرة الفائقة، البداهة البشرية وكل حد وإعاقة لها هو عداوة للطبيعة، الحق، الله.
ويبلغ إيمان الكواكبي بالطبيعة الحرة للبشر حداً أشعل مخيلته المجازية، ليقدم لنا صوراً سوريالية عن الإنسان (أسير الاستبداد) الذي يلتصق بغرائزه العمياء، تستعبده، وتعمي بصره وبصيرته عن الحرية الطبيعية الثاوية في داخله بوصفها جوهر إنسانيته ومعنى وجوده، فعبيد السلطة (الأُسراء) ليسوا مالكين لأنفسهم، ولا هم آمنون على أنهم يربون أولادهم لأنفسهم.
بل هم يربون أنعاماً للمستبدين، فالمستبد قلب الموضوع، عندما جعل الرعية خادمة للرعاة، عوضاً من أن تكون الحكومات في خدمة الرعية، وهذا ما يتناقض مع المبدأ الثالث للإعلان؛ فأسير الاستبداد لا نظام في حياته، فمن أين له ناموس، وهو كالحيوان المملوك العنان والتشبيه هنا ليس تشبيهاً بلاغياً يتغيا فخامة البيان وفخفخة الاستعارة، بل هو تشبيه مجازي عقلي يتأسس على أطروحة فلسفية طبيعية تمايز بين كائنات الطبيعة، فالحيوان يتميز على النبات بأنه متحرك بإرادة، بينما أسير الاستبداد يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه، وهذا ما يتناقض مع القانون السادس للإعلان وأسير الاستبداد فاقداً لكل أنواع المجد؛ مجد الكرم، مجد العلم، مجد بذل النفس في سبيل قضية لا يعرف ملذات العلم والمجد والإيثار والبذل ولذة إحراز مقام في القلوب، ولذة كبر النفس، وهي ملذات الحرية الطبيعية التي هي أصل في جوهر الكائن، هذا الأسير، عبد الاستبداد، هو تعيس تقتصر ملذاته على لذتين اثنتين وهي ملذات تنتمي إلى الجانب الطبيعي (المتسفّل) فأولى الملذات التي تخص الأغنياء والفقراء من الأُسراء (لذة الأكل وهي جعل بطونهم مقابر للحيوانات إن تيسرت والفقراء يجعلون من بطونهم مزابل للنباتات) وفي كلتا الحالتين فإن أُسراء الاستبداد في بحثهم عن الملذات (المتسفلة) يجعلون أجسامهم في الوجود كما قيل أنابيب بين المطبخ و(الكنيف) أي المرحاض، أما اللذة الثانية، فهي (الرعشة باستفراغ الشهوة، كأن أجسامهم خلقت دمامل جرب على أديم الأرض، يطيب لها الحك ووظيفتها توليد الصديد ودفعه، هذا الشره البهيمي في البعال هو ما يعمي الأُسراء ويرميهم بالزواج والتوالد).
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved