الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

مأساة الليبرالية الجديدة (2)

*فاضل الربيعي:
عندما كان الزهاوي يكتب في الأستانة قصيدته الشهيرة ولاء الإنجليز عام 1896 والتي ضمنها رهانه الإصلاحي الشخصي على الغرب، ومن دون أدنى تحفظ أو نقد، مثلما ضمَّنها دعوته الصريحة لاستسلام العرب والأتراك للقدر الأوروبي الذي كانت أطيافه تحوم من حول المنطقة، كان الكوكبي 1854-1902 يثير من حلب بعد نحو عامين فقط من قصيدة الزهاوي ذائعة الصيت هذه، وتحديداً في عام 1899 عاصفة من الجدل حول أفكاره التنويرية الجريئة، ويوجه نقداً لاذعاً للسلطنة العثمانية، ثم يغادر حلب إلى مصر نهائياً بعد تجربة قصيرة مع السجن. في هذا الوقت كان العراقيون لا يزالون أقل جرأة من زملائهم السوريين والمصريين على ابتكار أفكارهم التنويرية الخاصة.
إن النقد الأهم الذي وجهته النخب الفكرية العربية التنويرية للسلطنة العثمانية، منذ عصر الأنوار أو ما يعرف بعصر النهضة في القرن التاسع عشر، ومن حيث محتواه المباشر ووضوحه وقيمه الفكرية، التي تخص في الصميم مشكلات الديمقراطية والعقد الاجتماعي والإصلاح الديني والأخلاق والحريات العامة، أو مسائل التمدين الاجتماعي والتقدم واللحاق بركب المدنيات الحديثة، هو الذي قدمه الكواكبي في مساهمته الفكرية الكبرى (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ثم في (أم القرى) وسواها من الكتابات.
في الوقت نفسه تقريباً كان فرنسيس مراش يسجل من حلب، (حوار العقل والحق) منبهاً إلى حقيقة أنه وإنْ كان يرى في الغرب العظيم رمزاً للعقل، فإنه يظل قادراً على رؤية فاتح جبار ومتوحش، وقد تجلبب في جلباب المدنية.
الفارق الجوهري بين خطاب الكواكبي والخطاب السائد في العراق والعالم العربي في هذه الآونة من تطور الحركة الإصلاحية، ربما باستثناء حلقات حلب التي تميّزت بجلاء، بأنها لعبت على الأرجح دوراً منتظماً في نشر وتقديم فهم مبكر لعميق للمواضيع المثارة، يكمن في أن الكواكبي انعطف انعطافة كبرى من المرجعية التراثية - الإسلامية إلى المرجعية المستوحاة من الفكر الحديث الليبرالي والديمقراطي الإصلاحي. ولكن من دون قطع مع مرجعيته العربية الإسلامية.
فيما بدا أن الآخرين استلهموا من الاستشراق استنباطاته واستنتاجاته، وتشبعوا بمنظومة قيمه إلى الدرجة التي أظهرتهم في صورة المثقف المنبهر والمسحور، والذي لم يعد قادراً على رؤية أي شيء نافع في التراث والتاريخ الوطنيين.
وفي هذه الانعطافة، وبفضل سيلها الجارف، سلط الكواكبي نقده على السلطة المطلقة وحددها كمصدر للشرور الاجتماعية، واقترح إصلاحاً شديد التوافق والقابلية، شرط أن يتوطّن كمطالب داخلية وطنية تقطع مع الرهان على الغرب.
وهو رهان تجلّى بصوره المتطرفة في كثرة من الأعمال والنشاطات الأدبية العراقية، التي اتسمت بالجزع الشديد من استبداد الأتراك العثمانيين.
ولكن وحتى في تشنيعه على الأتراك وتنديده بهم، وهو أمر أثار عند دارسيه شيئاً من الالتباس (فاعتقدوا خطأ أنه كان ينطلق من منظومة الخطاب القومي العربية الصاعدة في هذه الآونة بشكل متصادم وعدائي مع العثمانيين) فإن الكواكبي أظهر بوضوح كافٍ قدرته على إعلان انحيازه، وحتى تحالفه مع أتراك متنورين ضد أتراك استبداديين، وفي الآن نفسه أظهر قدرة فذّة على رؤية الغرب على حقيقته دخل الفرنساويون الجزائر منذ سبعين عاماً ولم يسمحوا بجريدة واحدة تقرأ.
إنه غرب لصوصي ومادي والغرب مهما مكث في الشرق لا يخرج عن أنه تاجر وهو إلى هذا كله غرب لا دين له غير الكسب فيما تظاهرُه مع بعضنا بالإخاء الديني إلا مخادعة وكذباً.
هكذا كتب الكواكبي بينما كان الليبراليون في العراق يواصلون نشر أوهامهم عن الغرب. كان التحالف مع التنويريين السمة الغالبة والطاغية تقريباً، في تفكير معظم ممثلي النخبة الإصلاحية في العراق وسوريا وصولاً إلى إيران.
ولم يكن بوسع النخب الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي، بطبيعة الحال، تخطي مسألة التحالف الفكري أو تأييد الحركة الإصلاحية التي بزغت من قلب الإمبراطورية المريضة.
لقد كانت ترمي بكل ظلالها الوارفة على شعوب السلطنة. بيد أن الانبهار بالغرب كما عند فرنسيس مراش في رحلة باريس 1867، لم يكن ليمنعه، تالياً من أن يرى في (العرب والإفرنج) أن الغرب ليس سوى لص استعماري.
وكما ارتأى جمال باروت فقد بدا مراش في أحيانٍ كثيرة وكأنه يعارض الشرق بالغرب ويتلمس أهمية الرابطة الشرقية في مواجهة التوسع الغربي.
أنه لص وطاغوت ولا صديق له ولا وفاء ولا عهد ولا ذمم له وأن الغرب لم يمد مساعدته للبلاد العثمانية إلا بهدف نهبها، ولا يمد يداً للغوث إلا بهدف السلب والنهب.
هذا النقد اللاذع للغرب كان من شأنه أن يشكِّل في فكر الحلقات التنويرية في حلب - التي درسها باروت - صورة موازية وشديدة النمطية، لصورة الشرق كما استنبطها المستشرقون، ولكنه من جانب ثانٍ يكشف عن أن هؤلاء لم يكونوا ليقايضوا إيمانهم بضرورة الإصلاح بنوع من الاستسلام لسحر الغرب.
وعلى العكس من ذلك كانت هناك قدرة عالية على التمييز بين الغرب اللصوصي الاستعماري من جهة، وإمكانيات استيعاب الغرب العقلاني بفتوحاته العلمية الجبارة وتشريعاته الاجتماعية.
هذا الغرب العظيم تراءى في مرآة الشرق مع ذلك، أقل مهابة ونفوذاً في الجانب الأخلاقي من صورته التي بهرت الأبصار، وكان يمكن لعدد متزايد من التنويريين ودعاة الإصلاح الذين يشتعلون غيظاً من أوضاع السلطنة العثمانية، أن يروا في هذا الجانب غير الساطع من صورة الغرب المكتشف، دليلاً كافياً للتريث في الاستسلام أمام إغراء الرهان على مساعدته المتوقَّعة، وأن ينقلوا، من دون أن يتركوا شيئا خافياً على أسماع جمهورهم أو أن يتورطوا في خداعه بالحماسات غير المتبصِّرة، كل ما أمكن لهم تخيله ورؤيته في آن واحد من ذلك الخليط الفظيع، الذي ميَّز الغرب في هذه اللحظة من التاريخ، فهو غرب متوحش بمقدار ما يبدو غرباً عقلانياً.
وهو مخادع ومراءٍ بمقدار ما يبدي من امتعاض إزاء الأوضاع المزرية في البلدان المتخلفة. كان حضور الغرب كاملاً لا تنقصه، على الأقل، سوى تلك التفاصيل الفلسفية المحيّرة في الحوار المتخيّل بين العقل والحق تماماً كما سطَّرها قلم فرنسيس مراش.
أن تاريخ الأفكار هو في خاتمة المطاف، تاريخ ابتكار وتنويع متواصل وغير منقطع. ولا يكاد يوجد مفكر واحد في أي عصر، ابتكر فكراً متكاملاً من دون تواصل أو تنويع على أفكار مفكرين سابقين عليه أو معاصرين له. لقد أحدثت روح الاستشراق القديم، نوعاً من الخلخلة في النظرات السائدة للثقافة العربية القديمة وللمجتمع.
وكانت من القوة والنفوذ بحيث أنها انتقلت تلقائياً، في هذا الوقت، بتقنيات البحث الحديثة والكشوف الساطعة وقوة الاستقصاء الذي تملكه، من حقل الدراسات والبحوث حول التاريخ العربي القديم، التراثي ثم الإسلامي- وحيث أعاد المستشرقون اكتشاف التراث العربي، وقدموا معالجات اتسمت في الغالب الأعم بقدر فاضح من التعسف، وكذلك بقدر من التأويل المتسرع للكثير من الظاهرات الاجتماعية والأدبية، ولكن بفتوحات وكشوفات هائلة أيضاً - إلى حقل الفكر الاجتماعي والسياسي، وإلى الدرجة التي بدا فيها الاستشراق نفسه وكأنه بات أكثر تماساً واحتكاكاً بحساسيات المجتمع العربي الثقافية والروحية، وأكثر تحدياً لمنظوماته التقليدية والأخلاقية.
لم تكن هيمنة الاستشراق تعبيراً عن ضعف الثقافة العربية في مواجهة ثقافة الآخر، بمقدار ما كانت تعبيراً بوسائل ثقافية عن هيمنة عالم جديد على العرب والمسلمين، وهيمنة عصر فاجأهم وباغتهم بتحديات كبرى هي مزيج من المعارف المتقدمة والتقنيات والأطماع والنزعات الكولنيالية.
وهذا ما تنبه إليه الكواكبي مبكراً في نص نادر وغير معروف (صفحات ضائعة من كتاب طبائع الاستبداد عثر عليها باروت) حين لاحظ أن قوة الغرب تكمن في قوة ذلك المزيج من الكشوف العلمية والاجتماعية على حد سواء: وكأني بسائلكم يسألني تاريخ التغالب بين الشرق والغرب، فأجيب بأنا كنا أرقى من الغرب علماً فنظاماً فقوة، فكنا له أسياداً.
ثم جاء حين من الدهر لحق بنا الغرب فصارت مزاحمة الحياة بيننا سجالاً.
إنْ فقناه شجاعة فاقنا عدداً، وإنْ فقناه ثروة فاقنا باجتماع كلمته ثم جاء الزمن الأخير ترقى فيه الغرب علماً فنظاماً فقوة وانضم إلى ذلك أولاً : قوة اجتماعه شعوباً كثيرة، ثانياً قوة البارود، حيث أبطل الشجاعة وجعل العبرة للعدد، وثالثاً قوة كشفه أسرار الكيمياء والميكانيك، ورابعاً قوة الفحم الذي أهدته الطبيعة، خامساً قوة النشاط بكسره قيود الاستبداد.
في هذا النص الساطع في أفكاره وتساؤلاته الدقيقة، يربط الكواكبي بين تقدم الغرب التقني وقوته العسكرية وأطماعه، وبين نجاحه في كسر قيود الاستبداد، أي نجاحه في النهاية في بناء مجتمع ديمقراطي تم استكماله بسلسلة من القوانين الناظمة لحياة سياسية ليبرالية فاعلة.
الحلقة الخامسة في تقدم الغرب , إذن وهي التي تنبه إليها الكواكبي ورأى فيها ميدان عمله الفكري تكمن في كسر الاستبداد. لم تكن الأفكار التي عبر عنها دعاة النهضة والتنوير والإصلاح وحدها، ومن دون قوة النشاط لكسر الاستبداد على الأرض والانتظام في حلقات سرية لمقاومة السلطة الاستبدادية، بقادرة على إنجاز وتحقيق أحلام التحديث.
كما لم يكن بالوسع، في ظل التقلص والتلاشي التدريجي لفرص التفاهم مع الإصلاحيين العرب على حدود الإصلاح وأشكال تطبيقه، تفادي طرح المطالب أو الدفاع عنها حتى وإنْ بدت رجع صدى للاستشراق (أو أن تبدو في منحى آخر وكأنها الصدى المفزع لمطالب الغرب نفسه من العثمانيين وقد تردد في أرجاء سلطنتهم). وهذا حقيقي تماماً بالأمس كما هو حقيقي اليوم، فسلوك السلطة والنخب التقليدية والمحافظة ورجال الدين وشكل وطبيعة تفاعلهم مع فكرة التحديث، كان يقدم عملياً أكبر عون للنظرات الاستشراقية، التي رأت في المجتمع العربي الإسلامي كمجتمع سكوني معاند للإصلاح ومقاوم له غريزياً.
اليوم ومع ترسخ بنى ما بعد الاستشراق في عالم عربي بات نهباً ومرتعاً للأطماع والتدخلات المكشوفة من جانب الغرب، تصبح المطالب القديمة التي يتصدى لها جيل جديد من الإصلاحيين العرب، والمثيرة لفزع النخب الحاكمة والجماعات التقليدية والمحافظة في المجتمع، وكأنها استطراد في التدخل السافر والقديم للغرب، وليس استطراداً في المشكلات التي تمنّع المجتمع من قبل عن مواجهتها، أو أُحبطت آماله في إنجاز حلول حقيقة لها.
اليوم يتوجب الاعتراف بأن النخب الحداثية (الليبرالية والإصلاحية الجديدة) تفتقد إلى الأدوات والوسائل الفكرية والعملية للبرهنة على أن مطالبها ليست تماماً وبالضبط رجع صدى للضغوط الغربية على العرب، وأنها ليست مرتبطة بالمشروع الأمريكي تحديداً وليست من أدواته، وأنها شيء منفصل في رؤاه ومطالبه، عن رؤى الغرب ومطالبه ومطامعه. ولأن النخب تفتقد لمثل هذه الوسائل الفكرية والثقافية، فقد وجدت نفسها اليوم كما بالأمس أمام الاتهام القديم ذاته، فهي إما ماسونية (بالأمس كان الأفغاني متهماً بها) أو (مرتبطة بالأمريكيين كما هو الحال مع قضية سعد الدين إبراهيم الليبرالي المصري وهي تهمة لا معنى لها). ولكن وبصرف النظر عن الاتهامات الجارحة التي جوبه بها دعاة الإصلاح الأوائل كما هو الحال مثلاً مع جمال الدين الأفغاني، الذي اتهم بالماسونية والكفر، فإن فشل وإخفاق هؤلاء في تبديد المخاوف الشعبية عند الأغلبية من السكان، والتي كانت تتغذى من تحذيرات ونقد رجال الدين والنخب المحافظة والتقليدية (وهذه جرى استغلالها على نطاق واسع في ادعاء وجود رابطة من نوع ما بين أفكار الإصلاح وأطماع الغرب) قد ساهم إلى حد بعيد في شيوع وتكريس سلسلة من الالتباسات في المفاهيم.
لقد سارع المثقفون التقليديون ورجال الدين لا إلى ترديد اتهامات قاسية بحق الإصلاحيين، وإنما إلى التذكير بأن دعاواهم تنطلق من المنظور الاستعماري نفسه.
إن الدعوة إلى الإصلاح الديني والتي طرحها دعاة الإصلاح في الماضي، وأثارت المخاوف عند المحافظين والتقليديين ورجال الدين بسبب تماثل منطلقاتها مع منطلقات ثورة الإصلاح الديني (البروتستانتية) ليست بعيدة الشبه عن الدعوة إلى الإصلاح الديني المثارة اليوم، والتي ولّدت ولا تزال تولّد في أوساط مختلفة من المجتمع ردّ فعل عميق الأثر.
كان السجال ولا يزال، حول الإصلاح والتحديث يدور بالفعل في نطاق الاستشراق القديم.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved