الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

الموسيقى وعذابات الحقائق في (الإرهابي 20) لعبدالله ثابت «2»
*أحمد علي الصغير:
كانوا يدورون بالناس يعظونهم ويأخذون تأييدهم، محتجين على الفساد الأخلاقي برأيهم، الذي تبدت مظاهره في أغنيات التلفزيون والنساء الظاهرات به، وغير ذلك) ص32، لكن زاهي نفسه لم يصل إلى التعلق والاقتناع بالموسيقى لدرجة أن يدافع عنها إلا بعد تحولات كبيرة بدأت معه حين كان طفلا بالمدرسة القرآنية (وتعلمت كلماتهم ودعواتهم لكنني كنت كائنا آخر في داخلي، أحب الأغنيات والصور والرسم واللعب، ولا أستطيعها ولا أتمكن منها) ص 58، ثم لما انخرط مع الجماعة الإرهابية التي كانت تطمح لتأسيس دولة إسلامية على طريقتها، وتحتاج لهذا التأسيس لشباب يؤمنون بفساد المجتمع وانحلاله الانحلال الكلي، حتى يعيدوا للإسلام أرضه المسلوبة ويأخذوا هذه البلد من يدي الدولة الكافرة بنظرهم، التي انسلخت هي وشعبها من الإسلام وأصبح من الواجب التبرؤ منهم، والإيمان بكفرهم، كان على رأس القائمة من الأدلة على تفشي الكفر والفساد الغناء والموسيقى، وحلق اللحى وسواها من الأعمال التي ترددت ليس لعظمها بل إنها - وإن جزمنا بحرمة إحداها - كانت محط التركيز لتكررها، وبالتالي حين يراها من يغرر به يوقن أنه لابد أن ينتشل الناس من هذا الكفر وبالأحرى يحاربه بأي طريقة، ليس حبا في المجتمع بل خوفا على نفسه من العقاب، لأن الله سيحاسبه حسابا عسيرا، وهكذا كان زاهي ورفاقه الشباب الذين لم يمض على التزامهم فترة طويلة حتى بدأوا يجوبون شوارع المدينة ليأمروا بالمعروف ولينهوا عن المنكر، دون أن تكون لهم أي نسبة وظيفية إلى جهاز أمني تابع للدولة، وإنما متطوعون أبرز قضاياهم التي يتابعونها الاستماع للموسيقى، وشرب السجائر، والأكشاك التي تتيح للزبائن متابعة التلفاز، والمحال التي تبيع المجلات، وهم يذكرون الفاسق - المنصوح بالنار والموت، فإن لم يبد تجاوبا صبوا جام الدعوات على رأسه، وأحيانا تأخذهم الحمية لأبعد فيوسعونه ضربا، بعدها شارك زاهي الشرطة الدينية متطوعا ولأول مرة يشعر أن هناك خطأ ما قد فعلوه هو وإياهم، بعد أن أحضر أحدهم للمركز شابا عشرينيا، وبدأوا التحقيق معه، وكانت جريرته أن استمع للغناء بصوت عال، وبعد سجنه بأحد الحمامات رق قلب زاهي له وتولى إخراجه وأعاد إليه أغراضه التي تحفظوا عليها، وطلب إليه أن يسامحه، يسامحه هو على الأقل، وبدأ لحظتها يتساءل عما يفعله باسم الدين، بيد أن تأثره واعتقاده أنه ينطبق على ذل الشاب إعزاز الله لمن يشاء وإذلاله لمن يشاء - في تفسير ساذج للمشيئة - فوتا عليه فرصة أن يبصر الطريق، ليستمر في تطرفه حتى تدب الخلافات بينه وبين جماعته التي ينتسب إليها والتي كانت لحسن حظه تزيد يوما بعد يوم، منذ أن اتهموه تهمة أخلاقية كبيرة، وحتى انقطعت علاقته كليا بهم بعد أن استدرجوه لمكان بعيد وضربوه، وقد مثل ابتعاده المتدرج عنهم فرصة أكبر له ليراجع نفسه، وليفسح لعقله المجال ليقرر مصيره بنفسه بعد أن قرأ واطلع بعيدا عن رقابتهم المتشددة على عقله (قرأت فقه السنة) لسيد سابق، و(الحلال والحرام في الإسلام) ليوسف القرضاوي، واطلعت على فقه ابن حزم والشوكاني.. وغيرهم وصدمت حين اكتشفت أن الموسيقى، التي حرمتها على نفسي كل هذه السنين، جمال يستحيل أن يحرمه الإسلام.. ص 138 ومثل هذا بداية صداقة جديدة مع الموسيقى والغناء كانت تزيد على استحياء؛ لأنه لم يستطع التخلص تماما من ماضيه، فأيامه الخالية لم يذهب أثرها من قلبه بل بقي ولو على شكل شك فيما يفعله الآن، إذ ليس بالسهل أن يقتنع شخص تعود أن يخفي نفسه حتى في الظلام أن يخرج نهارا، وربما كان سبب هذا الاستحياء الخوف من المجتمع الذي عرفه بهيئة يستهجن منها كثيرا أن تقدم على سماع الموسيقى).. ثم كسر الحاجز على أرض الواقع حين سهرت بإحدى الليالي مع بعض أصدقائي بالجامعة وبرفقتنا أغنية عبدالحليم حافظ (زي الهوى) فسمعتها كاملة، وغنيتها مع عبدالحليم، ومن يومي الثاني اشتريت الشريط، واقتنيت معه بعض الأشرطة الأخرى، وصارت كل أجوائي بعد تلك الليلة موسيقية ما أمكن، مهووسا بأم كلثوم وفيروز، وطلال مداح، ومحمد عبده، وكاظم الساهر....) ص144 وهنا يدخل منعطفاً جديدا هو الأصعب في مرحلته القادمة، فبعد أن كان يعتبر استماع الموسيقى جريمة لا تغتفر، مال إليها، ثم أعلن هذا الحب الذي مهده له بحثه الدائم عن حقيقة الموسيقى، عن الأقوال التي تحلل الموسيقى ليستمع إليها مطمئنا، فكتب بناء على قناعته مقالة أورد فيها نقولات عن أفلاطون والشافعي، وابن رشد وغيرهم عن أثر الموسيقى وترقيها للطبع وتهذيبها للنفس، وتعجب كيف يحرمها بعض المتأخرين ويصفونها بالشر، وكأني به لا يريد لنفسه أن تقتنع فقط بذلك وإنما يريد للمجتمع كله أن تصله تلك القناعة وهذه سمة أساسية في شخصيته فكما أنه ذات يوم أخلص تماما للتطرف، وقف ضده بكل ما لديه بعد أن اكتشف خطأه، كذلك فبعد أن كان يؤمن بأن في الموسيقى الشر والضلال، تفحص نظرته - بعد أن أصبح يفكر- ليرى أن الحياة بدونها فوضى عارمة ولابد أن يسمع الجميع وجهة نظره تلك، كما قال في تلك المقالة التي أكملها بجرأة لم يكن يتوقع أن يكون لها هذا التأثير الضخم عليه حين طالب وزارة التربية أن تدخل الموسيقى للمدارس كمادة تثقيفية، فدفع ثمن تلك المقالة باهظا جدا، بدأ بخسارة أسرية واجتماعية كبيرة اعتبرها انتحارا اجتماعيا، فوالده أوشك على أن يتبرأ منه، وكبار المشايخ توافدوا على بيته ما بين ناصح ومهدد، ثم كاد لولا تدخلات أمير المنطقة - الذي شكا له الإقصاء الذي مارسوه بحقه فأنصفه وأمر بإعادته رئيسا لأحد أقسام الإدارة- كاد أن يستمع للموسيقى وهو يشق الطرق الصعبة لوحدة بعد أن تم نفي عمله لمكان بعيد جدا كتأديب له من مرؤوسيه على مقالته تلك، وبسبب المقالة بقي اسمه على المنتديات يلعن ويكفر ويشتم، وبقي المسدس يرافقه في كل خروج لشهرين. وعاش تلك الفترة العصيبة بقلق استطاع أن يختزله في جملة واحدة..
أستمعهم ساكتا وكل خوف الدنيا في صدري.. ص 174 لكن سكوته لم يعن توقفه بل استمر في كتاباته، خاصة عن الموسيقى حيث يورد مقالا كاملا من المقالات التي كان يكتبها في صفحة الرأي في جريد الوطن (عندليب بازل وخمسة قرون من السخرية)، انه يستمر في تبني رؤيته حول الموسيقى، ويتبنى حبه لها لدرجة أن يقول (وما هو الجمال إذا لم يكن الموسيقى والغناء) ص 143، لكنه واقع في مجتمع جزء منه لا يريد الحديث عنها وإن تسربت في أسوأ الظروف فليكن خفية، وجزء ثان تائه لا يفهم معنى أن يستمع الإنسان إلى الموسيقى الهادئة لجهله بها، لا يعرف معنى أن يهيم بنفسه مع الموسيقى مدينة جدة، الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، خرجت من منزلي إلى البحر..
أوقفت سيارتي بمواجهة الشاطئ، وأججت الصوت: (أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي، فمنذ رحتي وعندي عقدة المطر) فما كان من الشباب المشردين الذين يمرون به إلا أن أزعجوه بأبواق سيارتهم، وسخروا منه (ياهووه، يا رومانسي، لا تبكي يا عيني) (اسمع، غدا لا تأت إلا بولي أمرك..) ص 221، وتراوده تلك اللحظة فكرة مجنونة، يفكر بخلع ملابسه كلها واللحاق بهم، متسائلا لماذا يخافون من العري؟ (هل يخاف الناس من كل شخص يفجؤهم بحقيقتهم؟) ثم يتصور المشهد وهو يجري خلفهم قائلاً: (إني مثلكم لكن بدون أغطية....وأنكم كلكم هكذا مثلي الآن في حقيقتكم، هيا اخلعوا ملابسكم وانظروا لأجسادكم، كما أنا الآن عاريا تماما) وهم يفرون صارخين (مجنون..مجنون) ص221 .
إنهم يعيشون حسب رؤيته حياة زائفة، حياة لم يجربوا للحظة التدقيق فيها قانعين بما هم فيه لأنهم (مرعبون، ومستلبون وضائعون ومزيفون وغائبون عن الوعي. يمكن كسرهم بمجرد جلسة غريبة سقف سيارة) ص222 وهذا يشكل خطورة كبيرة عليهم فهذه الهشاشة قد تنسرب بهم إلى مسالك خطيرة، وإن مسألة توعيتهم تحتاج لصدمة كبيرة ليفيقوا، كما أفاق المجتمع ذات لحظة على خطر التشدد والسوداوية بصدمة كبرى - أحداث الإرهاب - التي هزت كيانه كله. إن زاهي يرى أن تجربته السابقة مع التطرف كشفت له الكثير من الحقائق، كان أولها أن الوصول إلى الحقيقة يكون بصدمة كراثية حين لا يهتم الإنسان لقضاياه، ولا يفكر فيها بعمق، ولا ينقدها بصدق. إن الموسيقى في حكاية زاهي أنموذج لقلق الحقيقة في ذات الإنسان، وعذاباته هو حين يسير إليها ويقتنع بها ويريد أن يقول لكل الناس دون استثناء قناعته، إنها الوجه الجديد لذلك الإرهابي الذي كان يطرب لصوت القنابل والرصاص، الذي أدبر عن الحياة من باب القبح، يقبل الآن عليها من باب الجمال الذي يراه، ويريد منه أن يحارب التطرف والإرهاب ويقول لكل الذين وقفوا ضده لا سيما بعد التفجيرات التي وقعت في أمريكا..
ما أنتم قائلون لي بعد أن أطريتموهم على كل ما بدواخلهم من الفظاعة وآذيتموني بكل ما تعرفونه لأني حملت إليكم الموسيقى والأغنيات، والحب، والحياة)ص169 لقد كانت تلك الأحداث العالمية انتصارا مر الطعم بالنسبة إليه تضاعفت مرارته بعد التفجيرات المؤلمة التي وقعت في السعودية لتجعله يؤمن تماما بنقاء صوته، وصدق ما كان يدعو إليه في مقالاته ومواقفه التي تبناها وكان من أهمها التوازي الذي رآه بين الحياة والموسيقى والجمال، والتي قابلها البعض بعنف ولحقه بسببها الأذى الكبير، ويبوح بالمعادلة الصعبة التي حاول تحقيقها في مناقشة كل القضايا وهتك تفاصيلها بوضوح وشفافية، متحملا كل الأعباء من أجل أرواح القتلى العاتبين، والإنسان النقي، ونبضه الجديد (الوطن)، هؤلاء الذين أهديت إليهم الرواية المكتوبة بلغة شعرية فاتنة، أراد مضغ أكبر قدر من الحقائق التي تعتلج في ذاته، ويبدو ذلك جلياً من الملاحق التي جاءت في شكل اعترافات وأشياء أخرى.
إن ثابت بهذا العمل يقدم دليلاً على مقدار الضرر الذي سيحدث للصور حين لا تقع على مركز الشبكية تماماً، لكنني أتساءل بعد قراءة هذا الصراع: هل يتجاوز مجتمعنا هذه المرحلة؟ أتساءل عن ذلك بعمق وأنا أرى الحراكين الثقافي والاجتماعي يفقدان توازنهما بعد صدور رواية تتحدث عن أربع فتيات، هل يمكن أن يحدث كل هذا أو بعضه في مجتمعنا؟ هل يمثل قول نعم صدمة حضارية لنا؟ كيف هو التعامل الأسلم مع الواقع،المثال، حتى لا يصيبنا فصام في البنية الاجتماعية.
.......................................................انتهت


alsager85@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved