الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

اعترافات العلماء في سيرهم الذاتية
الشيخ الطنطاوي نموذجاً «2»

*أحمد علي آل مريع:
الضابط فيما أتصور لا بد أن يقام على ثلاثة أركان:
الأول: أن يكون مظهراً من مظاهر العجز والضعف والنقص.
الثاني: الصراحة والجُرأة (أي أنه يتجاوز الحديث العادي عن النفس).
الثالث: الخروج عن العرف والالف.
ويتحدد الخروج عن العرف والألف بالاعتماد على المفاهيم الاجتماعية ومواضعات الناس، وذلك يختلف باختلاف:
- المجتمع والبيئة.
- المكانة التي يتبَوَّأُها المعترف: حديثاً أو كتابةً.
فما يُنظر إليه في بعض المجتمعات على أنه من المظاهر اليومية العادية، أو من ممارسة الحريّة الفردية؛ فإن الحديث عنه في مجتمع محافظ كالمملكة العربية السعودية قد يعدّ اعترافاً صريحاً جريئاً بشيء يرى المجتمع وجوب ستره وكتمانه. كأن يقول كاتب بمنزلة الطنطاوي عن نفسه: إنه ممن يحضرون الحفلات الغنائية، أو يداوم على متابعة العروض السينمائية، أو ممن يغشى المقاهي. فهذا لو أفضى به شخص من خارج الجزيرة العربية لما وصفناه بأنه اعترافٌ لأنه شيء مألوف ومعروف، ولكن مجتمعنا المحافظ بالجزيرة ينكر ذلك ويراه خروجاً على مواضعاته. فإذا كان المعترف ذا وجاهةٍ في مجتمعه أو منزلةٍ خاصة ولا سيما حين ترتبط هذه الوجاهة بأسباب الوقار والالتزام الديني كأن يكون عالماً شرعيّاً، أو واعظاً أو خطيباً أو مفكراً أو مربِّياً أو مسئولاً؛ ضاقت أمامه فرص البوح بالحديث العادي، وقد تُعدّ بعض أحاديثه التي تُتَلَقَّى من غيره على أنها كلامٌ عادي لا يثير أية مشاعر بالسخط أو عدم الرضا، قد تعد من قبيل الاعتراف، فما يُقبل من المحكوم قد لا يقبل من الحاكم، وما قد يأتيه العامي العادي قد يشين الخاصي والعالم غشيانه وفعله والنسبة إليه. فما ذكره ابن حزم الظاهري -رحمه اللَّه- عن تجربته مع الحب ومعاناته من الهجر في كتابه (طوق الحمامة) يعدّ من قبيل الاعتراف على الرغم من أنه ليس فيه جهر بكبيرة أو منكر شنيع، وذلك لمكانة ابن حزم فهو عالم وفقيه ورجل دولة، وأكبر دليل على ذلك أنه قد بدأ رسالته معتذراً واختتمها بباب في (قبح المعصية) و(فضائل التعفف)؛ ليبرئ ساحته من الظن السيئ. وكذلك ابن الجوزي رحمه اللَّه فقد عرض لأمور يمكن أن نَعُدّها من اعترافاته لأنها قدمت لنا جانباً من جوانب الضعف فيه، لم نعتد سماعها أو قراءتها من فقيه وواعظ مثله.
ومثل ذلك حديث أحمد أمين وهو الرجل الوقور الرزين عن المشاجرة التي حصلت بينه وبين سيدة أثناء ركوبه عربة (سوارس) وكان قد مسها بجسده دون أن يشعر. وحُبّه لابنة جاره وهو صبي في نحو الخامسة عشرة، ثم تعلقه البائس بمدرسته الإنجليزية، وما يذكره من تردده في بعض الأحيان على صالة (منيرة المهديّة) لسماع غنائها ومشاهدة مسرحياتها...الخ.
ومن هذا القبيل اعترافات الشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل بشغفه بالموسيقى واستماعه للغناء والانهماك في الفن، وكثرة السهر والسمر في ليالي رمضان،
وإدامة شرب الدخان. فهذا وأمثاله من الحديث قد لا يثير في النفس شيئاً كبيراً من الاستغراب والاستنكار في زمننا، ولكنّه حين يصدر من مثل هؤلاء الإعلام فإنه -لما يتبَوَّأونه من مكانة وما يتصفون به من سمات- يأتي في حرارة الاعتراف؛ لأنهم يكابدون في سبيل البوح به كثيراً من المشقة سواء كان ذلك بالنسبة إليهم أو إلى مجتمعهم الذي يتقلبون فيه.
وتأسيساً على هذا الفهم -الذي أرجو ألا أكون قد غاليت فيه كثيراً- يستطيع الباحث، والقارئ أيضاً أن يتعامل مع نصوص السيرة الذّاتية الشرقية المحافظة، ويستطيع أيضاً أن يصنف ما جاء في الذكريات من قبيل الاعترافات، ويفصل بينه وبين ما ينتمي إلى الحديث العادي أو حتى الساخن، الذي ليس له ما للاعترافات من الجُرأَة والنَّفاذ من رُواق المواضعات.
***
- ألوان من اعترافات -  مكاشفات الطنطاوي
كثيرة هي النصوص التي كشف فيها الفقهاء والعلماء عن بعض أسرارهم وصفاتهم الخاصة، التي يحاول كثير من الناس إخفاءَها وكتمها. وتتميز نصوص الاعترافات عند الطنطاوي -بعامة- بأنها ليست مقصودة في حدّ ذاتها بل تأتي على سبيل الاستطراد أو الوعظ أو التحدث بنعمة اللَّه إذ نجاه من النقص، أو تأتي في معرض السخرية والتفكه، أو لخدمة الفكرة التي يتحدث عنها الكاتب؛ إذ يصبح النص الاعترافي وسيلة من وسائل تقرير الفكرة أو شرحها أو بيان قدرها، وهذا مما يساعد الكاتب على المضي في اعترافه، لأنه يستحضر الفكرة أو الموضوع الذي يريد أن يدلل عليه أو يشرحه أو يقربه للأذهان وينسى أنه (يعترف) ويقدم ذاته إلى القارئ.
وتتعدد مشاهد الاعتراف عند الطنطاوي بتعدد جوانب الشخصية وسماتها؛ فمن الاعتراف ما يمس الجانب الجسدي، ومنها ما يمس الجانب النفسي والأخلاقي ومنها ما يتصل بالجانب الاجتماعي، ومنها ما يتصل بالسلوك أو العاطفة أو مناشط الشخصية بعامة.. ولذلك فمن المتعسر على الباحث حصرها فضلاً عن ذكرها والاستشهاد بها. ولكن ينتخب منها ما تيسر له وقرب متناوله.
وأول هذه الجوانب : الجانب الجسدي . فقد أفاد أنه كان قصير القامة يتحرج إذا ماساير من هم أطول منه , ويحرص على أن يكون بعيداً عنهم إذا ما جمعته بهم المناسبات حتى لا يفتضح أمره وتشيع بين الناس صفته. وأخبر القارئ بأنه: كان يعاني من خلل في جهازه النطقي أورثه عيباً ملازماً عند الجهر بحرف (الراء)، إذ يلثغ بها قريباً من لثغة واصل بن عطاء المشهورة -كما يقول- وقد جاء ذلك في معرض حديثه بنعمة اللَّه عليه أن هداه إلى تَعَلُّم القرآن وإتقان تلاوته وتجويده. ولكنّه لم يغفل هذا العيب فيه، حتى لا يرسم للقارئ صورة غير صحيحة عن إجادته للتلاوة وإتقانه لها.
ومن اعترافاته التي تمس الجانب النفسي والأخلاقي من شخصيته: وصفه لذاته بطول اللسان، وسرعة الإجابة لداعي الهجاء، فكما يُحيِّي من يُحييه يَشْتم من يشتمه، لأنه قادر على المهاجاة، وكيف لا يكون كذلك وقد حفظ نصف ما قالته الشعراء في فن الهجاء. ويُرجع قدرته على الجمع بين الوظيفة والتدريس والدِّراسة في وقت واحد -مع أنه مخالفة صريحة للنظام- إلى خوف المسئولين في الشام من حدّة قلمه وطول لسانه.
واعترف بأن الغرور قد عرف طريقه إلى نفسه في فترة من فترات حياته، وكيف لا يصيب الغرور -كما يقول- شابّاً صار له اسم في البلد، وزعامة في الشباب، ووزن في الأدب، وهو لم يجاوز الرابعة والعشرين؟!.
ويذكر -أيضاً- أنه كان يحتال على أساتذته في كلية الحقوق ليحصل على إشارة الحضور (الميم) بالمديح والمجاملة تارة وبالتهديد تارة أخرى، ويستغفر اللَّه من هذا الذي كان. وكان أثناء إقامته في مصر وإشرافه على مجلة (الرسالة) بأمر من أستاذه الزيات يعقد ما يشبه المنتديات الأدبية في دار (الرسالة)، ويعترف للقارئ بأنه كثيراً ما كان يخلق المناوشات الفكرية والأدبية بين الحضور، واعترف في مواضع عدّة بالخوف الشديد.
أما في الجانب الاجتماعي: فيذكر أنه رجل معتزل لا يزور أحداً ولا يزار إلا من خاصة أهله وأصدقائه، وأنه لا يجيب دعوات الداعين إلى الطعام أو المناسبات ويسوّغ ذلك بأنه ليس مخالفة عن سنّة الرسول..، ولكنه فعل ذلك لمناسبته لحاله، والاستعانة به على إنجاز أعماله، وحفظ وقته، ولو أنه أجاب كل دعوة واستقبل كل قادم، وودّع كل مسافر، وهنّأَ كل مسرور، وعزّى كل مصاب، لما كتب شيئاً ولا خطب ولا حاضر، ولا وجد وقْتَاً للمطالعة والمراجعة.. ويستغفر اللَّه من ذلك. وفي المقابل يذكر عن نفسه أنه لا يفتح باب داره لكل طارق.
ويعترف في الجانب العلمي والأدبي من شخصيته بأنه: كثير التسويف في إنجاز أعماله ومشاريعه، يؤخر كل عمل إلى آخر وقته ثم يقوم مسرعاً يعدو كالمجنون. وقد ترك الحكمة العربية الصحيحة: (لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد)، وأخذ الكلمة الحمقاء للكاتب أوسكار وايلد: (لا تؤخر إلى غد ما تستطيع عمله بعد غد). ويرى أن التسويف قد ضيع عليه خيراً كثيراً في الدنيا.
ومن ذلك اعترافه بأن الفلسفة قد جَدّدت فكره ووسَّعت أُفقه، وأثّرت في تكوينه المعرفي والعقلي والنفسي أثراً لا يمحى، ولكنها كادت تفتنه عن الحق والدين.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved